في محافظة القليوبية بدلتا النيل في مصر يتذكر السكان الأيام الخوالي حين كانت الأراضي الزراعية الخصبة على امتداد البصر دون أي عوائق. لكن العين تصطدم اليوم ببنايات غير مكتملة تبرز منها أعمدة من حديد تنبئ بمشكلة تتفاقم باطراد هي البناء المخالف للقانون في الأراضي الزراعية بمختلف أنحاء مصر. ولا تقف مشكلة البناء غير المرخص في مصر عند حد الإيذاء البصري بل تهدد خطط أكبر بلد مستورد للقمح في العالم لخفض فاتورة الواردات المكلفة وذلك بزيادة مساحة زراعة المحصول محليا. وتآكلت الأراضي الزراعية المحدودة على مدى عشرات السنين نتيجة النمو السكاني والزحف العمراني الخارج عن السيطرة لكن وتيرة البناء المخالف انطلقت مسرعة منذ عام 2011 حين أفضت الإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك في انتفاضة شعبية إلى فراغ أمني. وتشير تقديرات وزارة الزراعة إلى ضياع نحو 30 ألف فدان من الأرض الزراعية سنويا على مدى السنوات الثلاث الماضية في عمليات البناء المخالفة للقانون ارتفاعا من 10 آلاف فدان قبل الثورة. وفي مدينة قها بمحافظة القليوبية الواقعة على بعد 50 كيلومترا إلى الشمال من القاهرة يبني سكان منازل جديدة في أرض زراعية محيطة بالبلدة تزرع فيها محاصيل مثل القمح والذرة وبعض الفواكه. ورأي مزارعون مثل عمر محمود مرزوق (35 عاما) فرصة سانحة خلال الفراغ الأمني الذي أعقب الاطاحة بمبارك فبنى حظيرة للماشية بالطوب على جزء من أرضه ملحق بها بعض الغرف للمعيشة. ولم تتدخل الشرطة أو الإدارة المحلية لمنعه. ويخوض عمر الآن نزاعا قضائيا مع السلطات المحلية التي فرضت عليه غرامة مالية كبيرة لكنه يقول إنه يفكر في بناء منزل كبير لأسرته في الأرض حتى يتيح لأولاده الذكور الثلاثة مكانا يتزوجون ويقيمون فيه حين ينتهون من دراستهم. ولعمر أيضا بنت وحيدة. ويعيش عمر مرزوق وغيره من أهالي المنطقة على زراعة الأرض التي ورثوها عن الآباء لكن بعضهم ضجر من الزراعة لارتفاع كلفتها مقارنة بأي وقت سابق وتراجع عائداتها. وقال عمر وهو يتحدث وسط عيدان الأرز التي زرعها مؤخرا بعد حصاد القمح الشهر الماضي "الثورة اتكلمت عن كل الناس إلا الفلاحين ... والزراعة دلوقتي مش مساعداني." وأضاف أنه لا يمانع في التخلي عما تبقى من أرضه وقال "لو بسعر كويس هبيعها". تدفق من المدن تحدث الرئيس المصري الجديد عبد الفتاح السيسي عن التعديات على الأراضي الزراعية خلال حملته الانتخابية الشهر الماضي واقترح أن تتولى الدولة بناء مدن جديدة في الصحراء لتخفيف الضغط على الشريط المحدود من الأرض الزراعية على ضفتي نهر النيل وبمنطقة الدلتا شمالي العاصمة. والدلتا من أعلى مناطق الكثافة السكانية في مصر التي يقطنها 86 مليون نسمة وهي أيضا سلة الخبز في البلد. ولا يقتصر البناء على أصحاب الأراضي الزراعية فحسب بل إن بعض الأسر التي تعيش بالمدن التي استعرت فيها الأسعار تشتري أراضي زراعية لبناء منازل عليها بكلفة أقل كثيرا من ثمن شقة سكنية صغيرة بالمدينة. وعلى مقربة من حقل عمر مرزوق الذي فرغ الشهر الماضي من حصاد محصول القمح الذي كان مزروعا فيه تحولت إحدى المزارع إلى منطقة سكنية جديدة تضم عشرات المنازل المؤقتة المبنية بالطوب في دليل آخر على تدفق السكان من المدن إلى الأراضي الزراعية. وكان عبد اللطيف صابر (65 عاما) يعيش في شقة سكنية صغيرة بمدينة قها مع ثلاثة من أبنائه وزوجاتهم وأطفالهم قبل أن ينتقل إلى منزله الجديد المؤلف من أربع حجرات بالمنطقة التي كانت قبل عامين فقط مزرعة للفاكهة. وقال وهو يشير بفخر إلى حجرة بها ثلاثة أسرة ينام فيها 12 حفيدا له "ربنا أنعم علينا وادانا (منحنا) عيشة كاملة هنا." ويخشى صابر من أن يتعرض لغرامة من السلطات المحلية أو لخطر الإزالة لكنه قال إن أحدا لم يعترض طريقه منذ بناء المنزل قبل نحو ستة أشهر باستثناء تلقيه اخطارا من مجلس المدينة بتحرير مخالفة ضده والبدء في اجراءات نزاع قضائي. وقال عبد الكريم كمال بينما كان يرعى أرضه المزروعة بالذرة "فيه ناس ما عندهاش بيوت.. بيضطر يبني في الأرض الزراعية. حيروح فين؟ مفيش مساكن دلوقت والمساكن الموجودة قليلة." تفجير المباني المخالفة وكثفت السلطات في محافظات الدلتا جهودها في الآونة الأخيرة للتصدي لظاهرة المباني المخالفة لكنها تواجه صعوبة في مجاراة وتيرة البناء السريعة. وتظهر إلى الوجود مناطق سكنية جديدة بينما يعم الخراب مناطق جديدة أخرى. وذكر المهندس عبد المحسن العسيلي رئيس مجلس مدينة قها أن الحكومة تنفذ حملة لإزالة المباني المخالفة بنسفها بالديناميت أحيانا وبهدمها أحيانا أخرى. وكثفت الدولة هذه الحملة في الشهور القليلة الماضية. وقال العسيلي وهو أكبر مسؤول حكومي بالمدينة إن "كمية التحدي أيام الثورة فاقت الثلاثين سنة اللي حكمنا فيها حسني مبارك. كمية التعدي في السنتين ونصف دول فاقت التعديات في الثلاثين سنة نظراً للظروف اللي بتمر بها البلاد. عدم وجود شرطة.. عدم وجود أجهزة." وأضاف "لا بد أن يبقى فيه إجراء رادع للعملية دي.. بمعنى أن نغلظ العقوبة على البناء على الأرض الزراعية نقوم نحد من الظاهرة دي. لأن دلوقت تجار الأراضي بدأوا يشتروا الأراضي ويعملوا نظام سماسرة ويسوقوا الأرض بأعلى الأسعار." وطالب المزارعون والسكان الذين التقت بهم رويترز الحكومة بضرورة تفهم ظروف المضطرين مثلهم للبناء على الاراضي الزراعية وتمييزهم عن تجار وسماسرة الأراضي. وطالبوا بتطبيق القانون على هؤلاء "المستغلين". كما شكوا من تمييز في فرض المخالفات وتطبيق قرارات الإزالة لكن العسيلي رئيس مجلس المدينة ينفى ذلك. وليس من الواضح ما إذا كانت عمليات الازالة العلنية ومشاهد انقاض مباني مناطق بأكملها تردع الناس عن البناء المخالف لكن يقول خبراء إن عملية الازالة تلحق ضررا طويل الأمد بالأراضي وقد تصعب اعادة استصلاحها. وقال جمال صيام الاستاذ بكلية الزراعة بجامعة القاهرة إن خلال الفترة بين تهيئة الأراضي للبناء وبناء هياكل من الطوب والأسمنت وتدميرها لاحقا تفقد الأراضي الزراعية قيمتها. وأضاف أن اعادة استصلاحها صعب ويستغرق سنوات. ويرى صيام أن استمرار البناء في الأرض الزراعية بنفس المعدل لن يبقي أي مساحة للزراعة في مصر في غضون نحو 50 عاما.