عيار 21 يسجل الآن رقمًا جديدًا.. أسعار الذهب والسبائك اليوم الأحد 12 مايو بالصاغة    بعد انخفاضها.. أسعار الدواجن والبيض اليوم الأحد 12 مايو بالبورصة والأسواق    شهداء وجرحى في غارات إسرائيلية استهدفت جباليا ورفح بغزة (فيديو)    الهدنة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية قد تبدأ خلال ساعات بشرط وحيد    القنوات الناقلة لمباراة الزمالك ونهضة بركان اليوم في ذهاب نهائي الكونفدرالية الإفريقية    نشاط مكثف وحضور جماهيرى كبير فى الأوبرا    تثاءبت فظل فمها مفتوحًا.. شابة أمريكية تعرضت لحالة غريبة (فيديو)    مفاجأة صادمة.. سيخ الشاورما في الصيف قد يؤدي إلى إصابات بالتسمم    «آمنة»: خطة لرفع قدرات الصف الثانى من الموظفين الشباب    خبير تحكيمي يكشف مفاجأة بشأن قرار خطأ في مباراة الأهلي وبلدية المحلة    بطولة العالم للإسكواش 2024| تأهل 4 لاعبين مصريين للجولة الثالثة    طلاب الصف الثاني الثانوي بالجيزة يؤدون اليوم الامتحانات في 3 مواد    الحكومة: تعميق توطين الصناعة ورفع نسبة المكون المحلى    محمد رمضان وحكيم يغنيان فى حفل زفاف ابنة مصطفى كامل    من تل أبيب إلى واشنطن ولندن.. والعكس    البحرية المغربية تنقذ 59 شخصا حاولوا الهجرة بطريقة غير شرعية    ما التحديات والخطورة من زيادة الوزن والسمنة؟    عمرو أديب ل إسلام بحيري: الناس تثق في كلام إبراهيم عيسى أم محمد حسان؟    عاجل.. غليان في تل أبيب.. اشتباكات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين واعتقالات بالجملة    الآلاف يتظاهرون في مدريد دعما للفلسطينيين ورفضا للحرب في غزة    إسلام بحيري عن "زجاجة البيرة" في مؤتمر "تكوين": لا نلتفت للتفاهات    الصحة تعلق على قرار أسترازينيكا بسحب لقاحاتها من مصر    "الأوقاف" تكشف أسباب قرار منع تصوير الجنازات    يسرا: عادل إمام أسطورة فنية.. وأشعر وأنا معه كأنني احتضن العالم    تفاصيل صادمة.. يكتشف أن عروسته رجلاً بعد 12 يوماً من الزواج    "حشيش وترامادول".. النيابة تأمر بضبط عصام صاصا بعد ظهور نتائج التحليل    أبو مسلم: العلاقة بين كولر وبيرسي تاو وصلت لطريق مسدود    تفاصيل جلسة حسين لبيب مع لاعبي الزمالك قبل مواجهة نهضة بركان    تعرف على أسعار خراف عيد الأضحى 2024    "أشرب سوائل بكثرة" هيئة الأرصاد الجوية تحذر بشأن حالة الطقس غدا الأحد 12 مايو 2024    إصابة 7 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بمدينة 6 أكتوبر    أرخص السيارات العائلية في مصر 2024    رئيس بلدية رفح الفلسطينية يوجه رسالة للعالم    أحمد عبد المنعم شعبان صاحب اللقطة الذهبية في مباراة الأهلي وبلدية المحلة    ملف رياضة مصراوي.. مذكرة احتجاج الأهلي.. تصريحات مدرب الزمالك.. وفوز الأحمر المثير    وزير الشباب والرياضة يفتتح البيت الريفي وحمام سباحة بالمدينة الشبابية في الأقصر    يا مرحب بالعيد.. كم يوم باقي على عيد الاضحى 2024    أستاذ لغات وترجمة: إسرائيل تستخدم أفكارا مثلية خلال الرسوم المتحركة للأطفال    وزير الخارجية التونسي يُشيد بتوفر فرص حقيقية لإرساء شراكات جديدة مع العراق    خطأ هالة وهند.. إسلام بحيري: تصيد لا يؤثر فينا.. هل الحل نمشي وراء الغوغاء!    جهاز مدينة 6 أكتوبر ينفذ حملة إشغالات مكبرة بالحي السادس    اعرف سعره في السوق السوداء والبنوك الرسمية.. بكم الدولار اليوم؟    أطول عطلة رسمية.. عدد أيام إجازة عيد الاضحى 2024 ووقفة عرفات للموظفين في مصر    حبس سائق السيارة النقل المتسبب في حادث الطريق الدائري 4 أيام على ذمة التحقيقات    بعيداً عن شربها.. تعرف على استخدامات القهوة المختلفة    حظك اليوم برج العذراء الأحد 12-5-2024 مهنيا وعاطفيا    «التعليم» تعلن حاجتها لتعيين أكثر من 18 ألف معلم بجميع المحافظات (الشروط والمستندات المطلوبة)    4 قضايا تلاحق "مجدي شطة".. ومحاميه: جاري التصالح (فيديو)    علي الدين هلال: الحرب من أصعب القرارات وهي فكرة متأخرة نلجأ لها حال التهديد المباشر للأمن المصري    خلال تدشين كنيسة الرحاب.. البابا تواضروس يكرم هشام طلعت مصطفى    وزارة الأوقاف تقرر منع تصوير الجنازات داخل وخارج المساجد    تيسيرًا على الوافدين.. «الإسكندرية الأزهرية» تستحدث نظام الاستمارة الإلكترونية للطلاب    رمضان عبد المعز: لن يهلك مع الدعاء أحد والله لا يتخلى عن عباده    وزير ومحافظ و 2000 طالب في اختبار لياقة بدنية    الرقابة الإدارية تستقبل وفد مفتشية الحكومة الفيتنامية    رئيس"المهندسين" بالإسكندرية يشارك في افتتاح الملتقى الهندسي للأعمال والوظائف لعام 2024    نقيب الأطباء يشكر السيسي لرعايته حفل يوم الطبيب: وجه بتحسين أحوال الأطباء عدة مرات    ما حكمُ من مات غنيًّا ولم يؤدِّ فريضةَ الحج؟ الإفتاء تُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفسير سورة البقرة للإمام الطبري (من الأية 6 إلى الآية 16)
نشر في المشهد يوم 28 - 02 - 2014

{6} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِيمَنْ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَة , وَفِيمَنْ نَزَلَتْ , فَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول , كَمَا : 245 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أَيْ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبّك , وَإِنْ قَالُوا إنَّا قَدْ آمَنَّا بِمَا قَدْ جَاءَنَا مِنْ قَبْلك . وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة , نَزَلَتْ فِي الْيَهُود الَّذِينَ كَانُوا بِنَوَاحِي الْمَدِينَة عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْبِيخًا لَهُمْ فِي جُحُودهمْ نُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتَكْذِيبهمْ بِهِ , مَعَ عِلْمهمْ بِهِ وَمَعْرِفَتهمْ بِأَنَّهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ وَإِلَى النَّاس كَافَّة . 246 - وَحَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : أَنَّ صَدْر سُورَة الْبَقَرَة إلَى الْمِائَة مِنْهَا نَزَلَ فِي رِجَال سَمَّاهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَنْسَابهمْ مِنْ أَحْبَار الْيَهُود , وَمِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْأَوْس وَالْخَزْرَج . كَرِهْنَا تَطْوِيل الْكِتَاب بِذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس فِي تَأْوِيل ذَلِكَ قَوْل آخَر , وَهُوَ مَا : 247 - حَدَّثَنَا بِهِ الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرِص عَلَى أَنْ يُؤْمِن جَمِيع النَّاس , وَيُتَابِعُوهُ عَلَى الْهُدَى ; فَأَخْبَرَهُ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِن إلَّا مَنْ سَبَقَ مِنْ اللَّه السَّعَادَة فِي الذِّكْر الْأَوَّل , وَلَا يَضِلّ إلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنْ اللَّه الشَّقَاء فِي الذِّكْر الْأَوَّل . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 248 - حُدِّثْت بِهِ عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس , قَالَ : آيَتَانِ فِي قَادَة الْأَحْزَاب : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } إلَى قَوْله : { وَلَهُمْ عَذَاب عَظِيم } قَالَ : وَهُمْ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَة : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَة اللَّه كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمهمْ دَار الْبَوَار جَهَنَّم يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَار } 14 28 : 29 قَالَ : فَهُمْ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْم بَدْر . وَأَوْلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَات بِالْآيَةِ تَأْوِيل ابْن عَبَّاس الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد , عَنْ عِكْرِمَة أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْهُ ; وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ قَوْل مِمَّا قَالَهُ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَوْلهمْ فِي ذَلِكَ مَذْهَب . فَأَمَّا مَذْهَب مِنْ تَأَوَّلَ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ الرَّبِيع بْن أَنَس , فَهُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ قَوْم مِنْ أَهْل الْكُفْر بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ , وَأَنَّ الْإِنْذَار غَيْر نَافِعهمْ , ثُمَّ كَانَ مِنْ الْكُفَّار مَنْ قَدْ نَفَعَهُ اللَّه بِإِنْذَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ لِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَبِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه بَعْد نُزُول هَذِهِ السُّورَة ; لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُون الْآيَة نَزَلَتْ إلَّا فِي خَاصّ مِنْ الْكُفَّار . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَتْ قَادَة الْأَحْزَاب لَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَنْفَعهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِإِنْذَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ حَتَّى قَتَلَهُمْ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ يَوْم بَدْر , عُلِمَ أَنَّهُمْ مِمَّنْ عَنَى اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الْآيَة . وَأَمَّا عِلَّتنَا فِي اخْتِيَارنَا مَا اخْتَرْنَا مِنْ التَّأْوِيل فِي ذَلِكَ , فَهِيَ أَنَّ قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } عَقِيب خَبَر اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَاب , وَعَقِيب نَعْتهمْ وَصِفَتهمْ وَثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ بِإِيمَانِهِمْ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُله . فَأَوْلَى الْأُمُور بِحِكْمَةِ اللَّه أَنْ يُتْلَى ذَلِكَ الْخَبَر عَنْ كُفَّارهمْ وَنُعُوتهمْ وَذَمّ أَسِبَابهمْ وَأَحْوَالهمْ , وَإِظْهَار شَتْمهمْ وَالْبَرَاءَة مِنْهُمْ ; لِأَنَّ مُؤْمِنِيهِمْ وَمُشْرِكِيهِمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَحْوَاله بِاخْتِلَافِ أَدِيَانهمْ , فَإِنَّ الْجِنْس يَجْمَع جَمِيعهمْ بِأَنَّهُمْ بَنُو إسْرَائِيل . وَإِنَّمَا احْتَجَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِأَوَّلِ هَذِهِ السُّورَة لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْيَهُود مِنْ أَحْبَار بَنِي إسْرَائِيل الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عِلْمهمْ بِنُبُوَّتِهِ مُنْكَرِينَ نُبُوَّته بِإِظْهَارِ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانَتْ تُسِرّهُ الْأَحْبَار مِنْهُمْ وَتَكْتُمهُ فَيَجْهَلهُ عُظْمُ الْيَهُود وَتَعْلَمهُ الْأَحْبَار مِنْهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي أَطْلَعَهُ عَلَى عِلْم ذَلِكَ هُوَ الَّذِي أَنَزَلَ الْكِتَاب عَلَى مُوسَى , إذْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُور الَّتِي لَمْ يَكُنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَوْمه وَلَا عَشِيرَته يَعْلَمُونَهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ قَبْل نُزُول الْفُرْقَان عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَيُمْكِنهُمْ ادِّعَاء اللُّبْس فِي أَمْره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنَّهُ نَبِيّ , وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ فَمِنْ عِنْد اللَّه . وَأَنَّى يُمْكِنهُمْ ادِّعَاء اللُّبْس فِي صَدْق أُمِّيّ نَشَأَ بَيْن أُمِّيِّينَ لَا يَكْتُب , وَلَا يَقْرَأ , وَلَا يَحْسُب , فَيُقَال قَرَأَ الْكُتُب فَعَلِمَ أَوْ حَسِبَ فَنَجَّمَ , وَانْبَعَثَ عَلَى أَخْبَار قُرَّاء كُتُبه - قَدْ دَرَسُوا الْكُتُب وَرَأَسُوا الْأُمَم - يُخْبِرهُمْ عَنْ مَسْتُور عُيُوبهمْ , وَمَصُون عُلُومهمْ , وَمَكْتُوم أَخْبَارهمْ , وَخِفْيَات أُمُورهمْ الَّتِي جَهِلَهَا مَنْ هُوَ دُونهمْ مِنْ أَحْبَارهمْ ؟ ! إنَّ أَمْر مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لِغَيْرِ مُشْكِل , وَإِنَّ صِدْقه وَالْحَمْد لِلَّهِ لَبَيِّن . وَمِمَّا يُنْبِئ عَنْ صِحَّة مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الَّذِينَ عَنَى اللَّه تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } هُمْ أَحْبَار الْيَهُود الَّذِينَ قُتِلُوا عَلَى الْكُفْر وَمَاتُوا عَلَيْهِ اقْتِصَاص اللَّه تَعَالَى ذِكْره نَبَأَهُمْ وَتَذْكِيره إيَّاهُمْ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعُهُود وَالْمَوَاثِيق فِي أَمْر مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بَعْد اقْتِصَاصه تَعَالَى ذِكْره مَا اقْتَصَّ مِنْ أَمْر الْمُنَافِقِينَ وَاعْتِرَاضه بَيْن ذَلِكَ بِمَا اعْتَرَضَ بِهِ مِنْ الْخَبَر عَنْ إبْلِيس وَآدَم فِي قَوْله : { يَا بَنِي إسْرَائِيل اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيْكُمْ } 2 40 الْآيَات , وَاحْتِجَاجه لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِمْ بِمَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فِيهَا بَعْد جُحُودهمْ نُبُوَّته . فَإِذَا كَانَ الْخَبَر أَوَّلًا عَنْ مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَاب وَآخِرًا عَنْ مُشْرِكِيهِمْ , فَأَوْلَى أَنْ يَكُون وَسَطًا عَنْهُ , إذْ كَانَ الْكَلَام بَعْضه لِبَعْضٍ تَبَع , إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ دَلَالَة وَاضِحَة بِعُدُولِ بَعْض ذَلِكَ عَمَّا اُبْتُدِئَ بِهِ مِنْ مَعَانِيه , فَيَكُون مَعْرُوفًا حِينَئِذٍ انْصِرَافه عَنْهُ . وَأَمَّا مَعْنَى الْكُفْر فِي قَوْله : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } فَإِنَّهُ الْجُحُود . وَذَلِكَ أَنَّ الْأَحْبَار مِنْ يَهُود الْمَدِينَة جَحَدُوا نُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَتَرُوهُ عَنْ النَّاس وَكَتَمُوا أَمْره , وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ . وَأَصْل الْكُفْر عِنْد الْعَرَب تَغْطِيَة الشَّيْء , وَلِذَلِكَ سَمَّوْا اللَّيْل كَافِرًا لِتَغْطِيَةِ ظُلْمَته مَا لَبِسَتْهُ , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : فَتَذَّكَّرَا ثِقْلًا رَثِيدًا بَعْد مَا أَلْقَتْ ذُكَاء يَمِينهَا فِي كَافِر وَقَالَ لَبِيد بْن رَبِيعَة : فِي لَيْلَة كَفَرَ النُّجُوم غَمَامهَا يَعْنِي غَطَّاهَا . فَكَذَلِكَ الْأَحْبَار مِنْ الْيَهُود غَطَّوْا أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَمُوهُ النَّاس مَعَ عِلْمهمْ بِنُبُوَّتِهِ وَوُجُودهمْ صِفَته فِي كُتُبهمْ . فَقَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنَزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَات وَالْهُدَى مِنْ بَعْد مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَاب أُولَئِكَ يَلْعَنهُمْ اللَّه وَيَلْعَنهُمْ اللَّاعِنُونَ } 2 159 وَهُمْ الَّذِينَ أَنَزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

{6} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } وَتَأْوِيل " سَوَاء " : مُعْتَدِل , مَأْخُوذ مِنْ التَّسَاوِي , كَقَوْلِك : مُتَسَاوٍ هَذَانِ الْأَمْرَانِ عِنْدِي , وَهُمَا عِنْدِي سَوَاء ; أَيْ هُمَا مُتَعَادِلَانِ عِنْدِي . وَمِنْهُ قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء } 8 58 يَعْنِي أَعْلِمْهُمْ وَآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ حَتَّى يَسْتَوِي عِلْمك وَعِلْمهمْ بِمَا عَلَيْهِ كُلّ فَرِيق مِنْهُمْ لِلْفَرِيقِ الْآخَر . فَكَذَلِكَ قَوْله : { سَوَاء عَلَيْهِمْ } مُعْتَدِل عِنْدهمْ أَيْ الْأَمْرَيْنِ كَانَ مِنْك إلَيْهِمْ الْإِنْذَار أَمْ تَرْك الْإِنْذَار لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ , وَقَدْ خَتَمْت عَلَى قُلُوبهمْ وَسَمْعهمْ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل عُبَيْد اللَّه بْن قِيس الرُّقَيَّات : تُغِذّ بِي الشَّهْبَاء نَحْو ابْن جَعْفَر سَوَاء عَلَيْهَا لَيْلهَا وَنَهَارهَا يَعْنِي : بِذَلِكَ : مُعْتَدِل عِنْدهَا السَّيْر فِي اللَّيْل وَالنَّهَار , لِأَنَّهُ لَا فُتُور فِيهِ . وَمِنْهُ قَوْل الْآخَر : وَلَيْل يَقُول الْمَرْء مِنْ ظُلُمَاته سَوَاء صَحِيحَات الْعُيُون وُعُورهَا لِأَنَّ الصَّحِيح لَا يُبْصِر فِيهِ إلَّا بَصَرًا ضَعِيفًا مِنْ ظُلْمَته . وَأَمَّا قَوْله : { أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } فَإِنَّهُ ظَهَرَ بِهِ الْكَلَام ظُهُور الِاسْتِفْهَام وَهُوَ خَبَر ; لِأَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِع " أَيْ " , كَمَا تَقُول : لَا نُبَالِي أَقُمْت أَمْ قَعَدْت , وَأَنْت مُخْبِر لَا مُسْتَفْهِم لِوُقُوعِ ذَلِكَ مَوْقِع " أَيْ " , وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا قُلْت ذَلِكَ : مَا نُبَالِي أَيّ هَذَيْنِ كَانَ مِنْك , فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْله : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ } لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْكَلَام : سَوَاء عَلَيْهِمْ أَيْ هَذَيْنِ كَانَ مِنْك إلَيْهِمْ , حَسَن فِي مَوْضِعه مَعَ " سَوَاء " : أَفَعَلْت أَمْ لَمْ تَفْعَل . وَقَدْ كَانَ بَعْض نَحْوِيِّي أَهْل الْبَصْرَة يَزْعُم أَنَّ حَرْف الِاسْتِفْهَام إنَّمَا دَخَلَ مَعَ " سَوَاء " وَلَيْسَ بِاسْتِفْهَامِ , لِأَنَّ الْمُسْتَفْهِم إذَا اسْتَفْهَمَ غَيْره فَقَالَ : أَزَيْد عِنْدك أَمْ عَمْرو ؟ مُسْتَثْبِت صَاحِبه أَيّهمَا عِنْده , فَلَيْسَ أَحَدهمَا أَحَقّ بِالِاسْتِفْهَامِ مِنْ الْآخَر . فَلَمَّا كَانَ قَوْله : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ } بِمَعْنَى التَّسْوِيَة , أَشَبَه ذَلِكَ الِاسْتِفْهَام إذْ أَشَبَهه فِي التَّسْوِيَة , وَقَدْ بَيَّنَّا الصَّوَاب فِي ذَلِكَ . فَتَأْوِيل الْكَلَام إذًا : مُعْتَدِل يَا مُحَمَّد عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّتك مِنْ أَحْبَار يَهُود الْمَدِينَة بَعْد عِلْمهمْ بِهَا , وَكَتَمُوا بَيَان أَمْرك لِلنَّاسِ بِأَنَّك رَسُولِي إلَى خَلْقِي , وَقَدْ أَخَذْت عَلَيْهِمْ الْعَهْد وَالْمِيثَاق أَنْ لَا يَكْتُمُوا ذَلِكَ وَأَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ وَيُخْبِرُوهُمْ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ صِفَتك فِي كُتُبهمْ ; أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ إلَى الْحَقّ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِك وَبِمَا جِئْتهمْ بِهِ ; لِمَا : 249 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } أَيْ أَنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدهمْ مِنْ الْعِلْم مِنْ ذِكْر وَجَحَدُوا مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمِيثَاق لَك ; فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَك وَبِمَا عِنْدهمْ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ غَيْرك , فَكَيْف يَسْمَعُونَ مِنْك إنْذَارًا وَتَحْذِيرًا وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدهمْ مِنْ عِلْمك ؟

{7} خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ } وَأَصْل الْخَتَم : الطَّبْع , وَالْخَاتَم : هُوَ الطَّابِع , يُقَال مِنْهُ : خَتَمْت الْكِتَاب , إذَا طَبَعْته . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : وَكَيْفَ يُخْتَم عَلَى الْقُلُوب , وَإِنَّمَا الْخَتْم طَبْع عَلَى الْأَوْعِيَة لِمَا جُعِلَ فِيهَا مِنْ الْمَعَارِف بِالْأُمُورِ , فَمَعْنَى الْخَتْم عَلَيْهَا وَعَلَى الْأَسْمَاع الَّتِي بِهَا تُدْرَك الْمَسْمُوعَات , وَمِنْ قِبَلهَا يُوصَل إلَى مُعْرِفَة حَقَائِق الْأَنْبَاء عَنْ الْمُغَيَّبَات , نَظِير مَعْنَى الْخَتْم عَلَى سَائِر الْأَوْعِيَة وَالظُّرُوف . فَإِنْ قَالَ : فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ صِفَة تَصِفهَا لَنَا فَنَفْهَمَهَا ؟ أَهِيَ مِثْل الْخَتْم الَّذِي يُعْرَف لَمَّا ظَهَرَ لِلْأَبْصَارِ , أَمْ هِيَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ؟ قِيلَ : قَدْ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي صِفَة ذَلِكَ , وَسَنُخْبِرُ بِصِفَتِهِ بَعْد ذِكْرنَا قَوْلهمْ . 250 - فَحَدَّثَنِي عِيسَى بْن عُثْمَان بْن عِيسَى الرَّمْلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن عِيسَى , عَنْ الْأَعْمَش , قَالَ : أَرَانَا مُجَاهِد بِيَدِهِ فَقَالَ : كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْقَلْب فِي مِثْل هَذَا - يَعْنِي الْكَفّ - فَإِذَا أَذْنَبَ الْعَبْد ذَنْبًا ضَمَّ مِنْهُ - وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ الْخِنْصِر هَكَذَا - فَإِذَا أَذْنَبَ ضُمَّ - وَقَالَ بِأُصْبُعٍ أُخْرَى - فَإِذَا أَذْنَبَ ضُمَّ - وَقَالَ بِأُصْبُعٍ أُخْرَى هَكَذَا - حَتَّى ضَمَّ أَصَابِعَهُ كُلّهَا . قَالَ : ثُمَّ يُطْبَع عَلَيْهِ بِطَابَعٍ . قَالَ مُجَاهِد : وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّيْن . 251 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا وَكِيع عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : الْقَلْب مِثْل الْكَفّ , فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا قَبَضَ أُصْبُعًا حَتَّى يَقْبِض أَصَابِعه كُلّهَا . وَكَانَ أَصْحَابنَا يَرَوْنَ أَنَّهُ الرَّان . 252 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن دَاوُد , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ مُجَاهِد : نُبِّئْت أَنَّ الذُّنُوب عَلَى الْقَلْب تَحِفّ بِهِ مِنْ نَوَاحِيه حَتَّى تَلْتَقِي عَلَيْهِ , فَالْتِقَاؤُهَا عَلَيْهِ الطَّبْع , وَالطَّبْع الْخَتْم . قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : الْخَتْم خَتْم عَلَى الْقَلْب وَالسَّمْع . 253 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن كَثِير أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهَدًا يَقُول : الرَّان أَيْسَر مِنْ الطَّبْع , وَالطَّبْع أَيْسَر مِنْ الْإِقْفَال , وَالْإِقْفَال أَشَدّ ذَلِكَ كُلّه . وَقَالَ بَعْضهمْ : إنَّمَا مَعْنَى قَوْله : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ } إخْبَار مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ تَكَبُّرهمْ وَإِعْرَاضهمْ عَنْ الِاسْتِمَاع لِمَا دُعُوا إلَيْهِ مِنْ الْحَقّ , كَمَا يُقَال : إنَّ فُلَانًا لَأَصَمّ عَنْ هَذَا الْكَلَام , إذَا امْتَنَعَ مِنْ سَمَاعه وَرَفَعَ نَفْسه عَنْ تَفَهُّمه تَكَبُّرًا . وَالْحَقّ فِي ذَلِكَ عِنْدِي مَا صَحَّ بِنَظِيرِهِ الْخَبَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا : 254 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن يَسَار , قَالَ : حَدَّثَنَا صَفْوَان بْن عِيسَى , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن عَجْلَان عَنْ الْقَعْقَاع , عَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْمُؤْمِن إذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَة سَوْدَاء فِي قَلْبه , فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صَقَلَ قَلْبه , فَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يُغْلَف قَلْبه ; فَذَلِكَ الرَّان الَّذِي قَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبهمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } 83 14 فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الذُّنُوب إذَا تَتَابَعَتْ عَلَى الْقُلُوب أَغَلَفَتْهَا , وَإِذَا أَغَلَفَتْهَا أَتَاهَا حِينَئِذٍ الْخَتْم مِنْ قِبَل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَالطَّبْع , فَلَا يَكُون لِلْإِيمَانِ إلَيْهَا مَسْلَك , وَلَا لِلْكُفْرِ مِنْهَا مَخْلَص . فَذَلِكَ هُوَ الطَّبْع وَالْخَتْم الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قَوْله : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ } نَظِير الطَّبْع وَالْخَتْم عَلَى مَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار مِنْ الْأَوْعِيَة وَالظُّرُوف الَّتِي لَا يُوصَل إلَى مَا فِيهَا إلَّا بِفَضِّ ذَلِكَ عَنْهَا ثُمَّ حَلّهَا , فَكَذَلِكَ لَا يَصِل الْإِيمَان إلَى قُلُوب مِنْ وَصْف اللَّه أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى قُلُوبهمْ , إلَّا بَعْد فَضّه خَاتَمه وَحَلّه رِبَاطه عَنْهَا . وَيُقَال لِقَائِلِي الْقَوْل الثَّانِي الزَّاعِمِينَ أَنَّ مَعْنَى قَوْله جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ } هُوَ وَصَفَهُمْ بِالِاسْتِكْبَارِ وَالْإِعْرَاض عَنْ الَّذِي دُعُوا إلَيْهِ مِنْ الْإِقْرَار بِالْحَقِّ تَكَبُّرًا : أَخْبَرُونَا عَنْ اسْتِكْبَار الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الصِّفَة وَإِعْرَاضهمْ عَنْ الْإِقْرَار بِمَا دُعُوا إلَيْهِ مِنْ الْإِيمَان وَسَائِر الْمَعَانِي اللَّوَاحِق بِهِ , أَفَعَلَ مِنْهُمْ , أَمْ فِعْل مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره بِهِمْ ؟ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ فِعْل مِنْهُمْ وَذَلِكَ قَوْلهمْ , قِيلَ لَهُمْ : فَإِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَتَمَ عَلَى قُلُوبهمْ وَسَمْعهمْ , وَكَيْفَ يَجُوز أَنْ يَكُون إعْرَاض الْكَافِر عَنْ الْإِيمَان وَتَكَبُّره عَنْ الْإِقْرَار بِهِ , وَهُوَ فِعْله عِنْدكُمْ خَتْمًا مِنْ اللَّه عَلَى قَلْبه وَسَمْعه , وَخَتْمه عَلَى قَلْبه وَسَمْعه فِعْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ دُون فِعْل الْكَافِر ؟ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ جَائِز أَنْ يَكُون كَذَلِكَ , لِأَنَّ تَكَبُّره وَإِعْرَاضه كَانَا عَنْ خَتْم اللَّه عَلَى قَلْبه وَسَمْعه , فَلَمَّا كَانَ الْخَتْم سَبَبًا لِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُسْمَى مُسَبِّبه بِهِ ; تَرَكُوا قَوْلهمْ , وَأَوْجَبُوا أَنَّ الْخَتْم مِنْ اللَّه عَلَى قُلُوب الْكُفَّار وَأَسْمَاعهمْ مَعْنَى غَيْر كُفْر الْكَافِر وَغَيْر تَكَبُّره وَإِعْرَاضه عَنْ قَبُول الْإِيمَان وَالْإِقْرَار بِهِ , وَذَلِكَ دُخُول فِيمَا أَنْكَرُوهُ . وَهَذِهِ الْآيَة مِنْ أَوْضَح الْأَدِلَّة عَلَى فَسَاد قَوْل الْمُنْكَرِينَ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق إلَّا بِمَعُونَةِ اللَّه ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى قُلُوب صِنْف مِنْ كُفَّار عِبَاده وَأَسْمَاعهمْ , ثُمَّ لَمْ يُسْقِط التَّكْلِيف عَنْهُمْ وَلَمْ يَضَع عَنْ أَحَد مِنْهُمْ فَرَائِضه وَلَمْ يَعْذِرهُ فِي شَيْء مِمَّا كَانَ مِنْهُ مِنْ خِلَاف طَاعَته بِسَبَبِ مَا فَعَلَ بِهِ مِنْ الْخَتْم وَالطَّبْع عَلَى قَلْبه وَسَمْعه , بَلْ أَخْبَرَ أَنَّ لِجَمِيعِهِمْ مِنْهُ عَذَابًا عَظِيمًا عَلَى تَرْكهمْ طَاعَته فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ حُدُوده وَفَرَائِضه مَعَ حَتْمه الْقَضَاء مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ .

{7} خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَعَلَى أَبْصَارهمْ غِشَاوَة } وَقَوْله : { وَعَلَى أَبْصَارهمْ غِشَاوَة } خَبَر مُبْتَدَأ بَعْد تَمَام الْخَبَر عَمَّا خَتَمَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ جَوَارِح الْكُفَّار الَّذِينَ مَضَتْ قِصَصهمْ , وَذَلِكَ أَنَّ { غِشَاوَة } مَرْفُوعَة بِقَوْلِهِ : { وَعَلَى أَبْصَارهمْ } فَذَلِكَ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ خَبَر مُبْتَدَأ , وَأَنَّ قَوْله : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ } قَدْ تَنَاهَى عِنْد قَوْله : { وَعَلَى سَمْعهمْ } وَذَلِكَ هُوَ الْقِرَاءَة الصَّحِيحَة عِنْدنَا لِمَعْنَيَيْنِ , أَحَدهمَا : اتِّفَاق الْحُجَّة مِنْ الْقُرَّاء وَالْعُلَمَاء عَلَى الشَّهَادَة بِتَصْحِيحِهَا , وَانْفِرَاد الْمُخَالِف لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَشُذُوذه عَمَّا هُمْ عَلَى تَخْطِئَته مُجْمِعُونَ ; وَكَفَى بِإِجْمَاعِ الْحُجَّة عَلَى تَخْطِئَة قِرَاءَته شَاهِدًا عَلَى خَطَئِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْخَتْم غَيْر مَوْصُوفَة بِهِ الْعُيُون فِي شَيْء مِنْ كِتَاب اللَّه , وَلَا فِي خَبَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا مَوْجُود فِي لُغَة أَحَد مِنْ الْعَرَب . وَقَدْ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سُورَة أُخْرَى : { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعه وَقَلْبه } ثُمَّ قَالَ : { وَجَعَلَ عَلَى بَصَره غِشَاوَة } 45 23 فَلَمْ يَدْخُل الْبَصَر فِي مَعْنَى الْخَتْم , وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب . فَلَمْ يَجُزْ لَنَا وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ النَّاس الْقِرَاءَة بِنَصَبِ الْغِشَاوَة لِمَا وَصَفْت مِنْ الْعِلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْت , وَإِنْ كَانَ لِنَصْبِهَا مَخْرَج مَعْرُوف فِي الْعَرَبِيَّة . وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْقَوْل وَالتَّأْوِيل , رُوِيَ الْخَبَر عَنْ ابْن عَبَّاس . 255 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ : حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْن بْن الْحَسَن , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ جَدّه , عَنْ ابْن عَبَّاس : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ } وَالْغِشَاوَة عَلَى أَبْصَارهمْ . فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَمَا وَجْه مَخْرَج النَّصْب فِيهَا ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّ نَصْبهَا بِإِضْمَارِ " جَعَلَ " كَأَنَّهُ قَالَ : وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارهمْ غِشَاوَة ; ثُمَّ أَسَقَطَ " جَعَلَ " ; إذْ كَانَ فِي أَوَّل الْكَلَام مَا يَدُلّ عَلَيْهِ . وَقَدْ يَحْتَمِل نَصْبهَا عَلَى إتْبَاعهَا مَوْضِع السَّمْع إذْ كَانَ مَوْضِعه نَصْبًا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا إعَادَة الْعَامِل فِيهِ عَلَى " غِشَاوَة " وَلَكِنْ عَلَى إتْبَاع الْكَلَام بَعْضه بَعْضًا , كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْره : { يَطُوف عَلَيْهِمْ وِلْدَان مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } ثُمَّ قَالَ : { وَفَاكِهَة مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْم طَيْر مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُور عِين } 56 17 : 22 فَخَفَضَ اللَّحْم وَالْحُور عَلَى الْعَطْف بِهِ عَلَى الْفَاكِهَة إتْبَاعًا لِآخِرِ الْكَلَام أَوَّله . وَمَعْلُوم أَنَّ اللَّحْم لَا يُطَاف بِهِ وَلَا بِالْحُورِ , وَلَكِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِر يَصِف فَرَسه : عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاء بَارِدًا حَتَّى شَتَّتْ هَمَّالَة عَيْنَاهَا وَمَعْلُوم أَنَّ الْمَاء يُشْرَب وَلَا يُعْلَف بِهِ , وَلَكِنَّهُ نَصَبَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْت قَبْل . وَكَمَا قَالَ الْآخَر : وَرَأَيْت زَوْجك فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا وَكَانَ ابْن جُرَيْجٍ يَقُول فِي انْتِهَاء الْخَبَر عَنْ الْخَتْم إلَى قَوْله : { وَعَلَى سَمْعهمْ } وَابْتِدَاء الْخَبَر بَعْده ; بِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ , وَيَتَأَوَّل فِيهِ مِنْ كِتَاب اللَّه : { فَإِنْ يَشَأْ اللَّه يَخْتِم عَلَى قَلْبك } 42 24 256 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن جُرَيْجٍ قَالَ : الْخَتْم عَلَى الْقَلْب وَالسَّمْع , وَالْغِشَاوَة عَلَى الْبَصَر , قَالَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { فَإِنْ يَشَأْ اللَّه يَخْتِم عَلَى قَلْبك } وَقَالَ : { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعه وَقَلْبه وَجَعَلَ عَلَى بَصَره غِشَاوَة } 45 23 وَالْغِشَاوَة فِي كَلَام الْعَرَب : الْغِطَاء وَمِنْهُ قَوْل الْحَارِث بْن خَالِد بْن الْعَاصِ : تَبِعَتْك إذْ عَيْنِيّ عَلَيْهَا غِشَاوَة فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَعَتْ نَفْسِيّ أَلُومهَا وَمِنْهُ يُقَال : تَغْشَاهُ الْهَمّ : إذَا تَجَلَّلَهُ وَرَكِّبْهُ . وَمِنْهُ قَوْل نَابِغَة بَنِي ذُبْيَان : هَلَّا سَأَلَتْ بَنِي ذُبْيَان مَا حَسْبِي إذَا الدُّخَان تَغَشَّى الْأَشْمَط الْبَرِمَا يَعْنِي بِذَلِكَ : إذَا تَجَلَّلَهُ وَخَالَطَهُ . وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره نَبِيّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ مِنْ أَحْبَار الْيَهُود , أَنَّهُ قَدْ خَتَمَ عَلَى قُلُوبهمْ وَطَبَعَ عَلَيْهَا فَلَا يَعْقِلُونَ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَوْعِظَة وَعَظَهُمْ بِهَا فِيمَا آتَاهُمْ مِنْ عِلْم مَا عِنْدهمْ مِنْ كُتُبه , وَفِيمَا حَدَّدَ فِي كِتَابه الَّذِي أَوْحَاهُ وَأَنْزَلَهُ إلَى نَبِيّه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَعَلَى سَمْعهمْ فَلَا يَسْمَعُونَ مِنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيّ اللَّه تَحْذِيرًا وَلَا تَذْكِيرًا وَلَا حُجَّة أَقَامَهَا عَلَيْهِمْ بِنُبُوَّتِهِ , فَيَتَذَكَّرُوا وَيَحْذَرُوا عِقَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي تَكْذِيبهمْ إيَّاهُ , مَعَ عِلْمهمْ بِصَدْقِهِ وَصِحَّة أَمْره ; وَأَعْلَمهُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ عَلَى أَبْصَارهمْ غِشَاوَة عَنْ أَنْ يُبْصِرُوا سَبِيل الْهُدَى فَيَعْلَمُوا قُبْح مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الضَّلَالَة وَالرَّدَى وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ رُوِيَ الْخَبَر عَنْ جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل . 257 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ وَعَلَى أَبْصَارهمْ غِشَاوَة } أَيْ عَنْ الْهُدَى أَنَّ يُصِيبُوهُ أَبَدًا بِغَيْرِ مَا كَذَّبُوك بِهِ مِنْ الْحَقّ الَّذِي جَاءَك مِنْ رَبّك , حَتَّى يُؤْمِنُوا بِهِ , وَإِنْ آمَنُوا بِكُلِّ مَا كَانَ قَبْلك . 258 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ الْهَمْدَانِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذِكْره عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ } يَقُول فَلَا يَعْقِلُونَ , وَلَا يَسْمَعُونَ وَيَقُول : وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارهمْ غِشَاوَة , يَقُول : عَلَى أَعْيُنهمْ فَلَا يُبْصِرُونَ . وَأَمَّا آخَرُونَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ أَنَّ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ مِنْ الْكُفَّار أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ هُمْ قَادَة الْأَحْزَاب الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْم بَدْر . 259 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس , قَالَ : هَاتَانِ الْآيَتَانِ إلَى : { وَلَهُمْ عَذَاب عَظِيم } هُمْ : { الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَة اللَّه كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمهمْ دَار الْبَوَار } 14 28 وَهُمْ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْم بَدْر فَلَمْ يَدْخُل مِنْ الْقَادَة أَحَد فِي الْإِسْلَام إلَّا رَجُلَانِ : أَبُو سُفْيَان بْن حَرْب , وَالْحَكَم بْن أَبِي الْعَاصِ . 260 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس , عَنْ الْحَسَن , قَالَ : أَمَّا الْقَادَة فَلَيْسَ فِيهِمْ مُجِيب , وَلَا نَاجٍ , وَلَا مُهْتَدٍ . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَوْلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ فَكَرِهْنَا إعَادَته .

{7} خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَهُمْ عَذَاب عَظِيم } وَتَأْوِيل ذَلِكَ عِنْدِي كَمَا قَالَهُ ابْن عَبَّاس وَتَأَوَّلَهُ 261 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة عَنْ ابْن إسْحَاق عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : وَلَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافك عَذَاب عَظِيم , قَالَ : فَهَذَا فِي الْأَحْبَار مِنْ يَهُود فِيمَا كَذَّبُوك بِهِ مِنْ الْحَقّ الَّذِي جَاءَك مِنْ رَبّك بَعْد مَعْرِفَتهمْ .

{8} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : أَمَّا قَوْله : { وَمِنْ النَّاس } فَإِنَّ فِي النَّاس وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون جَمْعًا لَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظه , وَإِنَّمَا وَاحِده إنْسَان وَوَاحِدَته إنْسَانَة . وَالْوَجْه الْآخَر : أَنْ يَكُون أَصْله " أُنَاس " أُسْقِطَتْ الْهَمْزَة مِنْهَا لِكَثْرَةِ الْكَلَام بِهَا , ثُمَّ دَخَلَتْهَا الْأَلِف وَاللَّام الْمُعَرِّفَتَانِ , فَأُدْغِمَتْ اللَّامّ الَّتِي دَخَلَتْ مَعَ الْأَلِف فِيهَا لِلتَّعْرِيفِ فِي النُّون , كَمَا قِيلَ فِي : { لَكِنَّا هُوَ اللَّه رَبِّي } 18 38 عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا فِي اسْم اللَّه الَّذِي هُوَ اللَّه . وَقَدْ زَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ النَّاس لُغَة غَيْر أُنَاس , وَأَنَّهُ سَمِعَ الْعَرَب تُصَغِّرهُ نُوَيْس مِنْ النَّاس , وَأَنَّ الْأَصْل لَوْ كَانَ أُنَاس لَقِيلَ فِي التَّصْغِير : أُنَيْس , فَرُدَّ إلَى أَصْله . وَأَجْمَعَ جَمِيع أَهْل التَّأْوِيل عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي قَوْم مِنْ أَهْل النِّفَاق , وَأَنَّ هَذِهِ الصِّفَة صِفَتهمْ ذَكَرَ بَعْض مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْل التَّأْوِيل بِأَسْمَائِهِمْ : 262 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْأَوْس وَالْخَزْرَج , وَمَنْ كَانَ عَلَى أَمْرهمْ . وَقَدْ سُمِّيَ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا أَسَمَاؤُهُمْ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب , غَيْر أَنِّي تَرَكْت تَسْمِيَتهمْ كَرَاهَة إطَالَة الْكِتَاب بِذِكْرِهِمْ . 263 - حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَنْبَأَنَا عَبْد الرَّزَّاق قَالَ : أَنْبَأَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } حَتَّى بَلَغَ : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } 2 16 قَالَ : هَذِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ . 264 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو الْبَاهِلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن مَيْمُون , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : هَذِهِ الْآيَة إلَى ثَلَاث عَشْرَة فِي نَعْت الْمُنَافِقِينَ . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . * حَدَّثَنَا سُفْيَان , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي , عَنْ سُفْيَان , عَنْ رَجُل , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . 265 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ إسْمَاعِيل السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , وَعَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } هُمْ الْمُنَافِقُونَ 266 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , عَنْ ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس فِي قَوْله : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } إلَى : { فَزَادَهُمْ اللَّه مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم } 2 10 قَالَ : هَؤُلَاءِ أَهْل النِّفَاق . 267 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن دَاوُد , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ فِي قَوْله : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } قَالَ : هَذَا الْمُنَافِق يُخَالِف قَوْله فِعْله وَسِرّه عَلَانِيَته وَمَدْخَله مَخْرَجه وَمَشْهَده مَغِيبه . وَتَأْوِيل ذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمَّا جَمَعَ لِرَسُولِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ فِي دَار هِجْرَته وَاسْتَقَرَّ بِهَا قَرَاره وَأَظْهَرَ اللَّه بِهَا كَلِمَته , وَفَشَا فِي دُور أَهْلهَا الْإِسْلَام , وَقَهَرَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ فِيهَا مِنْ أَهْل الشِّرْك مِنْ عَبَدَة الْأَوْثَان , وَذَلَّ بِهَا مَنْ فِيهَا مِنْ أَهْل الْكِتَاب ; أَظَهَرَ أَحْبَار يَهُودِهَا لِرَسُولِ اللَّه الضَّغَائِن وَأَبْدَوْا لَهُ الْعَدَاوَة وَالشَّنَآن حَسَدًا وَبَغْيًا إلَّا نَفَرًا مِنْهُمْ , هَدَاهُمْ اللَّه لِلْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا , كَمَا قَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَدَّ كَثِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْد إيمَانكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْد أَنَفْسهمْ مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقّ } 2 109 وَطَابَقهمْ سِرًّا عَلَى مُعَادَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَبَغْيهمْ الْغَوَائِل قَوْم مِنْ أَرَاهِط الْأَنْصَار الَّذِي آوَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَرُوهُ وَكَانُوا قَدْ عَتَوْا فِي شِرْكهمْ وَجَاهِلِيَّتهمْ قَدْ سُمُّوا لَنَا بِأَسْمَائِهِمْ , كَرِهْنَا تَطْوِيل الْكِتَاب بِذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابهمْ . وَظَاهِرُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي خِفَاء غَيْر جِهَار حِذَار الْقَتْل عَلَى أَنْفُسهمْ وَالسِّبَاء مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه , وَرُكُونًا إلَى الْيَهُود , لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْك وَسُوء الْبَصِيرَة بِالْإِسْلَامِ . فَكَانُوا إذَا لَقُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْل الْإِيمَان بِهِ مِنْ أَصْحَابه , قَالُوا لَهُمْ حِذَارًا عَلَى أَنْفُسهمْ : إنَّا مُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِالْبَعْثِ , وَأَعْطَوْهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ كَلِمَة الْحَقّ لِيَدْرَءُوا عَنْ أَنَفْسهمْ حُكْم اللَّه فِيمَنْ اعْتَقَدَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ الشِّرْك لَوْ أَظَهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا هُمْ مُعْتَقِدُوهُ مِنْ شِرْكهمْ , وَإِذَا لَقُوا إخْوَانهمْ مِنْ الْيَهُود وَأَهْل الشِّرْك وَالتَّكْذِيب بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ فَخَلَوْا بِهِمْ , قَالُوا : { إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } 2 14 فَإِيَّاهُمْ عَنَى جَلَّ ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى خَبَرًا عَنْهُمْ " آمَنَّا بِاَللَّهِ " : صَدَّقْنَا بِاَللَّهِ . وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِيمَان التَّصْدِيق فِيمَا مَضَى قَبْل مِنْ كِتَابنَا هَذَا .

{8} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
وَقَوْله : { وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } يَعْنِي بِالْبَعْثِ يَوْم الْقِيَامَة . وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْم الْقِيَامَة الْيَوْم الْآخِر : لِأَنَّهُ آخِر يَوْم , لَا يَوْم بَعْده سِوَاهُ . فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَكَيْفَ لَا يَكُون بَعْده يَوْم , وَلَا انْقِطَاع لِلْآخِرَةِ , وَلَا فِنَاء , وَلَا زَوَال ؟ . قِيلَ : إنَّ الْيَوْم عِنْد الْعَرَب إنَّمَا سُمِّيَ يَوْمًا بِلَيْلَتِهِ الَّتِي قَبْله , فَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّم النَّهَار لَيْل لَمْ يُسَمَّ يَوْمًا , فَيَوْم الْقِيَامَة يَوْم لَا لَيْل لَهُ بَعْده سِوَى اللَّيْلَة الَّتِي قَامَتْ فِي صَبِيحَتهَا الْقِيَامَة , فَذَلِكَ الْيَوْم هُوَ آخِر الْأَيَّام , وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : " الْيَوْم الْآخِر " , وَنَعَتَهُ بِالْعَقِيمِ , وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ يَوْم عَقِيم لِأَنَّهُ لَا لَيْل بَعْده .

{8} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
وَأَمَّا تَأْوِيل قَوْله : { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } وَنَفِيه عَنْهُمْ جَلَّ ذِكْره اسْم الْإِيمَان , وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر ; فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ تَكْذِيب لَهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْ اعْتِقَادهمْ مِنْ الْإِيمَان وَالْإِقْرَار بِالْبَعْثِ , وَإِعْلَام مِنْهُ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي يُبْدُونَهُ لَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ خِلَاف مَا فِي ضَمَائِر قُلُوبهمْ , وَضِدّ مَا فِي عَزَائِم نَفُوسهمْ . وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلَالَة وَاضِحَة عَلَى بِطُولِ مَا زَعَمَتْهُ الْجَهْمِيَّة مِنْ أَنَّ الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق بِالْقَوْلِ دُون سَائِر الْمَعَانِي غَيْره . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ الَّذِينَ ذَكَرهمْ فِي كِتَابه مِنْ أَهْل النِّفَاق أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ : { آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } ثُمَّ نَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ , إذْ كَانَ اعْتِقَادهمْ غَيْر مُصَدِّق قَوْلهمْ ذَلِكَ . وَقَوْله : { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } يَعْنِي بِمُصَدِّقِينَ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِهِ مُصَدِّقُونَ .

{9} يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى . { يُخَادِعُونَ اللَّه وَاَلَّذِينَ آمَنُوا } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَخِدَاع الْمُنَافِق رَبّه وَالْمُؤْمِنِينَ إظْهَاره بِلِسَانِهِ مِنْ الْقَوْل وَالتَّصْدِيق خِلَاف الَّذِي فِي قَلْبه مِنْ الشَّكّ وَالتَّكْذِيب لِيَدْرَأ عَنْ نَفْسه بِمَا أَظْهَر بِلِسَانِهِ حُكْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ - اللَّازِم مَنْ كَانَ بِمِثْلِ حَاله مِنْ التَّكْذِيب لَوْ لَمْ يُظْهِر بِلِسَانِهِ مَا أَظَهَرَ مِنْ التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار - مِنْ الْقَتْل وَالسِّبَاء , فَذَلِكَ خِدَاعه رَبّه وَأَهْل الْإِيمَان بِاَللَّهِ . فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَكَيْفَ يَكُون الْمُنَافِق لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مُخَادِعًا وَهُوَ لَا يَظْهَر بِلِسَانِهِ خِلَاف مَا هُوَ لَهُ مُعْتَقِد إلَّا تَقِيَّة ؟ قِيلَ : لَا تَمْتَنِع الْعَرَب أَنْ تُسَمِّي مِنْ أَعْطَى بِلِسَانِهِ غَيْر الَّذِي هُوَ فِي ضَمِيره تَقِيَّة لِيَنْجُوَ مِمَّا هُوَ لَهُ خَائِف , فَنَجَا بِذَلِكَ مِمَّا خَافَهُ مُخَادِعًا لِمَنْ تَخَلَّصَ مِنْهُ بِاَلَّذِي أَظْهَر لَهُ مِنْ التَّقِيَّة , فَكَذَلِكَ الْمُنَافِق سُمِّيَ مُخَادِعًا لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِإِظْهَارِهِ مَا أَظْهَر بِلِسَانِهِ تَقِيَّة مِمَّا تَخَلَّصَ بِهِ مِنْ الْقَتْل وَالسِّبَاء وَالْعَذَاب الْعَاجِل , وَهُوَ لِغَيْرِ مَا أَظْهَر مُسْتَبْطَن , وَذَلِكَ مِنْ فِعْله وَإِنْ كَانَ خِدَاعًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِل الدُّنْيَا فَهُوَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ مِنْ فِعْله خَادِع ; لِأَنَّهُ يُظْهِر لَهَا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ بِهَا أَنَّهُ يُعْطِيهَا أُمْنِيَّتهَا وَيَسْقِيهَا كَأْس سُرُورهَا , وَهُوَ مُوَرِّدهَا بِهِ حِيَاض عَطْبهَا , وَمُجَرِّعهَا بِهِ كَأْس عَذَابهَا , وَمُذِيقهَا مِنْ غَضَب اللَّه وَأَلِيم عِقَابه مَا لَا قَبْل لَهَا بِهِ . فَذَلِكَ خَدِيعَته نَفْسه ظَنًّا مِنْهُ مَعَ إسَاءَته إلَيْهَا فِي أَمْر مَعَادهَا أَنَّهُ إلَيْهَا مُحْسِن , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسهمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } إعْلَامًا مِنْهُ عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بِإِسَاءَتِهِمْ إلَى أَنْفُسهمْ فِي إسْخَاطهمْ رَبّهمْ بِكُفْرِهِمْ وَشَكَّهُمْ وَتَكْذِيبهمْ غَيْر شَاعِرِينَ وَلَا دَارِينَ , وَلَكِنَّهُمْ عَلَى عَمْيَاء مِنْ أَمْرهمْ مُقِيمُونَ . وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيل ذَلِكَ كَانَ ابْن زَيْد يَقُول . 268 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ , أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب قَالَ : سَأَلْت عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد , عَنْ قَوْله اللَّه جَلَّ ذِكْره : { يُخَادِعُونَ اللَّه وَاَلَّذِينَ آمَنُوا } إلَى آخِر الْآيَة , قَالَ : هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ يُخَادِعُونَ اللَّه وَرَسُوله وَاَلَّذِينَ آمَنُوا , أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمَا أَظَهَرُوا . وَهَذِهِ الْآيَة مِنْ أَوْضَح الدَّلِيل عَلَى تَكْذِيب اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَوْل الزَّاعِمِينَ : إنَّ اللَّه لَا يُعَذِّب مِنْ عِبَاده إلَّا مَنْ كَفَرَ بِهِ عِنَادًا , بَعْد عِلْمه بِوَحْدَانِيَّته , وَبَعْد تَقَرُّر صِحَّة مَا عَانَدَ رَبّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيده وَالْإِقْرَار بِكُتُبِهِ وَرُسُله عِنْده ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ النِّفَاق وَخِدَاعهمْ إيَّاهُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْبَاطِل مُقِيمُونَ , وَأَنَّهُمْ بِخِدَاعِهِمْ الَّذِي يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ بِهِ يُخَادِعُونَ رَبّهمْ وَأَهْل الْإِيمَان بِهِ مَخْدُوعُونَ . ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْره أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا بِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ مِنْ نُبُوَّة نَبِيّه وَاعْتِقَاد الْكُفْر بِهِ , وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ فِي زَعْمهمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ , وَهُمْ عَلَى الْكُفْر مُصِرُّونَ . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : قَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمُفَاعَلَة لَا تَكُون إلَّا مِنْ فَاعِلِينَ , كَقَوْلِك : ضَارَبْت أَخَاك , وَجَالَسْت أَبَاك ; إذَا كَانَ كُلّ وَاحِد مَجَالِس صَاحِبه وَمُضَارِبه . فَأَمَّا إذَا كَانَ الْفِعْل مِنْ أَحَدهمَا فَإِنَّمَا يُقَال : ضَرَبْت أَخَاك وَجَلَسْت إلَى أَبِيك , فَمَنْ خَادَعَ الْمُنَافِق فَجَازَ أَنْ يُقَال فِيهِ : خَادِع اللَّه وَالْمُؤْمِنِينَ . قِيلَ : قَدْ قَالَ بَعْض الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْعِلْم بِلُغَاتِ الْعَرَب : إنَّ ذَلِكَ حَرْف جَاءَ بِهَذِهِ الصُّورَة , أَعْنِي " يُخَادِع " بِصُورَةِ " يُفَاعِل " وَهُوَ بِمَعْنَى " يَفْعَل " فِي حُرُوف أَمْثَالهَا شَاذَّة مِنْ مَنْطِق الْعَرَب , نَظِير قَوْلهمْ : قَاتَلَك اللَّه , بِمَعْنَى قَتْلك اللَّه . وَلَيْسَ الْقَوْل فِي ذَلِكَ عِنْدِي كَاَلَّذِي قَالَ , بَلْ ذَلِكَ مِنْ التَّفَاعُل الَّذِي لَا يَكُون إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ كَسَائِرِ مَا يُعْرَف مِنْ مَعْنَى " يُفَاعَل وَمُفَاعَل " فِي كُلّ كَلَام الْعَرَب , وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِق يُخَادِع اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِكَذِبِهِ بِلِسَانِهِ عَلَى مَا قَدْ تَقَدَّمَ وَصْفه , وَاَللَّه تَبَارَكَ اسْمه خَادِعه بِخِذْلَانِهِ عَنْ حُسْن الْبَصِيرَة بِمَا فِيهِ نَجَاة نَفْسه فِي آجَلّ مَعَاده , كَاَلَّذِي أَخْبَرَ فِي قَوْله : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا } 3 178 وَبِالْمَعْنَى الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ فَاعِل بِهِ فِي الْآخِرَة بِقَوْلِهِ : { يَوْم يَقُول الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُوركُمْ } 57 13 الْآيَة , فَذَلِكَ نَظِير سَائِر مَا يَأْتِي مِنْ مَعَانِي الْكَلَام بِفَاعِلِ وَمُفَاعِل . وَقَدْ كَانَ بَعْض أَهْل النَّحْو مِنْ أَهْل الْبَصْرَة يَقُول : لَا تَكُون الْمُفَاعَلَة إلَّا مِنْ شَيْئَيْنِ , وَلَكِنَّهُ إنَّمَا قِيلَ : يُخَادِعُونَ اللَّه عِنْد أَنْفُسهمْ بِظَنِّهِمْ أَنْ لَا يُعَاقَبُوا , فَقَدْ عَلِمُوا خِلَاف ذَلِكَ فِي أَنْفُسهمْ بِحُجَّةِ اللَّه تَبَارَكَ اسْمه الْوَاقِعَة عَلَى خَلْقه بِمُعْرِفَتِهِ { وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسهمْ } قَالَ : وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ : { وَمَا يَخْدَعُونَ } يَقُول : يَخْدَعُونَ أَنْفُسهمْ بِالتَّخْلِيَةِ بِهَا . وَقَدْ تَكُون الْمُفَاعَلَة مِنْ وَاحِد فِي أَشْيَاء كَثِيرَة .

{9} يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسهمْ } إنْ قَالَ لَنَا قَائِل : أَوَ لَيْسَ الْمُنَافِقُونَ قَدْ خَدَعُوا الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَظَهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ قَيْل الْحَقّ عَنْ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ وَذَرَارِيّهمْ حَتَّى سَلِمَتْ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ كَانُوا مَخْدُوعِينَ فِي أَمْر آخِرَتهمْ ؟ قِيلَ : خَطَأ أَنْ يُقَال إنَّهُمْ خَدَعُوا الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّا إذَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوَجَبْنَا لَهُمْ حَقِيقَة خَدْعَة جَازَتْ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , كَمَا أَنَّا لَوْ قُلْنَا : قَتَلَ فُلَان فُلَانًا , أَوَجَبْنَا لَهُ حَقِيقَة قَتْل كَانَ مِنْهُ لِفُلَانٍ . وَلَكِنَّا نَقُول : خَادَعَ الْمُنَافِقُونَ رَبّهمْ وَالْمُؤْمِنِينَ , وَلَمْ يَخْدَعُوهُمْ بَلْ خَدَعُوا أَنْفُسهمْ , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ , دُون غَيْرهَا , نَظِير مَا تَقُول فِي رَجُل قَاتَلَ آخَر فَقَتَلَ نَفْسه وَلَمْ يَقْتُل صَاحِبه : قَاتَلَ فُلَان فُلَانًا وَلَمْ يَقْتُل إلَّا نَفْسه , فَتُوجِب لَهُ مُقَاتِلَة صَاحِبه , وَتَنْفِي عَنْهُ قَتْله صَاحِبه , وَتُوجِب لَهُ قَتْل نَفْسه . فَكَذَلِكَ تَقُول : خَادَعَ الْمُنَافِق رَبّه وَالْمُؤْمِنِينَ , وَلَمْ يَخْدَع إلَّا نَفْسه , فَتَثْبُت مِنْهُ مُخَادَعَة رَبّه وَالْمُؤْمِنِينَ , وَتَنْفِي عَنْهُ أَنْ يَكُون خَدَعَ غَيْر نَفْسه ; لِأَنَّ الْخَادِع هُوَ الَّذِي قَدْ صَحَّتْ لَهُ الْخَدِيعَة وَوَقَعَ مِنْهُ فِعْلهَا . فَالْمُنَافِقُونَ لَمْ يَخْدَعُوا غَيْر أَنْفُسهمْ , لِأَنَّ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَال وَأَهْل فَلَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُونَ مَلِكُوهُ عَلَيْهِمْ فِي حَال خِدَاعهمْ إيَّاهُ عَنْهُ بِنِفَاقِهِمْ وَلَا قَبْلهَا فَيَسْتَنْقِذُوهُ بِخِدَاعِهِمْ مِنْهُمْ , وَإِنَّمَا دَافَعُوا عَنْهُ بِكَذِبِهِمْ وَإِظْهَارهمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ غَيْر الَّذِي فِي ضَمَائِرهمْ , وَيْحكُمْ اللَّه لَهُمْ فِي أَمْوَالهمْ وَأَنْفُسهمْ وَذَرَارِيّهمْ فِي ظَاهِر أُمُورهمْ بِحُكْمِ مَا انْتَسَبُوا إلَيْهِ مِنْ الْمِلَّة , وَاَللَّه بِمَا يَخْفُونَ مِنْ أُمُورهمْ عَالِم . وَإِنَّمَا الْخَادِع مَنْ خَتَلَ غَيْره عَنْ شَيْئِهِ , وَالْمَخْدُوع غَيْر عَالِم بِمَوْضِعِ خَدِيعَة خَادِعه . فَأَمَّا وَالْمُخَادِع عَارِف بِخِدَاعِ صَاحِبه إيَّاهُ , وَغَيْر لَاحِقه مِنْ خِدَاعه إيَّاهُ مَكْرُوه , بَلْ إنَّمَا يَتَجَافَى لِلظَّانِّ بِهِ أَنَّهُ لَهُ مُخَادِع اسْتِدْرَاجًا لِيَبْلُغ غَايَة يَتَكَامَل لَهُ عَلَيْهِ الْحُجَّة لِلْعُقُوبَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا مَوْقِع عِنْد بُلُوغه إيَّاهَا . وَالْمُسْتَدْرَج غَيْر عَالِم بِحَالِ نَفْسه عِنْد مُسْتَدْرَجه , وَلَا عَارِف بِاطِّلَاعِهِ عَلَى ضَمِيره , وَأَنَّ إمْهَال مُسْتَدْرَجِيهِ إيَّاهُ تَرَكَهُ مُعَاقَبَته عَلَى جُرْمه لِيَبْلُغ الْمُخَاتِل الْمُخَادِع مِنْ اسْتِحْقَاقه عُقُوبَة مُسْتَدْرَجه بِكَثْرَةِ إسَاءَته وَطُول عِصْيَانه إيَّاهُ وَكَثْرَة صَفْح الْمُسْتَدْرَج وَطُول عَفْوه عَنْهُ أَقْصَى غَايَة , فَإِنَّمَا هُوَ خَادَعَ نَفْسه لَا شَكَّ دُون مَنْ حَدَّثَتْهُ نَفْسه أَنَّهُ لَهُ مُخَادِع . وَلِذَلِكَ نَفَى اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ الْمُنَافِق أَنْ يَكُون خَدَعَ غَيْر نَفْسه , إذْ كَانَتْ الصِّفَة الَّتِي وَصَفْنَا صِفَته . وَإِذْ كَانَ الْأَمْر عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ خِدَاع الْمُنَافِق رَبّه وَأَهْل الْإِيمَان بِهِ , وَأَنَّهُ غَيْر سَائِر بِخِدَاعِهِ ذَلِكَ إلَى خَدِيعَة صَحِيحَة إلَّا لِنَفْسِهِ دُون غَيْرهَا لِمَا يُوَرِّطهَا بِفِعْلِهِ مِنْ الْهَلَاك وَالْعَطْب , فَالْوَاجِب إذًا أَنْ يَكُون الصَّحِيح مِنْ الْقِرَاءَة : { وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسهمْ } دُون : " وَمَا يُخَادِعُونَ " , لِأَنَّ لَفْظ الْمُخَادِع غَيْر مُوجِب تَثْبِيت خَدِيعَة عَلَى صِحَّة , وَلَفْظ خَادِع مُوجِب تَثْبِيت خَدِيعَة عَلَى صِحَّة . وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنَافِق قَدْ أَوَجَبَ خَدِيعَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِنَفْسِهِ بِمَا رَكِبَ مِنْ خِدَاعه رَبّه وَرَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ بِنِفَاقِهِ , فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ الصِّحَّة لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ : { وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسهمْ } وَمِنْ الدَّلَالَة أَيْضًا عَلَى أَنَّ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ : { وَمَا يَخْدَعُونَ } أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ : " وَمَا يُخَادِعُونَ " أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّه وَالْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّل الْآيَة , فَمُحَال أَنْ يَنْفِي عَنْهُمْ مَا قَدْ أَثَبَتَ أَنَّهُمْ قَدْ فَعَلُوهُ , لِأَنَّ ذَلِكَ تَضَادّ فِي الْمَعْنَى , وَذَلِكَ غَيْر جَائِز مِنْ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ .

{9} يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَا يَشْعُرُونَ } يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَمَا يَشْعُرُونَ } : وَمَا يَدْرُونَ , يُقَال : مَا شَعَرَ فُلَان بِهَذَا الْأَمْر , وَهُوَ لَا يَشْعُر بِهِ إذَا لَمْ يَدْرِ وَلَمْ يَعْلَم شَعَرًا وَشُعُورًا , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : عَقُّوا بِسَهْمٍ وَلَمْ يَشْعُر بِهِ أَحَد ثُمَّ اسْتَفَاءُوا وَقَالُوا حَبَّذَا الْوَضَح يَعْنِي بِقَوْلِهِ : " لَمْ يَشْعُر بِهِ " : لَمْ يَدْرِ بِهِ أَحَد وَلَمْ يَعْلَم . فَأَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَنْ الْمُنَافِقِينَ , أَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّ اللَّه خَادِعهمْ بِإِمْلَائِهِ لَهُمْ وَاسْتِدْرَاجه إيَّاهُمْ الَّذِي هُوَ مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إبْلَاغ إلَيْهِمْ فِي الْحُجَّة وَالْمَعْذِرَة , وَمِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ خَدِيعَة , وَلَهَا فِي الْآجِل مَضَرَّة . كَاَلَّذِي : 269 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب قَالَ : سَأَلْت ابْن زَيْد عَنْ قَوْله : { وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسهمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } قَالَ : مَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ ضَرُّوا أَنْفُسهمْ بِمَا أَسَرُّوا مِنْ الْكُفْر وَالنِّفَاق . وَقَرَأَ قَوْل اللَّه : { يَوْم يَبْعَثهُمْ اللَّه جَمِيعًا } قَالَ : هُمْ الْمُنَافِقُونَ , حَتَّى بَلَغَ { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْء } 58 18 قَدْ كَانَ الْإِيمَان يَنْفَعهُمْ عِنْدكُمْ .

{10} فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
الْقَوْل فِي تَوِيل قَوْله تَعَالَى : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } وَأَصْل الْمَرَض : السَّقَم , ثُمَّ يُقَال ذَلِكَ فِي الْأَجْسَاد وَالْأَدْيَان ; فَأَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ فِي قُلُوب الْمُنَافِقِينَ مَرَضًا . وَإِنَّمَا عَنَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِخَبَرِهِ عَنْ مَرَض قُلُوبهمْ الْخَبَر عَنْ مَرَض مَا فِي قُلُوبهمْ مِنْ الِاعْتِقَاد - وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا بِالْخَبَرِ عَنْ مَرَض الْقَلْب أَنَّهُ مَعْنَى بِهِ مَرَض مَا هُمْ مُعْتَقِدُوهُ مِنْ الِاعْتِقَاد اسْتَغْنَى بِالْخَبَرِ عَنْ الْقَلْب بِذَلِكَ - وَالْكِنَايَة عَنْ تَصْرِيح الْخَبَر عَنْ ضَمَائِرهمْ وَاعْتِقَادَاتهمْ ; كَمَا قَالَ عُمَر بْن لجأ : ش وَسَبَّحَتْ الْمَدِينَة لَا تَلُمْهَا /و رَأَتْ قَمَرًا بِسُوقِهِمْ نَهَارًا يُرِيد وَسَبَّحَ أَهْل الْمَدِينَة . فَاسْتَغْنَى بِمُعْرِفَةِ السَّامِعِينَ خَبَره بِالْخَبَرِ عَنْ الْمَدِينَة عَنْ الْخَبَر عَنْ أَهْلهَا . وَمِثْله قَوْل عَنْتَرَة الْعَبْسِيّ : هَلَّا سَأَلْت الْخَيْل يَا ابْنَة مَالِك /و إنْ كُنْت جَاهِلَة بِمَا لَمْ تَعْلَمِي يُرِيد : هَلَّا سَأَلْت أَصْحَاب الْخَيْل ؟ وَمِنْهُ قَوْلهمْ : يَا خَيْل [ اللَّه ] ارْكَبِي , يُرَاد : يَا أَصْحَاب خَيْل اللَّه ارْكَبُوا . وَالشَّوَاهِد عَلَى ذَلِكَ أَكْثَر مِنْ أَنْ يُحْصِيهَا كِتَاب , وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَة لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ . فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } إنَّمَا يَعْنِي فِي اعْتِقَاد قُلُوبهمْ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ فِي الدِّين وَالتَّصْدِيق بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه مَرَض وَسَقَم . فَاجْتَزَأَ بِدَلَالَةِ الْخَبَر عَنْ قُلُوبهمْ عَلَى مَعْنَاهُ عَنْ تَصْرِيح الْخَبَر عَنْ اعْتِقَادهمْ . وَالْمَرَض الَّذِي ذَكَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ فِي اعْتِقَاد قُلُوبهمْ الَّذِي وَصَفْنَاهُ هُوَ شَكّهمْ فِي أَمْر مُحَمَّد , وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه وَتَحَيُّرهمْ فِيهِ , فَلَا هُمْ بِهِ مُوقِنُونَ إيقَان إيمَان , وَلَا هُمْ لَهُ مُنْكَرُونَ إنْكَار إشْرَاك ; وَلَكِنَّهُمْ كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مُذَبْذَبُونَ بَيْن ذَلِكَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ , كَمَا يُقَال : فُلَان تَمَرَّضَ فِي هَذَا الْأَمْر , أَيْ يُضْعِف الْعَزْم وَلَا يُصَحِّح الرَّوِيَّة فِيهِ . وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيل ذَلِكَ تَظَاهَرَ الْقَوْل فِي تَفْسِيره مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 270 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } أَيْ شَكّ . 271 - وَحَدَّثَنَا عَنْ المنجاب , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : الْمَرَض : النِّفَاق 272 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } يَقُول : فِي قُلُوبهمْ شَكّ . 73 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد فِي قَوْله : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } قَالَ : هَذَا مَرَض فِي الدِّين وَلَيْسَ مَرَضًا فِي الْأَجْسَاد . قَالَ : هُمْ الْمُنَافِقُونَ . 274 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم قَالَ : حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْن نَصْر , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن الْمُبَارَك قِرَاءَة عَنْ سَعِيد عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } قَالَ : فِي قُلُوبهمْ رِيبَة وَشَكّ فِي أَمْر اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ . 275 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } قَالَ : هَؤُلَاءِ أَهْل النِّفَاق , وَالْمَرَض الَّذِي فِي قُلُوبهمْ الشَّكّ فِي أَمْر اللَّه تَعَالَى ذِكْره . 276 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } حَتَّى بَلَغَ : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } قَالَ الْمَرَض : الشَّكّ الَّذِي دَخَلَهُمْ فِي الْإِسْلَام .

{10} فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَزَادَهُمْ اللَّه مَرَضًا } قَدْ دَلَّلْنَا آنِفًا عَلَى أَنَّ تَأْوِيل الْمَرَض الَّذِي وَصَفَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ فِي قُلُوب الْمُنَافِقِينَ : هُوَ الشَّكّ فِي اعْتِقَادَات قُلُوبهمْ وَأَدْيَانهمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ - فِي أَمْر مُحَمَّد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْر نُبُوَّته وَمَا جَاءَ بِهِ - مُقِيمُونَ . فَالْمَرَض الَّذِي أَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ زَادَهُمْ عَلَى مَرَضهمْ هُوَ نَظِير مَا كَانَ فِي قُلُوبهمْ مِنْ الشَّكّ وَالْحِيرَة قَبْل الزِّيَادَة , فَزَادَهُمْ اللَّه بِمَا أَحْدَثَ مِنْ حُدُوده وَفَرَائِضه الَّتِي لَمْ يَكُنْ فَرَضَهَا قَبْل الزِّيَادَة الَّتِي زَادَهَا الْمُنَافِقِينَ - مِنْ الشَّكّ وَالْحِيرَة إذْ شَكُّوا وَارْتَابُوا فِي الَّذِي أَحْدَثَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ - إلَى الْمَرَض وَالشَّكّ الَّذِي كَانَ فِي قُلُوبهمْ فِي السَّالِف مِنْ حُدُوده وَفَرَائِضه الَّتِي كَانَ فَرْضهَا قَبْل ذَلِكَ , كَمَا زَادَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إلَى إيمَانهمْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْل ذَلِكَ بِاَلَّذِي أَحْدَثَ لَهُمْ مِنْ الْفَرَائِض وَالْحُدُود إذْ آمَنُوا بِهِ , إلَى إيمَانهمْ بِالسَّالِفِ مِنْ حُدُوده وَفَرَائِضه إيمَانًا . كَاَلَّذِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي تَنْزِيله : { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَة فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول أَيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ مَرَض فَزَادَتْهُمْ رَجَسًا إلَى رِجْسهمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } 9 124 : 125 فَالزِّيَادَة الَّتِي زِيدَهَا الْمُنَافِقُونَ مِنْ الرَّجَاسَة إلَى رَجَاسَتهمْ هُوَ مَا وَصَفْنَا , وَالزِّيَادَة الَّتِي زِيدَهَا الْمُؤْمِنُونَ إلَى إيمَانهمْ هُوَ مَا بَيَّنَّا , وَذَلِكَ هُوَ التَّأْوِيل الْمُجْمَع عَلَيْهِ . ذِكْر بَعْض مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْل التَّأْوِيل : 277 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت . عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { فَزَادَهُمْ اللَّه مَرَضًا } قَالَ : شَكًّا . 278 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَزَادَهُمْ اللَّه مَرَضًا } يَقُول : فَزَادَهُمْ اللَّه رِيبَة وَشَكًّا . 279 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْن نَصْر , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن الْمُبَارَك قِرَاءَةً عَنْ سَعِيد عَنْ قَتَادَةَ : { فَزَادَهُمْ اللَّه مَرَضًا } يَقُول : فَزَادَهُمْ اللَّه رِيبَة وَشَكًّا فِي أَمْر اللَّه . 280 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْل اللَّه : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض فَزَادَهُمْ اللَّه مَرَضًا } قَالَ : زَادَهُمْ رِجْسًا . وَقَرَأَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ مَرَض فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسهمْ } 9 124 : 125 قَالَ : شَرًّا إلَى شَرّهمْ , وَضَلَالَة إلَى ضَلَالَتهمْ . 281 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { فَزَادَهُمْ اللَّه مَرَضًا } قَالَ زَادَهُمْ اللَّه شَكًّا .

{10} فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالْأَلِيم : هُوَ الْمُوجِع , وَمَعْنَاهُ : وَلَهُمْ عَذَاب مُؤْلِم , فَصَرَفَ " مُؤْلِم " إلَى " أَلِيم " , كَمَا يُقَال : ضَرْب وَجِيع بِمَعْنَى مُوجِع , وَاَللَّه بَدِيع السَّمَوَات وَالْأَرْض بِمَعْنَى مُبْدِع . وَمِنْهُ قَوْل عَمْرو بْن مَعْد يَكْرِب الزُّبَيْدِيّ : أَمِنْ رَيْحَانَة الدَّاعِي السَّمِيع يُؤَرِّقنِي وَأَصْحَابِي هُجُوع بِمَعْنَى الْمُسْمِع . وَمِنْهُ قَوْل ذِي الرِّمَّة : وَيَرْفَع مِنْ صُدُور شَمَرْدَلَات يَصُدّ وُجُوههَا وَهَج أَلِيم وَيُرْوَى " يَصُكّ " , وَإِنَّمَا الْأَلِيم صِفَة لِلْعَذَابِ , كَأَنَّهُ قَالَ : وَلَهُمْ عَذَاب مُؤْلِم . وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ الْأَلَم , وَالْأَلَم : الْوَجَع . كَمَا : 282 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرَّبِيع , قَالَ : الْأَلِيم : الْمُوجِع . 283 - حَدَّثَنَا يَعْقُوب , قَالَ : حَدَّثَنَا هُشَيْم , قَالَ : أَخْبَرَنَا جُوَيْبِر , عَنْ الضَّحَّاك قَالَ : الْأَلِيم , الْمُوجِع . 284 - وَحُدِّثْت عَنْ المنجاب بْن الْحَارِث , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك فِي قَوْله { أَلِيم } قَالَ : هُوَ الْعَذَاب الْمُوجِع وَكُلّ شَيْء فِي الْقُرْآن مِنْ الْأَلِيم فَهُوَ الْمُوجِع .

{10} فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } اخْتَلَفَتْ الْقِرَاءَة فِي قِرَاءَة ذَلِكَ , فَقَرَأَهُ بَعْضهمْ : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } مُخَفَّفَة الذَّال مَفْتُوحَة الْيَاء , وَهِيَ قِرَاءَة مُعْظَم أَهْل الْكُوفَة . وَقَرَأَهُ آخَرُونَ : " يَكْذِبُونَ " بِضَمِّ الْيَاء وَتَشْدِيد الذَّال , وَهِيَ قِرَاءَة مُعْظَم أَهْل الْمَدِينَة وَالْحِجَاز وَالْبَصْرَة . وَكَأَنَّ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ بِتَشْدِيدِ الذَّال وَضَمّ الْيَاء رَأَوْا أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا أَوَجَبَ لِلْمُنَافِقِينَ الْعَذَاب الْأَلِيم بِتَكْذِيبِهِمْ نَبِيّهمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ , وَأَنَّ الْكَذِب لَوْلَا التَّكْذِيب لَا يُوجِب لِأَحَدٍ الْيَسِير مِنْ الْعَذَاب , فَكَيْف بِالْأَلِيمِ مِنْهُ ؟ وَلَيْسَ الْأَمْر فِي ذَلِكَ عِنْدِي كَاَلَّذِي قَالُوا ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْبَأَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ فِي أَوَّل النَّبَأ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَة بِأَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ بِدَعْوَاهُمْ الْإِيمَان وَإِظْهَارهمْ ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ خِدَاعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ , فَقَالَ : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّه وَاَلَّذِينَ آمَنُوا } بِذَلِكَ مِنْ قَيْلهمْ مَعَ اسْتِسْرَارهمْ الشَّكّ وَالرِّيبَة , { وَمَا يَخْدَعُونَ } بِصَنِيعِهِمْ ذَلِكَ { إلَّا أَنْفُسهمْ } دُون رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ , { وَمَا يَشْعُرُونَ } بِمَوْضِعِ خَدِيعَتهمْ أَنْفُسهمْ وَاسْتِدْرَاج اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إيَّاهُمْ بِإِمْلَائِهِ لَهُمْ فِي قُلُوبهمْ شَكَّ أَيْ نِفَاق وَرِيبَة , وَاَللَّه زَائِدهمْ شَكًّا وَرِيبَة بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ اللَّه وَرَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ : { آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } وَهُمْ فِي قَيْلهمْ ذَلِكَ كَذَبَة لِاسْتِسْرَارِهِمْ الشَّكّ وَالْمَرَض فِي اعْتِقَادَات قُلُوبهمْ . فِي أَمْر اللَّه وَأَمْر رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَوْلَى فِي حِكْمَة اللَّه جَلَّ جَلَاله أَنْ يَكُون الْوَعِيد مِنْهُ لَهُمْ عَلَى مَا افْتَتَحَ بِهِ الْخَبَر عَنْهُمْ مِنْ قَبِيح أَفْعَالهمْ وَذَمِيم أَخْلَاقهمْ , دُون مَا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْر مِنْ أَفْعَالهمْ ; إذْ كَانَ سَائِر آيَات تَنْزِيله بِذَلِكَ نَزَلَ . وَهُوَ أَنْ يَفْتَتِح ذِكْر مُحَاسِن أَفْعَال قَوْم ثُمَّ يَخْتِم ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا افْتَتَحَ بِهِ ذِكْره مِنْ أَفْعَالهمْ , وَيَفْتَتِح ذِكْر مَسَاوِئ أَفْعَال آخَرِينَ ثُمَّ يَخْتِم ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا ابْتَدَأَ بِهِ ذِكْره مِنْ أَفْعَالهمْ . فَكَذَلِكَ الصَّحِيح مِنْ الْقَوْل فِي الْآيَات الَّتِي افْتَتَحَ فِيهَا ذِكْر بَعْض مَسَاوِئ أَفْعَال الْمُنَافِقِينَ أَنْ يَخْتِم ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا افْتَتَحَ بِهِ ذِكْره مِنْ قَبَائِح أَفْعَالهمْ , فَهَذَا مَعَ دَلَالَة الْآيَة الْأُخْرَى عَلَى صِحَّة مَا قُلْنَا وَشَهَادَتهَا بِأَنَّ الْوَاجِب مِنْ الْقِرَاءَة مَا اخْتَرْنَا , وَأَنَّ الصَّوَاب مِنْ التَّأْوِيل مَا تَأَوَّلْنَا مِنْ أَنَّ وَعِيد اللَّه الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَة الْعَذَاب الْأَلِيم عَلَى الْكَذِب الْجَامِع مَعْنَى الشَّكّ وَالتَّكْذِيب , وَذَلِكَ قَوْل اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَد إنَّك لَرَسُول اللَّه وَاَللَّه يَعْلَم إنَّك لَرَسُوله وَاَللَّه يَشْهَد إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانهمْ جُنَّة فَصَدُّوا عَنْ سَبِيل اللَّه إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } 63 1 : 2 وَالْآيَة الْأُخْرَى فِي الْمُجَادَلَة : { اتَّخَذُوا أَيْمَانهمْ جُنَّة فَصَدُّوا عَنْ سَبِيل اللَّه فَلَهُمْ عَذَاب مُهِين } 58 16 فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بِقَيْلِهِمْ مَا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مَعَ اعْتِقَادهمْ فِيهِ مَا هُمْ مُعْتَقِدُونَ , كَاذِبُونَ . ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْره أَنَّ الْعَذَاب الْمُهِين لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَذِبهمْ . وَلَوْ كَانَ الصَّحِيح مِنْ الْقِرَاءَة عَلَى مَا قَرَأَهُ الْقَارِئُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة : { وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } لَكَانَتْ الْقِرَاءَة فِي السُّورَة الْأُخْرَى : وَاَللَّه يَشْهَد إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمُكَذِّبُونَ , لِيَكُونَ الْوَعِيد لَهُمْ الَّذِي هُوَ عَقِيب ذَلِكَ وَعِيدًا عَلَى التَّكْذِيب , لَا عَلَى الْكَذِب . وَفِي إجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الصَّوَاب مِنْ الْقِرَاءَة فِي قَوْله : { وَاَللَّه يَشْهَد إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } بِمَعْنَى الْكَذِب , وَأَنَّ إيعَاد اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ الْمُنَافِقِينَ الْعَذَاب الْأَلِيم عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَذِبهمْ , أَوْضَح الدَّلَالَة عَلَى أَنَّ الصَّحِيح مِنْ الْقِرَاءَة فِي سُورَة الْبَقَرَة : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } بِمَعْنَى الْكَذِب , وَأَنَّ الْوَعِيد مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره لِلْمُنَافِقِينَ فِيهَا عَلَى الْكَذِب حَقّ , لَا عَلَى التَّكْذِيب الَّذِي لَمْ يَجُزْ لَهُ ذِكْر نَظِير الَّذِي فِي سُورَة الْمُنَافِقِينَ سَوَاء . وَقَدْ زَعَمَ بَعْض نَحْوِيِّي الْبَصْرَة أَنَّ " مَا " مِنْ قَوْل اللَّه تَبَارَكَ اسْمه : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } اسْم لِلْمَصْدَرِ , كَمَا أَنَّ أَنَّ وَالْفِعْل اسْمَانِ لِلْمَصْدَرِ فِي قَوْلك : أُحِبّ أَنَّ تَأْتِينِي , وَأَنَّ الْمَعْنَى إنَّمَا هُوَ بِكَذِبِهِمْ وَتَكْذِيبهمْ . قَالَ : وَأَدْخَلَ " كَانَ " لِيُخْبِر أَنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضَى , كَمَا يُقَال : مَا أَحَسَن مَا كَانَ عَبْد اللَّه . فَأَنْت تُعْجِب مِنْ عَبْد اللَّه لَا مِنْ كَوْنه , وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّعَجُّب فِي اللَّفْظ عَلَى كَوْنه . وَكَانَ بَعْض نَحْوِيِّي الْكُوفَة يُنْكِر ذَلِكَ مِنْ قَوْله وَيَسْتَخْطِئُهُ وَيَقُول : إنَّمَا أُلْغِيَتْ " كَانَ " فِي التَّعَجُّب لِأَنَّ الْفِعْل قَدْ تَقَدَّمَهَا , فَكَأَنَّهُ قَالَ : " حَسَنًا كَانَ زَيْد " , " وَحَسَن كَانَ زَيْد " يُبْطِل " كَانَ " , وَيَعْمَل مَعَ الْأَسْمَاء وَالصِّفَات الَّتِي بِأَلْفَاظِ الْأَسْمَاء إذَا جَاءَتْ قَبْل " كَانَ " وَوَقَعَتْ " كَانَ " بَيْنهَا وَبَيْن الْأَسْمَاء . وَأَمَّا الْعِلَّة فِي إبْطَالهَا إذَا أُبْطِلَتْ فِي هَذِهِ الْحَال فَشَبَّهَ الصِّفَات وَالْأَسْمَاء بِفِعْلٍ وَيَفْعَل اللَّتَيْنِ لَا يَظْهَر عَمَل كَانَ فِيهِمَا , أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُول : " يَقُوم كَانَ زَيْد " , وَلَا يَظْهَر عَمَل " كَانَ " فِي " يَقُوم " , وَكَذَلِكَ " قَامَ كَانَ زَيْد " . فَلِذَلِكَ أُبْطِلَ عَمَلهَا مَعَ فَاعِل تَمْثِيلًا بِفِعْلٍ وَيَفْعَل , وَأُعْمِلَتْ مَعَ فَاعِل أَحْيَانًا لِأَنَّهُ اسْم كَمَا تَعْمَل فِي الْأَسْمَاء . فَأَمَّا إذَا تَقَدَّمَتْ " كَانَ " الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال وَكَانَ الِاسْم وَالْفِعْل بَعْدهَا , فَخَطَأ عِنْده أَنْ تَكُون " كَانَ " مُبْطِلَة ; فَلِذَلِكَ أَحَالَ قَوْل الْبَصْرِيّ الَّذِي حَكَيْنَاهُ , وَتَأَوَّلَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } أَنَّهُ بِمَعْنَى : الَّذِي يُكَذِّبُونَهُ .

{11} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض } اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة , فَرُوِيَ عَنْ سَلْمَان الْفَارِسِيّ أَنَّهُ كَانَ يَقُول : لَمْ يَجِئْ هَؤُلَاءِ بَعْد . 285 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَثَّام بْن عَلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا الْأَعْمَش , قَالَ : سَمِعْت الْمِنْهَال بْن عَمْرو يُحَدِّث عَنْ عَبَّاد بْن عَبْد اللَّه , عَنْ سَلْمَان , قَالَ : مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْد , الَّذِينَ { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } * حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن عُثْمَان بْن حَكِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن شَرِيك , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ حَدَّثَنِي الْأَعْمَش , عَنْ زَيْد بْن وَهْب وَغَيْره , عَنْ سَلْمَان أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَة : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } قَالَ مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْد . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 286 - حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ , عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } هُمْ الْمُنَافِقُونَ . أَمَّا { لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض } فَإِنَّ الْفَسَاد هُوَ الْكُفْر وَالْعَمَل بِالْمَعْصِيَةِ . 287 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرَّبِيع : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض } يَقُول : لَا تَعْصُوا فِي الْأَرْض . قَالَ : فَكَانَ فَسَادهمْ عَلَى أَنْفُسهمْ ذَلِكَ مَعْصِيَة اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ , لِأَنَّ مَنْ عَصَى اللَّه فِي الْأَرْض أَوْ أَمَرَ بِمَعْصِيَتِهِ فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْض , لِأَنَّ إصْلَاح الْأَرْض وَالسَّمَاء بِالطَّاعَةِ . وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ تَأْوِيل مَنْ قَالَ : إنَّ قَوْل اللَّه تَبَارَكَ اسْمه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهَا كُلّ مَنْ كَانَ بِمِثْلِ صِفَتهمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ بَعْدهمْ إلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَقَدْ يَحْتَمِل قَوْل سَلْمَان عِنْد تِلَاوَة هَذِهِ الْآيَة : " مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْد " أَنْ يَكُون قَالَهُ بَعْد فَنَاء الَّذِينَ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَة عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرًا مِنْهُ عَمَّنْ جَاءَ مِنْهُمْ بَعْدهمْ وَلِمَا يَجِيء بَعْد , لَا أَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَته أَحَد . وَإِنَّمَا قُلْنَا أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ مَا ذَكَرْنَا , لِإِجْمَاعِ الْحَجَّة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صِفَة مَنْ كَانَ بَيْن ظَهْرَانَيْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ , وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَات فِيهِمْ نَزَلَتْ . وَالتَّأْوِيل الْمُجْمَع عَلَيْهِ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْقُرْآن مِنْ قَوْل لَا دَلَالَة عَلَى صِحْته مِنْ أَصْلِ وَلَا نَظِير . وَالْإِفْسَاد فِي الْأَرْض : الْعَمَل فِيهَا بِمَا نَهَى اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُ , وَتَضْيِيع مَا أَمَرَ اللَّه بِحِفْظِهِ . فَذَلِكَ جُمْلَة الْإِفْسَاد , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي كِتَابه مُخْبِرًا عَنْ قِيلَ مَلَائِكَته : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } 2 30 يَعْنُونَ بِذَلِكَ : أَتَجْعَلُ فِي الْأَرْض مِنْ يَعْصِيك وَيُخَالِف أَمْرك ؟ فَكَذَلِكَ صِفَة أَهْل النِّفَاق مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض بِمَعْصِيَتِهِمْ فِيهَا رَبّهمْ , وَرُكُوبهمْ فِيهَا مَا نَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبه , وَتَضْيِيعهمْ فَرَائِضه وَشَكّهمْ فِي دِين اللَّه الَّذِي لَا يَقْبَل مِنْ أَحَد عَمَلًا إلَى بِالتَّصْدِيقِ بِهِ وَالْإِيقَان بِحَقِيَتِهِ , وَكَذِبهمْ الْمُؤْمِنِينَ بِدَعْوَاهُمْ غَيْر مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ الشَّكّ وَالرَّيْب وبمظاهرتهم أَهْل التَّكْذِيب بِاَللَّهِ وَكُتُبه وَرُسُله عَلَى أَوْلِيَاء اللَّه إذَا وَجَدُوا إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا فَذَلِكَ إفْسَاد الْمُنَافِقِينَ فِي أَرْض اللَّه , وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ مُصْلِحُونَ فِيهَا . فَلَمْ يُسْقِط اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ عُقُوبَته , وَلَا خَفَّفَ عَنْهُمْ أَلِيم مَا أَعَدَّ مِنْ عِقَابه لِأَهْلِ مَعْصِيَته بِحُسْبَانِهِمْ أَنَّهُمْ فِيمَا أَتَوْا مِنْ مَعَاصِي اللَّه مُصْلِحُونَ , بَلْ أَوَجَبَ لَهُمْ الدَّرْك الْأَسْفَل مِنْ نَاره وَالْأَلِيم مِنْ عَذَابه وَالْعَار الْعَاجِل بِسِبِّ اللَّه إيَّاهُمْ وَشَتْمه لَهُمْ , فَقَالَ تَعَالَى : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } وَذَلِكَ مِنْ حُكْم اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ أَدَلَّ الدَّلِيل عَلَى تَكْذِيبه تَعَالَى قَوْل الْقَائِلِينَ : إنَّ عُقُوبَات اللَّه لَا يَسْتَحِقّهَا إلَّا الْمُعَانِد رَبّه فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ حُقُوقه وَفُرُوضه بَعْد عِلْمه وَثُبُوت الْحُجَّة عَلَيْهِ بِمَعْرِفَتِهِ بِلُزُومِ ذَلِكَ إيَّاهُ .

{11} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } وَتَأْوِيل ذَلِكَ كَاَلَّذِي قَالَهُ ابْن عَبَّاس , الَّذِي : 288 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله : { إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أَيْ قَالُوا : إنَّمَا نُرِيد الْإِصْلَاح بَيْن الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْل الْكِتَاب . وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ غَيْره . 289 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن دَاوُد , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض } قَالَ : إذَا رَكِبُوا مَعْصِيَة اللَّه , فَقِيلَ لَهُمْ : لَا تَفْعَلُوا كَذَا وَكَذَا , قَالُوا : إنَّمَا نَحْنُ عَلَى الْهُدَى مُصْلِحُونَ . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَأَيّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ - أَعْنِي فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ - فَهُمْ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ فِيمَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ مُصْلِحُونَ . فَسَوَاء بَيْن الْيَهُود وَالْمُسْلِمِينَ كَانَتْ دَعْوَاهُمْ الْإِصْلَاح أَوْ فِي أَدِيَانهمْ , وَفِيمَا رَكِبُوا مِنْ مَعْصِيَة اللَّه , وَكَذِبهمْ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا أَظَهَرُوا لَهُمْ مِنْ الْقَوْل وَهُمْ لِغَيْرِ مَا أَظَهَرُوا مُسْتَبْطِنُونَ , لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي جَمِيع ذَلِكَ مِنْ أَمْرهمْ عِنْد أَنْفُسهمْ مُحْسِنِينَ , وَهُمْ عِنْد اللَّه مُسِيئُونَ , وَلِأَمْرِ اللَّه مُخَالِفُونَ ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ كَانَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ عَدَاوَة الْيَهُود وَحَرْبهمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلْزَمَهُمْ التَّصْدِيق بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه كَاَلَّذِي أَلْزَمَ مِنْ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ , فَكَانَ لِقَاؤُهُمْ الْيَهُود عَلَى وَجْه الْوِلَايَة مِنْهُمْ لَهُمْ , وَشَكّهمْ فِي نُبُوَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيمَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه أَعْظَم الْفَسَاد , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ عِنْدهمْ إصْلَاحًا وَهُدًى : فِي أَدِيَانهمْ , أَوْ فِيمَا بَيْن الْمُؤْمِنِينَ وَالْيَهُود , فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ } دُون الَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ الْإِفْسَاد فِي الْأَرْض { وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ }

{12} أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } وَهَذَا الْقَوْل مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَكْذِيب لِلْمُنَافِقِينَ فِي دَعْوَاهُمْ إذَا أُمِرُوا بِطَاعَةِ اللَّه فِيمَا أَمَرَهُمْ اللَّه بِهِ , وَنُهُوا عَنْ مَعْصِيَة اللَّه فِيمَا نَهَاهُمْ اللَّه عَنْهُ . قَالُوا : إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ لَا مُفْسِدُونَ , وَنَحْنُ عَلَى رُشْد وَهُدًى فِيمَا أَنْكَرْتُمُوهُ عَلَيْنَا دُونكُمْ لَا ضَالُّونَ . فَكَذِبهمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَيْلهمْ , فَقَالَ : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ } الْمُخَالِفُونَ أَمْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , الْمُتَعَدُّونَ حُدُوده الرَّاكِبُونَ مَعْصِيَته , التَّارِكُونَ فُرُوضه وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَلَا يَدْرُونَ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ , لَا الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالْقِسْطِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّه فِي أَرْضه مِنْ الْمُسْلِمِينَ .

{13} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاس } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَتَأْوِيل قَوْله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاس } يَعْنِي : وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّه وَنَعَتَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ { آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } : صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه كَمَا صَدَّقَ بِهِ النَّاس . وَيَعْنِي ب " النَّاس " الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ وَنُبُوَّته وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه . كَمَا : 290 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , عَنْ بِشْر بْن عَمَّار , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاس } يَقُول : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ صَدِّقُوا كَمَا صَدَّقَ أَصْحَاب مُحَمَّد , قُولُوا : إنَّهُ نَبِيّ وَرَسُول , وَإِنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ حَقّ , وَصَدَّقُوا بِالْآخِرَةِ , وَأَنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْد الْمَوْت . وَإِنَّمَا أَدَخَلَتْ الْأَلِف وَاللَّام فِي " النَّاس " وَهُمْ بَعْض النَّاس لَا جَمِيعهمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ عِنْد الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَة بِأَعْيَانِهِمْ . وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ : آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاس الَّذِينَ تَعْرِفُونَهُمْ مِنْ أَهْل الْيَقِين وَالتَّصْدِيق بِاَللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه وَبِالْيَوْمِ الْآخِر , فَلِذَلِكَ أُدْخِلَتْ الْأَلِف وَاللَّام فِيهِ كَمَا أُدْخِلَتَا فِي قَوْله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاس إنَّ النَّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } 3 173 لِأَنَّهُ أُشِيرَ بِدُخُولِهَا إلَى نَاس مَعْرُوفِينَ عِنْد مَنْ خُوطِبَ بِذَلِكَ .

{13} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالسُّفَهَاء جَمْع سَفِيه , كَالْعُلَمَاءِ جَمْع عَلِيم , وَالْحُكَمَاء جَمْع حَكِيم . وَالسَّفِيه : الْجَاهِل الضَّعِيف الرَّأْي , الْقَلِيل الْمَعْرِفَة بِمَوَاضِع الْمَنَافِع وَالْمَضَارّ ; وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ النِّسَاء وَالصِّبْيَان سُفَهَاء , فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّه لَكُمْ قِيَامًا } 4 5 فَقَالَ عَامَّة أَهْل التَّأْوِيل : هُمْ النِّسَاء وَالصِّبْيَان لِضَعْفِ آرَائِهِمْ , وَقِلَّة مَعْرِفَتهمْ بِمَوَاضِع الْمَصَالِح وَالْمَضَارّ الَّتِي تُصْرَف إلَيْهَا الْأَمْوَال . وَإِنَّا عَنَى الْمُنَافِقُونَ بِقَيْلِهِمْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء , إذْ دُعُوا إلَى التَّصْدِيق بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه , وَالْإِقْرَار بِالْبَعْثِ , فَقَالَ لَهُمْ : آمِنُوا كَمَا آمَنَ أَصْحَاب مُحَمَّد وَأَتْبَاعه مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ أَهْل الْإِيمَان وَالْيَقِين وَالتَّصْدِيق بِاَللَّهِ وَبِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَان رَسُوله مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي كِتَابه وَبِالْيَوْمِ الْآخِر , فَقَالُوا إجَابَة لِقَائِلِ ذَلِكَ لَهُمْ : أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ أَهْل الْجَهْل وَنُصَدِّق بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا صَدَّقَ بِهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا عُقُول لَهُمْ وَلَا أَفَهَام ; كَاَلَّذِي : 291 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالُوا : { أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } يَعْنُونَ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 292 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } يَعْنُونَ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . 293 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَنْبَأَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَمَ فِي قَوْله : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } قَالَ : هَذَا قَوْل الْمُنَافِقِينَ , يُرِيدُونَ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . 294 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , عَنْ بِشْر بْن عَمَّار , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } يَقُولُونَ : أَنَقُولُ كَمَا تَقُول السُّفَهَاء ؟ يَعْنُونَ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لِخِلَافِهِمْ لِدِينِهِمْ .

{13} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاء وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذَا خَبَر مِنْ اللَّه تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ نَعْته لَهُمْ وَوَصْفه إيَّاهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ الشَّكّ وَالتَّكْذِيب , أَنَّهُمْ هُمْ الْجُهَّال فِي أَدِيَانهمْ , الضُّعَفَاء الْآرَاء فِي اعْتِقَادَاتهمْ وَاخْتِيَارَاتهمْ الَّتِي اخْتَارُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ الشَّكّ وَالرَّيْب فِي أَمْر اللَّه وَأَمْر رَسُوله وَأَمْر نُبُوَّته , وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه , وَأَمْر الْبَعْث , لِإِسَاءَتِهِمْ إلَى أَنْفُسهمْ بِمَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ , وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ إلَيْهَا يُحْسِنُونَ . وَذَلِكَ هُوَ عَيْن السَّفَه , لِأَنَّ السَّفِيه إنَّمَا يُفْسِد مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يُصْلِح وَيُضَيِّع مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يَحْفَظ . فَكَذَلِكَ الْمُنَافِق يَعْصِي رَبّه مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يُطِيعهُ , وَيَكْفُر بِهِ مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يُؤْمِن بِهِ , وَيُسِيء إلَى نَفْسه مِنْ حَيْثُ يَحْسَب أَنَّهُ يُحْسِن إلَيْهَا , كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ رَبّنَا جَلَّ ذِكْره فَقَالَ : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } وَقَالَ : أَلَا إنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاء دُون الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِاَللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَبِرَسُولِهِ وَثَوَابه وَعِقَابه , وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ . وَكَذَلِكَ كَانَ ابْن عَبَّاس يَتَأَوَّل هَذِهِ الْآيَة . 295 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , عَنْ بِشْر بْن عَمَّار , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس يَقُول اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاء } يَقُول الْجُهَّال , { وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ } يَقُول وَلَكِنْ لَا يَعْقِلُونَ وَأَمَّا وَجْه دُخُول الْأَلِف وَاللَّام فِي " السُّفَهَاء " فَشَبِيه بِوَجْهِ دُخُولهمَا فِي " النَّاس " فِي قَوْله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاس } وَقَدْ بَيَّنَّا الْعِلَّة فِي دُخُولهمَا هُنَالِكَ , وَالْعِلَّة فِي دُخُولهمَا فِي السُّفَهَاء نَظِيرَتهَا فِي دُخُولهمَا فِي النَّاس هُنَالِكَ سَوَاء . وَالدَّلَالَة الَّتِي تَدُلّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَة مِنْ خَطَأ قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعُقُوبَة مِنْ اللَّه لَا يَسْتَحِقّهَا إلَّا الْمُعَانِد رَبّه مَعَ عِلْمه بِصِحَّةِ مَا عَانَدَهُ فِيهِ نَظِير دَلَالَة الْآيَات الْأُخَر الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرنَا تَأْوِيلهَا فِي قَوْله : { وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } وَنَظَائِر ذَلِكَ .

{14} وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذِهِ الْآيَة نَظِير الْآيَة الْأُخْرَى الَّتِي أَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهَا عَنْ الْمُنَافِقِينَ بِخِدَاعِهِمْ اللَّه وَرَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ , فَقَالَ : { وَمِنْ النَّاس مِنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } ثُمَّ أَكَذَبَهُمْ تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } وَأَنَّهُمْ بِقَيْلِهِمْ ذَلِكَ يُخَادِعُونَ اللَّه وَاَلَّذِينَ آمَنُوا . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِاَللَّهِ وَكِتَابه وَرَسُوله بِأَلْسِنَتِهِمْ : آمَنَّا وَصَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه , خِدَاعًا عَنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ وَذَرَارِيّهمْ , وَدَرْءًا لَهُمْ عَنْهَا , وَأَنَّهُمْ إذَا خَلَوْا إلَى مَرَدَتهمْ وَأَهْل الْعُتُوّ وَالشَّرّ وَالْخَبَث مِنْهُمْ وَمِنْ سَائِر أَهْل الشِّرْك الَّذِينَ هُمْ عَلَى مِثْل الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْر بِاَللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُوله - وَهُمْ شَيَاطِينهمْ . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا عَلَى أَنَّ شَيَاطِين كُلّ شَيْء مَرَدَته - قَالُوا لَهُمْ : { إنَّا مَعَكُمْ } أَيْ إنَّا مَعَكُمْ عَلَى دِينكُمْ , وَظُهَرَاؤُكُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَكُمْ فِيهِ , وَأَوْلِيَاؤُكُمْ دُون أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ بِاَللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُوله وَأَصْحَابه . كَاَلَّذِي : 296 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَلَاء : قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ حَدَّثَنَا بِشْر بْن عَمَّار عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } قَالَ : كَانَ رِجَال مِنْ الْيَهُود إذَا لَقُوا أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْضهمْ , قَالُوا : إنَّا عَلَى دِينكُمْ , وَإِذَا خَلَوْا إلَى أَصْحَابهمْ وَهُمْ شَيَاطِينهمْ { قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } * حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } قَالَ : إذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ مِنْ يَهُود الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ , وَخِلَاف مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول { قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ } أَيْ إنَّا عَلَى مِثْل مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } 297 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } أَمَّا شَيَاطِينهمْ , فَهُمْ رُءُوسهمْ فِي الْكُفْر . 298 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ الْعَقَدِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَوْله : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } أَيْ رُؤَسَائِهِمْ وَقَادَتهمْ فِي الشَّرّ , { قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }

{14} وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ
299 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَنْبَأَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } قَالَ الْمُشْرِكُونَ . 300 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو الْبَاهِلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن مَيْمُون , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } قَالَ : إذَا خَلَا الْمُنَافِقُونَ إلَى أَصْحَابهمْ مِنْ الْكُفَّار . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , عَنْ شِبْل بْن عِبَاد , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } قَالَ : أَصْحَابهمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ . 301 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } قَالَ إخْوَانهمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , { قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } 302 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن دَاوُد , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج قَالَ : قَالَ ابْن جُرَيْجٍ فِي قَوْله : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } قَالَ : إذَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ رَخَاء , قَالُوا إنَّا نَحْنُ مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ إخْوَانكُمْ , وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ اسْتَهْزَءُوا بِالْمُؤْمِنِينَ . * حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ مُجَاهِد : شَيَاطِينهمْ : أَصْحَابهمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : أَرَأَيْت قَوْله : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } فَكَيْف قِيلَ " خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ " وَلَمْ يَقُلْ " خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ " ؟ فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْجَارِي بَيْن النَّاس فِي كَلَامهمْ " خَلَوْت بِفُلَانٍ " أَكْثَر وَأَفْشَى مِنْ " خَلَوْت إلَى فُلَان " , وَمِنْ قَوْلك : إنَّ الْقُرْآن أَفْصَح الْبَيَان ! قِيلَ : قَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ أَهْل الْعِلْم بِلُغَةِ الْعَرَب , فَكَانَ بَعْض نَحْوِيِّي الْبَصْرَة يَقُول : يُقَال خَلَوْت إلَى فُلَان , إذَا أُرِيدَ بِهِ : خَلَوْت إلَيْهِ فِي حَاجَة خَاصَّة ; لَا يَحْتَمِل إذَا قِيلَ كَذَلِكَ إلَّا الْخَلَاء إلَيْهِ فِي قَضَاء الْحَاجَة . فَأَمَّا إذَا قِيلَ : خَلَوْت بِهِ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدهمَا الْخَلَاء بِهِ فِي الْحَاجَة , وَالْآخَر : فِي السُّخْرِيَة بِهِ , فَعَلَى هَذَا الْقَوْل { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } لَا شَكَّ أَفْصَح مِنْهُ لَوْ قِيلَ : " وَإِذَا خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ " لِمَا فِي قَوْل الْقَائِل : " إذَا خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ " مِنْ الْتِبَاس الْمَعْنَى عَلَى سَامِعِيهِ الَّذِي هُوَ مُنْتَفٍ عَنْ قَوْله : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } ; فَهَذَا أَحَد الْأَقْوَال . وَالْقَوْل الْآخَر أَنَّ تَوَجُّه مَعْنَى قَوْله : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } أَيْ إذَا خَلَوْا مَعَ شَيَاطِينهمْ , إذْ كَانَتْ حُرُوف الصِّفَات يُعَاقِب بَعْضهَا بَعْضًا كَمَا قَالَ اللَّه مُخْبِرًا عَنْ عِيسَى ابْن مَرْيَم أَنَّهُ قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ : { مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّه } 61 14 يُرِيد مَعَ اللَّه , وَكَمَا تُوضَع " عَلَى " فِي مَوْضِع " مِنْ " وَ " فِي " و " عَنْ " و " الْبَاء " , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : إذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْر لَعَمْر اللَّه أَعْجَبَنِي رِضَاهَا بِمَعْنَى " عَنِّي " . وَأَمَّا بَعْض نَحْوِيِّي أَهْل الْكُوفَة فَإِنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّل أَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } وَإِذَا صَرَفُوا خَلَاءَهُمْ إلَى شَيَاطِينهمْ ; فَيَزْعُم أَنَّ الْجَالِب " إلَى " الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَام : مِنْ انْصِرَاف الْمُنَافِقِينَ عَنْ لِقَاء الْمُؤْمِنِينَ إلَى شَيَاطِينهمْ خَالِينَ بِهِمْ , لَا قَوْله " خَلَوْا " . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل لَا يَصْلُح فِي مَوْضِع " إلَى " غَيْرهَا لِتَغَيُّرِ الْكَلَام بِدُخُولِ غَيْرهَا مِنْ الْحُرُوف مَكَانهَا . وَهَذَا الْقَوْل عِنْدِي أَوْلَى بِالصَّوَابِ , لِأَنَّ لِكُلِّ حَرْف مِنْ حُرُوف الْمَعَانِي وَجْهًا هُوَ بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْره , فَلَا يَصْلُح تَحْوِيل ذَلِكَ عَنْهُ إلَى غَيْره إلَّا بِحُجَّةٍ يَجِب التَّسْلِيم لَهَا . ول " إلَى " فِي كُلّ مَوْضِع دَخَلَتْ مِنْ الْكَلَام حُكْم وَغَيْر جَائِز سَلْبهَا مَعَانِيهَا فِي أَمَاكِنهَا .

{14} وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أَجَمَعَ أَهْل التَّأْوِيل جَمِيعًا لَا خِلَاف بَيْنهمْ , عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْله : { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } : إنَّمَا نَحْنُ سَاخِرُونَ . فَمَعْنَى الْكَلَام إذًا : وَإِذَا انْصَرَفَ الْمُنَافِقُونَ خَالِينَ إلَى مَرَدَتهمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ قَالُوا : إنَّا مَعَكُمْ عَنْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ التَّكْذِيب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَمُعَادَاته وَمُعَادَاة أَتْبَاعه , إنَّمَا نَحْنُ سَاخِرُونَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَيْلنَا لَهُمْ إذَا لَقِينَاهُمْ { آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } كَمَا : 303 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَلَاء , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عَمَّار عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس : { قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } سَاخِرُونَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . 304 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } : أَيْ إنَّمَا نَحْنُ نَسْتَهْزِئ بِالْقَوْمِ وَنَلْعَب بِهِمْ . 305 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ الْعَقَدِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } : إنَّمَا نَسْتَهْزِئ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْم وَنَسْخَر بِهِمْ . 306 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أَيْ نَسْتَهْزِئ بِأَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

{15} اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { اللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : اُخْتُلِفَ فِي صِفَة اسْتِهْزَاء اللَّه جَلَّ جَلَاله الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ فَاعِله بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتهمْ . فَقَالَ بَعْضهمْ : اسْتِهْزَاؤُهُ بِهِمْ كَاَلَّذِي أَخْبَرَنَا تَبَارَكَ اسْمه أَنَّهُ فَاعِل بِهِمْ يَوْم الْقِيَامَة فِي قَوْله تَعَالَى : { يَوْم يَقُول الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُوركُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنهمْ بِسُورٍ لَهُ بَاب بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة وَظَاهِره مِنْ قِبَله الْعَذَاب يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى } 57 13 : 14 الْآيَة , وَكَاَلَّذِي أَخْبَرَنَا أَنَّهُ فَعَلَ بِالْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا } 3 78 فَهَذَا وَمَا أَشَبَهه مِنْ اسْتِهْزَاء اللَّه جَلَّ وَعَزَّ وَسُخْرِيَّته وَمَكْره وَخَدِيعَته لِلْمُنَافِقِينَ وَأَهْل الشِّرْك بِهِ , عِنْد قَائِلِي هَذَا الْقَوْل وَمُتَأَوِّلِي هَذَا التَّأْوِيل . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ اسْتِهْزَاؤُهُ بِهِمْ : تَوْبِيخه إيَّاهُمْ وَلَوْمه لَهُمْ عَلَى مَا رَكِبُوا مِنْ مَعَاصِي اللَّه وَالْكُفْر بِهِ , كَمَا يُقَال : إنَّ فُلَانًا لَيَهْزَأ مِنْهُ الْيَوْم وَيَسْخَر مِنْهُ ; يُرَاد بِهِ تَوْبِيخ النَّاس إيَّاهُ وَلَوْمهمْ لَهُ , أَوْ إهْلَاكه إيَّاهُمْ وَتَدْمِيره بِهِمْ , كَمَا قَالَ عُبَيْد بْن الْأَبْرَص : سَائِل بِنَا حُجْر ابْن أَمْ قَطَام إذْ ظَلَّتْ بِهِ السُّمْر النَّوَاهِل تَلْعَب فَزَعَمُوا أَنَّ السُّمْر وَهِيَ الْقَنَا لَا لَعِب مِنْهَا , وَلَكِنَّهَا لَمَا قَتَلَتْهُمْ وَشَرَّدَتْهُمْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلهَا لَعِبًا بِمَنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ بِهِ ; قَالُوا : فَكَذَلِكَ اسْتِهْزَاء اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمِنْ اسْتَهْزَأَ بِهِ مِنْ أَهْل النِّفَاق وَالْكُفْر بِهِ , إمَّا إهْلَاكه إيَّاهُمْ وَتَدْمِيره بِهِمْ وَإِمَّا إمْلَاؤُهُ لَهُمْ لِيَأْخُذهُمْ فِي حَال أَمْنهمْ عِنْد أَنْفُسهمْ بَغْتَة , أَوْ تَوْبِيخه لَهُمْ وَلِأَئِمَّتِهِ إيَّاهُمْ قَالُوا : وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْمَكْر مِنْهُ وَالْخَدِيعَة وَالسُّخْرِيَة . وَقَالَ آخَرُونَ : قَوْله : { يُخَادِعُونَ اللَّه وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسهمْ } عَلَى الْجَوَاب , كَقَوْلِ الرَّجُل لِمَنْ كَانَ يَخْدَعهُ إذَا ظَفَرَ بِهِ : أَنَا الَّذِي خَدَعْتُك وَلَمْ تَكُنْ مِنْهُ خَدِيعَة وَلَكِنْ قَالَ ذَلِكَ إذْ صَارَ الْأَمْر إلَيْهِ . قَالُوا : وَكَذَلِكَ قَوْله : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه وَاَللَّه خَيْر الْمَاكِرِينَ } 3 54 وَاَللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ عَلَى الْجَوَاب , وَاَللَّه لَا يَكُون مِنْهُ الْمَكْر وَلَا الْهُزْء . وَالْمَعْنَى : أَنَّ الْمَكْر وَالْهُزْء حَاقّ بِهِمْ . وَقَالَ آخَرُونَ : قَوْله : { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } وَقَوْله : { يُخَادِعُونَ اللَّه وَهُوَ خَادِعهمْ } 4 142 وَقَوْله : { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّه مِنْهُمْ } 9 79 و { نَسُوا اللَّه فَنَسِيَهُمْ } 9 67 وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ , إخْبَار مِنْ اللَّه أَنَّهُ مُجَازِيهمْ جَزَاء الِاسْتِهْزَاء , وَمُعَاقِبهمْ عُقُوبَة الْخِدَاع . فَأَخْرَجَ خَبَره عَنْ جَزَائِهِ وَمَا إيَّاهُمْ وَعِقَابه لَهُمْ مَخْرَج خَبَره عَنْ فِعْلهمْ الَّذِي عَلَيْهِ اسْتَحَقُّوا الْعِقَاب فِي اللَّفْظ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَعْنَيَانِ , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مِثْلهَا } 42 40 وَمَعْلُوم أَنَّ الْأُولَى مِنْ صَاحِبهَا سَيِّئَة إذْ كَانَتْ مِنْهُ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعْصِيَة , وَأَنَّ الْأُخْرَى عَدْل لِأَنَّهَا مِنْ اللَّه جَزَاء لِلْعَاصِي عَلَى الْمَعْصِيَة . فَهُمَا وَإِنْ اتَّفَقَ لَفْظَاهُمَا مُخْتَلِفًا الْمَعْنَى . وَكَذَلِكَ قَوْله : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ } 2 194 فَالْعُدْوَان الْأَوَّل ظُلْم , وَالثَّانِي جَزَاء لَا ظُلْم , بَلْ هُوَ عَدْل ; لِأَنَّهُ عُقُوبَة لِلظَّالِمِ عَلَى ظُلْمه وَإِنْ وَافَقَ لَفْظه لَفْظ الْأَوَّل . وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَجَّهُوا كُلّ مَا فِي الْقُرْآن مِنْ نَظَائِر ذَلِكَ مِمَّا هُوَ خَبَر عَنْ مَكْر اللَّه جَلَّ وَعَزَّ بِقَوْمٍ , وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ . وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ أَخْبَرَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ إذَا خَلَوْا إلَى مَرَدَتهمْ قَالُوا : إنَّا مَعَكُمْ عَلَى دِينكُمْ فِي تَكْذِيب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ , وَإِنَّمَا نَحْنُ بِمَا نُظْهِر لَهُمْ مِنْ قَوْلنَا لَهُمْ صَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَمَا جَاءَ بِهِ مُسْتَهْزِئُونَ . يَعْنُونَ : إنَّا نُظْهِر لَهُمْ مَا هُوَ عِنْدنَا بَاطِل لَا حَقّ وَلَا هُدًى . قَالُوا : وَذَلِكَ هُوَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الِاسْتِهْزَاء . فَأَخْبَرَ اللَّه أَنَّهُ يَسْتَهْزِئ بِهِمْ فَيَظْهَر لَهُمْ مِنْ أَحْكَامه فِي الدُّنْيَا خِلَاف الَّذِي لَهُمْ عِنْده فِي الْآخِرَة , كَمَا أَظَهَرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الدِّين مَا هُمْ عَلَى خِلَافه فِي سَرَائِرهمْ . وَالصَّوَاب فِي ذَلِكَ مِنْ الْقَوْل وَالتَّأْوِيل عِنْدنَا , أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاء فِي كَلَام الْعَرَب : إظْهَار الْمُسْتَهْزِئ لِلْمُسْتَهْزَإِ بِهِ مِنْ الْقَوْل وَالْفِعْل مَا يُرْضِيه وَيُوَافِقهُ ظَاهِرًا , وَهُوَ بِذَلِكَ مِنْ قَيْله وَفِعْله بِهِ مُوَرِّثه مُسَاءَة بَاطِنًا , وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْخِدَاع وَالسُّخْرِيَة وَالْمَكْر . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , وَكَانَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ جَعَلَ لِأَهْلِ النِّفَاق فِي الدُّنْيَا مِنْ الْأَحْكَام بِمَا أَظَهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ الْإِقْرَار بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه الْمُدْخِل لَهُمْ فِي عِدَاد مَنْ يَشْمَلهُ اسْم الْإِسْلَام وَإِنْ كَانُوا لِغَيْرِ ذَلِكَ مُسْتَبْطِنِينَ مِنْ أَحْكَام الْمُسْلِمِينَ الْمُصَدِّقِينَ إقْرَارهمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِذَلِكَ بِضَمَائِر قُلُوبهمْ وَصَحَائِح عَزَائِمهمْ وَحَمِيد أَفْعَالهمْ الْمُحَقِّقَة لَهُمْ صِحَّة إيمَانهمْ , مَعَ عِلْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِكَذِبِهِمْ , وَاطِّلَاعه عَلَى خُبْث اعْتِقَادهمْ وَشَكّهمْ فِيمَا ادَّعَوْا بِأَلْسِنَتِهِمْ أَنَّهُمْ مُصَدِّقُونَ حَتَّى ظَنُّوا فِي الْآخِرَة إذْ حُشِرُوا فِي عِدَاد مَنْ كَانُوا فِي عِدَادهمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ وَارِدُونَ مَوْرِدهمْ وَدَاخِلُونَ مَدْخَلهمْ , وَاَللَّه جَلَّ جَلَاله مَعَ إظْهَاره مَا قَدْ أَظَهَرَ لَهُمْ مِنْ الْأَحْكَام لِمُلْحَقَتِهِمْ فِي عَاجِل الدُّنْيَا وَآجِل الْآخِرَة إلَى حَال تَمْيِيزه بَيْنهمْ وَبَيْن أَوْلِيَائِهِ وَتَفْرِيقه بَيْنهمْ وَبَيْنهمْ ; مُعَدٍّ لَهُمْ مِنْ أَلِيم عِقَابه وَنَكَال عَذَابه مَا أَعَدَّ مِنْهُ لِأَعْدَى أَعْدَائِهِ وَأَشَرّ عِبَاده , حَتَّى مَيَّزَ بَيْنهمْ وَبَيْن أَوْلِيَائِهِ فَأَلْحَقَهُمْ مِنْ طَبَقَات جَحِيمه بِالدَّرْكِ الْأَسْفَل . كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ مِنْ فِعْله بِهِمْ , وَإِنْ كَانَ جَزَاء لَهُمْ عَلَى أَفْعَالهمْ وَعَدْلًا مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِهِمْ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ إيَّاهُ مِنْهُ بِعِصْيَانِهِمْ لَهُ كَانَ بِهِمْ بِمَا أَظَهَرَ لَهُمْ مِنْ الْأُمُور الَّتِي أَظْهَرَهَا لَهُمْ مِنْ إلْحَاقه أَحْكَامهمْ فِي الدُّنْيَا بِأَحْكَامِ أَوْلِيَائِهِ وَهُمْ لَهُ أَعْدَاء , وَحَشْره إيَّاهُمْ فِي الْآخِرَة مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ بِهِ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ إلَى أَنْ مَيَّزَ بَيْنهمْ وَبَيْنهمْ , مُسْتَهْزِئًا وَسَاخِرًا وَلَهُمْ خَادِعًا وَبِهِمْ مَاكِرًا . إذْ كَانَ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاء وَالسُّخْرِيَة وَالْمَكْر وَالْخَدِيعَة مَا وَصَفْنَا قَبْل , دُون أَنْ يَكُون ذَلِكَ مَعْنَاهُ فِي حَال فِيهَا الْمُسْتَهْزِئ بِصَاحِبِهِ لَهُ ظَالِم أَوْ عَلَيْهِ فِيهَا غَيْر عَادِل , بَلْ ذَلِكَ مَعْنَاهُ فِي كُلّ أَحْوَاله إذَا وُجِدَتْ الصِّفَات الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرهَا فِي مَعْنَى الِاسْتِهْزَاء وَمَا أَشَبَهه مِنْ نَظَائِره . وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِيهِ رُوِيَ الْخَبَر عَنْ ابْن عَبَّاس . 307 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عَمَّار عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { اللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } قَالَ : يَسْخَر بِهِمْ لِلنِّقْمَةِ مِنْهُمْ . وَأَمَّا الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ قَوْل اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { اللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } إنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْه الْجَوَاب , وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ اللَّه اسْتِهْزَاء وَلَا مَكْر وَلَا خَدِيعَة ; فَنَافُونَ عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ أَثَبَتَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِنَفْسِهِ وَأَوْجَبَهُ لَهَا . وَسَوَاء قَالَ قَائِل : لَمْ يَكُنْ مِنْ اللَّه جَلَّ ذِكْره اسْتِهْزَاء وَلَا مَكْر وَلَا خَدِيعَة وَلَا سُخْرِيَة بِمِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْتَهْزِئ وَيَسْخَر وَيَمْكُر بِهِ , أَوْ قَالَ : لَمْ يَخْسِف اللَّه بِمَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَسَفَ بِهِ مِنْ الْأُمَم , وَلَمْ يُغْرِق مَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَغْرَقَهُ مِنْهُمْ . وَيُقَال لِقَائِلِ ذَلِكَ : إنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ مَكَرَ بِقَوْمِ مَضَوْا قَبْلنَا لَمْ نَرَهُمْ , وَأَخْبَرَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ خَسَفَ بِهِمْ , وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ أَغْرَقَهُمْ , فَصَدَّقْنَا اللَّه تَعَالَى ذِكْره فِيمَا أَخْبَرَنَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ , وَلَمْ نُفَرِّق بَيْن شَيْء مِنْهُ , فَمَا بُرْهَانك عَلَى تَفْرِيقك مَا فَرَّقْت بَيْنه بِزَعْمِك أَنَّهُ قَدْ أَغْرَقَ وَخَسَفَ بِمِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَغْرَقَ وَخَسَفَ بِهِ , وَلَمْ يَمْكُر بِهِ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ مَكَرَ بِهِ ؟ ثُمَّ نَعْكِس الْقَوْل عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَلَنْ يَقُول فِي أَحَدهمَا شَيْئًا إلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَر مِثْله . فَإِنْ لَجَأَ إلَى أَنْ يَقُول إنَّ الِاسْتِهْزَاء عَبَث وَلَعِب , وَذَلِكَ عَنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَنْفِيّ . قِيلَ لَهُ : إنْ كَانَ الْأَمْر عِنْدك عَلَى مَا وَصَفْت مِنْ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاء , أَفَلَسْت تَقُول : { اللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } وَسَخِرَ اللَّه مِنْهُمْ وَمَكَرَ اللَّه بِهِمْ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ اللَّه عِنْدك هُزْء وَلَا سُخْرِيَة ؟ فَإِنْ قَالَ : " لَا " كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ وَخَرَجَ عَنْ مِلَّة الْإِسْلَام , وَإِنْ قَالَ : " بَلَى " , قِيلَ لَهُ : أَفَتَقُول مِنْ الْوَجْه الَّذِي قُلْت : { اللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } وَسَخِرَ اللَّه مِنْهُمْ ; يَلْعَب اللَّه بِهِمْ وَيَعْبَث , وَلَا لَعِب مِنْ اللَّه وَلَا عَبَث ؟ فَإِنْ قَالَ : " نَعَمْ " , وَصَفَ اللَّه بِمَا قَدْ أَجَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نَفِيه عَنْهُ وَعَلَى تَخْطِئَة وَاصِفه بِهِ , وَأَضَافَ إلَيْهِ مَا قَدْ قَامَتْ الْحُجَّة مِنْ الْعُقُول عَلَى ضَلَال مُضِيفه إلَيْهِ . وَإِنْ قَالَ : لَا أَقُول يَلْعَب اللَّه بِهِ وَلَا يَعْبَث , وَقَدْ أَقُول يَسْتَهْزِئ بِهِمْ وَيَسْخَر مِنْهُمْ ; قِيلَ : فَقَدْ فَرَّقْت بَيْن مَعْنَى اللَّعِب , وَالْعَبَث , وَالْهُزْء , وَالسُّخْرِيَة , وَالْمَكْر ,
وَالْخَدِيعَة . وَمِنْ الْوَجْه الَّذِي جَازَ قِيلَ هَذَا وَلَمْ يَجُزْ قِيلَ هَذَا افْتَرَقَ مَعْنَيَاهُمَا , فَعُلِمَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا مَعْنًى غَيْر مَعْنَى الْآخَر . وَلِلْكَلَامِ فِي هَذَا النَّوْع مَوْضِع غَيْر هَذَا كَرِهْنَا إطَالَة الْكِتَاب بِاسْتِقْصَائِهِ , وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَة لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ .

{15} اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَيَمُدّهُمْ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل قَوْله { وَيَمُدّهُمْ } فَقَالَ بَعْضهمْ بِمَا : 308 - حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَمُدّهُمْ } : يُمْلِي لَهُمْ . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 309 - حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْن نَصْر , عَنْ ابْن الْمُبَارَك , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قِرَاءَة عَنْ مُجَاهِد : { يَمُدّهُمْ } قَالَ : يَزِيدهُمْ . وَكَانَ بَعْض نَحْوِيِّي الْبَصْرَة يَتَأَوَّل ذَلِكَ أَنَّهُ بِمَعْنَى : يَمُدّ لَهُمْ , وَيَزْعُم أَنَّ ذَلِكَ نَظِير قَوْل الْعَرَب : الْغُلَام يَلْعَب الْكِعَاب , يُرَاد بِهِ يَلْعَب بِالْكِعَابِ . قَالَ : وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ يَقُولُونَ قَدْ مَدَدْت لَهُ وَأَمْدَدْت لَهُ فِي غَيْر هَذَا الْمَعْنَى , وَهُوَ قَوْل اللَّه : { وَأَمْدَدْنَاهُمْ } 52 22 وَهَذَا مِنْ أَمَدَدْنَاهُمْ , قَالَ : وَيُقَال قَدْ مَدَّ الْبَحْر فَهُوَ مَادّ , وَأَمَدَّ الْجُرْح فَهُوَ مُمِدّ . وَحُكِيَ عَنْ يُونُس الْجَرْمِيّ أَنَّهُ كَانَ يَقُول : مَا كَانَ مِنْ الشَّرّ فَهُوَ " مَدَدْت " , وَمَا كَانَ مِنْ الْخَيْر فَهُوَ " أَمَدَدْت " . ثُمَّ قَالَ : وَهُوَ كَمَا فَسَّرْت لَك إذَا أَرَدْت أَنَّك تَرَكْته فَهُوَ مَدَدْت لَهُ , وَإِذَا أَرَدْت أَنَّك أَعْطَيْته قُلْت : أَمَدَدْت . وَأَمَّا بَعْض نَحْوِيِّي الْكُوفَة فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول : كُلّ زِيَادَة حَدَثَتْ فِي الشَّيْء مِنْ نَفْسه فَهُوَ " مَدَدْت " بِغَيْرِ أَلِف , كَمَا تَقُول : مَدَّ النَّهَر , وَمَدَّهُ نَهَر آخَر غَيْره : إذَا اتَّصَلَ بِهِ فَصَارَ مِنْهُ . وَكُلّ زِيَادَة أُحْدِثَتْ فِي الشَّيْء مِنْ غَيْره فَهُوَ بِأَلِفٍ , كَقَوْلِك : " أَمَدَّ الْجُرْح " , لِأَنَّ الْمُدَّة مِنْ غَيْر الْجُرْح , وَأَمْدَدْت الْجَيْش بِمَدَدٍ . وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَال بِالصَّوَابِ فِي قَوْله : { وَيَمُدّهُمْ } أَنْ يَكُون بِمَعْنَى يَزِيدهُمْ , عَلَى وَجْه الْإِمْلَاء وَالتَّرْك لَهُمْ فِي عُتُوّهُمْ وَتَمَرُّدهمْ , كَمَا وَصَفَ رَبّنَا أَنَّهُ فَعَلَ بِنُظَرَائِهِمْ فِي قَوْله : { وَنُقَلِّب أَفْئِدَتهمْ وَأَبْصَارهمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّل مَرَّة وَنَذَرهُمْ فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ } 6 110 يَعْنِي نَذَرهُمْ وَنَتْرُكهُمْ فِيهِ وَنُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا إلَى إثْمهمْ . وَلَا وَجْه لِقَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِمَعْنَى " يَمُدّ لَهُمْ " لِأَنَّهُ لَا تَدَافُع بَيْن الْعَرَب وَأَهْل الْمَعْرِفَة بِلُغَتِهَا أَنَّ يَسْتَجِيزُوا قَوْل الْقَائِل : مَدَّ النَّهَر نَهَر آخَر , بِمَعْنَى : اتَّصَلَ بِهِ فَصَارَ زَائِدًا مَاء الْمُتَّصِل بِهِ بِمَاءِ الْمُتَّصِل مِنْ غَيْر تَأَوُّل مِنْهُمْ , ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَدَّ النَّهَر نَهَر آخَر , فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْل اللَّه : { وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ }

{15} اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فِي طُغْيَانهمْ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالطُّغْيَان الْفِعْلَانِ , مِنْ قَوْلك : طَغَى فُلَان يَطْغَى طُغْيَانًا إذَا تَجَاوَزَ فِي الْأَمْر حَدّه فَبَغَى . وَمِنْهُ قَوْله اللَّه : { كَلَّا إنَّ الْإِنْسَان لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } 96 6 : 7 أَيْ يَتَجَاوَز حَدّه . وَمِنْهُ قَوْل أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : وَدَعَا اللَّه دَعْوَة لَات هَنَّا بَعْد طُغْيَانه فَظَلَّ مُشِيرًا وَإِنَّمَا عَنَى اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانهمْ } أَنَّهُ يُمْلِي لَهُمْ وَيَذَرهُمْ يَبْغُونَ فِي ضَلَالهمْ وَكُفْرهمْ حَيَارَى يَتَرَدَّدُونَ . كَمَا : 310 - حُدِّثْت عَنْ المنجاب , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ } قَالَ : فِي كُفْرهمْ يَتَرَدَّدُونَ . 311 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ , عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِي طُغْيَانهمْ } : فِي كُفْرهمْ . 312 - وَحَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ } أَيْ فِي ضَلَالَتهمْ يَعْمَهُونَ . 313 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { فِي طُغْيَانهمْ } فِي ضَلَالَتهمْ . 314 - وَحَدَّثَنَا يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { فِي طُغْيَانهمْ } قَالَ : طُغْيَانهمْ , كُفْرهمْ وَضَلَالَتهمْ .

{15} اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { يَعْمَهُونَ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالْعَمَه نَفْسه : الضَّلَال , يُقَال مِنْهُ : عَمِهَ فُلَان يَعْمَه عَمَهَانًا وَعُمُوهًا : إذَا ضَلَّ . وَمِنْهُ قَوْل رُؤْبَة بْن الْعَجَّاج يَصِف مَضَلَّة مِنْ المهامه : وَمُخْفِق مِنْ لُهْلُهٍ وَلُهْلُهِ مِنْ مَهْمَه يَجْتَبْنَهُ فِي مَهْمَه أَعْمَى الْهُدَى بِالْجَاهِلِينَ الْعُمَّه وَالْعُمَّه : جَمْع عَامه , وَهُمْ الَّذِينَ يَضِلُّونَ فِيهِ فَيَتَحَيَّرُونَ . فَمَعْنَى قَوْله جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ } فِي ضَلَالهمْ وَكُفْرهمْ الَّذِي قَدْ غَمَرهمْ دَنَسه وَعَلَاهُمْ رِجْسه , يَتَرَدَّدُونَ حَيَارَى ضُلَّالًا لَا يَجِدُونَ إلَى الْمَخْرَج مِنْهُ سَبِيلًا ; لِأَنَّ اللَّه قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبهمْ وَخَتَمَ عَلَيْهَا , فَأَعْمَى أَبْصَارهمْ عَنْ الْهُدَى وَأَغْشَاهَا , فَلَا يُبْصِرُونَ رُشْدًا وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا . وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي " الْعَمَه " جَاءَ تَأْوِيل الْمُتَأَوِّلِينَ . 315 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَعْمَهُونَ } : يَتَمَادَوْنَ فِي كُفْرهمْ . 316 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , عَنْ مُعَاوِيَة بْن صَالِح عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس : { يَعْمَهُونَ } قَالَ : يَتَمَادَوْنَ . 317 - وَحُدِّثْت عَنْ المنجاب , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله { يَعْمَهُونَ } قَالَ : يَتَرَدَّدُونَ . 318 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ ابْن عَبَّاس : { يَعْمَهُونَ } : الْمُتَلَدِّد . 319 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو الْبَاهِلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن مَيْمُون , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه : { فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ } قَالَ : يَتَرَدَّدُونَ . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ حَدَّثَنَا شِبْل عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , مِثْله . * وَحَدَّثَنَا سُفْيَان بْن وَكِيع , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي , عَنْ سُفْيَان , عَنْ رَجُل , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْن نَصْر عَنْ ابْن الْمُبَارَك , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ قِرَاءَة عَنْ مُجَاهِد مِثْله . 320 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { يَعْمَهُونَ } قَالَ : يَتَرَدَّدُونَ .

{16} أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ
الْقَوْل فِي تَوِيل قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } قَالَ أَبُو جَعْفَر : إنْ قَالَ قَائِل : وَكَيْفَ اشْتَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْم الضَّلَالَة بِالْهُدَى , وَإِنَّمَا كَانُوا مُنَافِقِينَ لَمْ يَتَقَدَّم نِفَاقهمْ إيمَان فَيُقَال فِيهِمْ بَاعُوا هُدَاهُمْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ بِضَلَالَتِهِمْ حَتَّى اسْتَبْدَلُوهَا مِنْهُ ؟ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ مَعْنَى الشِّرَاء الْمَفْهُوم اعْتِيَاض شَيْء بِبَذْلِ شَيْء مَكَانه عِوَضًا مِنْهُ , وَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّه بِهَذِهِ الصِّفَة لَمْ يَكُونُوا قَطّ عَلَى هُدًى فَيَتْرُكُوهُ وَيَعْتَاضُوا مِنْهُ كُفْرًا وَنِفَاقًا ؟ قِيلَ : قَدْ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى ذَلِكَ , فَنَذْكُر مَا قَالُوا فِيهِ , ثُمَّ نُبَيِّن الصَّحِيح مِنْ التَّأْوِيل فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّه . 321 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } أَيْ الْكُفْر بِالْإِيمَانِ . 322 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } يَقُول أَخَذُوا الضَّلَالَة وَتَرَكُوا الْهُدَى . 323 - وَحَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } : اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَة عَلَى الْهُدَى . 324 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن مَيْمُون , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا . * وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَكَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا فِي تَأْوِيل ذَلِكَ : أَخَذُوا الضَّلَالَة وَتَرَكُوا الْهُدَى , وَجَّهُوا مَعْنَى الشِّرَاء إلَى أَنَّهُ أَخَذَ الْمُشْتَرِي مَكَان الثَّمَن الْمُشْتَرَى بِهِ , فَقَالُوا : كَذَلِكَ الْمُنَافِق وَالْكَافِر قَدْ أَخَذَا مَكَان الْإِيمَان الْكُفْر , فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا شِرَاء لِلْكُفْرِ وَالضَّلَالَة اللَّذَيْنِ أَخْذَاهُمَا بِتَرْكِهِمَا مَا تَرَكَا مِنْ الْهُدَى , وَكَانَ الْهُدَى الَّذِي تَرَكَاهُ هُوَ الثَّمَن الَّذِي جَعَلَاهُ عِوَضًا مِنْ الضَّلَالَة الَّتِي أَخَذَاهَا وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوا أَنَّ مَعْنَى قَوْله : " اشْتَرَوْا " : " اسْتَحَبُّوا " , فَإِنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ وَصَفَ الْكُفَّار فِي مَوْضِع آخَر فَنَسَبَهُمْ إلَى اسْتِحْبَابهمْ الْكُفْر عَلَى الْهُدَى , فَقَالَ : { وَأَمَّا ثَمُود فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } 41 17 صَرَفُوا قَوْله : { اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } إلَى ذَلِكَ وَقَالُوا : قَدْ تَدْخُل الْبَاء مَكَان " عَلَى " , و " عَلَى " مَكَان الْبَاء , كَمَا يُقَال : مَرَرْت بِفُلَانٍ وَمَرَرْت عَلَى فُلَان بِمَعْنَى وَاحِد , وَكَقَوْلِ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَمِنْ أَهْل الْكِتَاب مَنْ إنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْك } 3 75 أَيْ : عَلَى قِنْطَار . فَكَانَ تَأْوِيل الْآيَة عَلَى مَعْنَى هَؤُلَاءِ : أُولَئِكَ الَّذِينَ اخْتَارُوا الضَّلَالَة عَلَى الْهُدَى . وَأَرَاهُمْ وَجَّهُوا مَعْنَى قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { اشْتَرَوْا } إلَى مَعْنَى " اخْتَارُوا " , لِأَنَّ الْعَرَب تَقُول : اشْتَرَيْت كَذَا عَلَى كَذَا , و " اشْتَرَيْته " يَعْنُونَ اخْتَرْته عَلَيْهِ . وَمِنْ الِاشْتِرَاء قَوْل أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَة : فَقَدْ أُخْرِجَ الْكَاعِب الْمُشْتَرَا ةَ مِنْ خِدْرهَا وَأُشْيِعُ الْقِمَارَا يَعْنِي بِالْمُشْتَرَاةِ : الْمُخْتَارَة . وَقَالَ ذُو الرِّمَّة فِي الِاشْتِرَاء بِمَعْنَى الِاخْتِيَار : يَذُبّ الْقَصَايَا عَنْ شَرَاة كَأَنَّهَا جَمَاهِير تَحْت الْمُدْجِنَات الْهَوَاضب ش يَعْنِي بْالشَّرَاة : الْمُخْتَارَة . وَقَالَ آخَر فِي مِثْل ذَلِكَ : إنَّ الشَّرَاة رَوْقَة الْأَمْوَال /و وَحَزْرَة الْقَلْب خِيَار الْمَال قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَجْهًا مِنْ التَّأْوِيل فَلَسْت لَهُ بِمُخْتَارٍ لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ } فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْله { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } مَعْنَى الشِّرَاء الَّذِي يَتَعَارَفهُ النَّاس مِنْ اسْتِبْدَال شَيْء مَكَان شَيْء وَأَخْذ عِوَض عَلَى عِوَض . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الْقَوْم كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَكَفَرُوا , فَإِنَّهُ لَا مُؤْنَة عَلَيْهِمْ لَوْ كَانَ الْأَمْر عَلَى مَا وَصَفُوا بِهِ الْقَوْم , لِأَنَّ الْأَمْر إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَرَكُوا الْإِيمَان , وَاسْتَبْدَلُوا بِهِ الْكُفْر عِوَضًا مِنْ الْهُدَى . وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْمَفْهُوم مِنْ مَعَانِي الشِّرَاء وَالْبَيْع , وَلَكِنْ دَلَائِل أَوَّل الْآيَات فِي نُعُوتهمْ إلَى آخِرهَا دَالَّة عَلَى أَنَّ الْقَوْم لَمْ يَكُونُوا قَطّ اسْتَضَاءُوا بِنُورِ الْإِيمَان وَلَا دَخَلُوا فِي مِلَّة الْإِسْلَام , أَوْ مَا تَسْمَع اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ لَدُنْ ابْتَدَأَ فِي نَعْتهمْ إلَى أَنْ أَتَى عَلَى صِفَّتهمْ إنَّمَا وَصَفَهُمْ بِإِظْهَارِ الْكَذِب بِأَلْسِنَتِهِمْ بِدَعْوَاهُمْ التَّصْدِيق بِنَبِيِّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ , خِدَاعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ عِنْد أَنْفُسهمْ وَاسْتِهْزَاء فِي نَفُوسهمْ بِالْمُؤْمِنِينَ , وَهُمْ لِغَيْرِ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَ مُسْتَبْطِنُونَ , لِقَوْلِ اللَّه جَلَّ جَلَاله : { وَمِنْ النَّاس مِنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } ثُمَّ اقْتَصَّ قَصَصهمْ إلَى قَوْله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } فَأَيْنَ الدَّلَالَة عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَكَفَرُوا ؟ . فَإِنْ كَانَ قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة ظَنَّ أَنَّ قَوْله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } هُوَ الدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْقَوْم قَدْ كَانُوا عَلَى الْإِيمَان فَانْتَقَلُوا عَنْهُ إلَى الْكُفْر , فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ : اشْتَرَوْا ; فَإِنَّ ذَلِكَ تَأْوِيل غَيْر مُسَلَّم لَهُ , إذْ كَانَ الِاشْتِرَاء عِنْد مُخَالِفِيهِ قَدْ يَكُون أَخْذ شَيْء بِتَرْكِ آخَر غَيْره , وَقَدْ يَكُون بِمَعْنَى الِاخْتِيَار وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي . وَالْكَلِمَة إذَا احْتَمَلَتْ وُجُوهًا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ صَرْف مَعْنَاهَا إلَى بَعْض وُجُوههَا دُون بَعْض إلَّا بِحَجَّةِ يَجِبُ التَّسْلِيم لَهَا . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَاَلَّذِي هُوَ أَوْلَى عِنْدِي بِتَأْوِيلِ الْآيَة مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود مِنْ تَأْوِيلهمَا قَوْله : { اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } أَخَذُوا الضَّلَالَة وَتَرَكُوا الْهُدَى . وَذَلِكَ أَنَّ كُلّ كَافِر بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ مُسْتَبْدِل بِالْإِيمَانِ كُفْرًا بِاكْتِسَابِهِ الْكُفْر الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ بَدَلًا مِنْ الْإِيمَان الَّذِي أُمِرَ بِهِ . أَوْ مَا تَسْمَع اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَقُول فِيمَنْ اكْتَسَبَ كُفْرًا بِهِ مَكَان الْإِيمَان بِهِ وَبِرَسُولِهِ : { وَمَنْ يَتَبَدَّل الْكُفْر بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل } 2 108 وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الشِّرَاء , لِأَنَّ كُلّ مُشْتَرٍ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَسْتَبْدِل مَكَان الَّذِي يُؤْخَذ مِنْهُ مِنْ الْبَدَل آخَر بَدَلًا مِنْهُ , فَكَذَلِكَ الْمُنَافِق وَالْكَافِر اسْتَبْدَلَا بِالْهُدَى الضَّلَالَة وَالنِّفَاق , فَأَضَلَّهُمَا اللَّه وَسَلَبَهُمَا نُور الْهُدَى فَتَرَك جَمِيعهمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ .

{16} أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَتَأْوِيل ذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بِشِرَائِهِمْ الضَّلَالَة بِالْهُدَى خَسِرُوا وَلَمْ يَرْبَحُوا , لِأَنَّ الرَّابِح مِنْ التُّجَّار الْمُسْتَبْدِل مِنْ سِلْعَته الْمَمْلُوكَة عَلَيْهِ بَدَلًا هُوَ أَنَفْس مِنْ سِلْعَته أَوْ أَفَضْل مِنْ ثَمَنهَا الَّذِي يَبْتَاعهَا بِهِ . فَأَمَّا الْمُسْتَبْدِل مِنْ سِلْعَته بَدَلًا دُونهَا وَدُون الثَّمَن الَّذِي يَبْتَاعهَا بِهِ فَهُوَ الْخَاسِر فِي تِجَارَته لَا شَكَّ . فَكَذَلِكَ الْكَافِر وَالْمُنَافِق لِأَنَّهُمَا اخْتَارَا الْحِيرَة وَالْعَمَى عَلَى الرَّشَاد وَالْهُدَى وَالْخَوْف وَالرُّعْب عَلَى الْحِفْظ وَالْأَمِن , فَاسْتُبْدِلَا فِي الْعَاجِل بِالرَّشَادِ الْحِيرَة , وَبِالْهُدَى الضَّلَالَة , وَبِالْحِفْظِ الْخَوْف , وَبِالْأَمْنِ الرُّعْب ; مَعَ مَا قَدْ أُعَدّ لَهُمَا فِي الْآجِل مِنْ أَلِيم الْعِقَاب وَشَدِيد الْعَذَاب , فَخَابَا وَخَسِرَا , ذَلِكَ هُوَ الْخَسْرَان الْمُبِين وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ قَتَادَةَ يَقُول . 325 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } قَدْ وَاَللَّه رَأَيْتُمُوهُمْ خَرَجُوا مِنْ الْهُدَى إلَى الضَّلَالَة , وَمِنْ الْجَمَاعَة إلَى الْفُرْقَة , وَمِنْ الْأَمْن إلَى الْخَوْف , وَمِنْ السُّنَّة إلَى الْبِدْعَة . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَمَا وَجْه قَوْله : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ } وَهَلْ التِّجَارَة مِمَّا تَرْبَح أَوْ تَنْقُص فَيُقَال رَبِحَتْ أَوْ وَضَعَتْ ؟ قِيلَ : إنَّ وَجْه ذَلِكَ عَلَى غَيْر مَا ظَنَنْت ; وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ : فَمَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتهمْ لَا فِيمَا اشْتَرَوْا وَلَا فِيمَا شَرَوْا . وَلَكِنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَاطَبَ بِكِتَابِهِ عَرَبًا فَسَلَكَ فِي خِطَابه إيَّاهُمْ وَبَيَانه لَهُمْ مَسْلَك خِطَاب بَعْضهمْ بَعْضًا وَبَيَانهمْ الْمُسْتَعْمَل بَيْنهمْ . فَلَمَّا كَانَ فَصِيحًا لَدَيْهِمْ قَوْل الْقَائِل لِآخَر : خَابَ سَعْيك وَنَامَ لَيْلك , وَخَسِرَ بَيْعك , وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْكَلَام الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى سَامِعه مَا يُرِيد قَائِله ; خَاطَبَهُمْ بِاَلَّذِي هُوَ فِي مَنْطِقهمْ مِنْ الْكَلَام فَقَالَ : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ } إذْ كَانَ مَعْقُولًا عِنْدهمْ أَنَّ الرِّبْح إنَّمَا هُوَ فِي التِّجَارَة كَمَا النُّوُم فِي اللَّيْل , فَاكْتَفَى بِفَهْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِمَعْنَى ذَلِكَ عَنْ أَنْ يُقَال : فَمَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتهمْ , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَشَرّ الْمَنَايَا مَيِّت وَسْط أَهْله كَهُلْكِ الْفَتَاة أَسْلَمَ الْحَيّ حَاضِره يَعْنِي بِذَلِكَ : وَشَرّ الْمَنَايَا مُنْيَة مَيِّت وَسْط أَهْله ; فَاكْتَفَى بِفَهْمِ سَامِع قَيْله مُرَاده مِنْ ذَلِكَ عَنْ إظْهَار مَا تَرَكَ إظْهَاره وَكَمَا قَالَ رُؤْبَة بْن الْعَجَّاج : حَارِث قَدْ فَرَّجْت عَنِّي هَمِّي فَنَامَ لَيْلِي وَتَجَلَّى غَمِّي فَوَصَفَ بِالنُّوُمِ اللَّيْل , وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَامَ . وَكَمَا قَالَ جَرِير بْن الْخَطَفِي : وَأَعْوَر مِنْ نَبَهَانَ أَمَّا نَهَاره فَأَعْمَى وَأَمَّا لَيْله فَبِصَيْرِ فَأَضَافَ الْعَمَى وَالْإِبْصَار إلَى اللَّيْل وَالنَّهَار , وَمُرَاده وَصْف النبهاني بِذَلِكَ .

{16} أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } مَا كَانُوا رُشَدَاء فِي اخْتِيَارهمْ الضَّلَالَة عَلَى الْهُدَى , وَاسْتِبْدَالهمْ الْكُفْر بِالْإِيمَانِ , وَاشْتِرَائِهِمْ النِّفَاق بِالتَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَار .
.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.