لا تظن أن من أحسن في شيء، هو محسن في كل شيء. ولا تظن أن من أساء في شيء، فهو مسيء في كل شيء. ولا تظن أن الحياة لونان، إما الأبيض أو الأسود. الله لم يتركنا بين حلال وحرام فحسب، بل وضع لنا بينهما المباح والمستحب والمكروه وبينهما أقسام أخرى. لو تدبرنا قول الله تعالى "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"، لوجدناه يعلمنا أن الحساب يكون على مثقال الذر، من أحسن ولو في موقف واحد نقول له أحسنت، ولا يمنعني هذا أن أقول له أسأت حين يسيء. وعندما يقول الله لنا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) والشنآن هو العداوة.. أي لا تجعلوا عداوتكم لأحد تفقدكم صوابكم في العدل معه. وإذا تدبرنا قوله تعالى (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، فإن ذلك يعني توصيف دقيق لما عليه الأغلبية والأقلية، من سلوكيات. لن أطيل في سرد المزيد من الآيات على كثرتها، وفعل النبي فيه من هذا المعنى الكثير، لكني سأسرد منها موقفين اثنين فقط، الأول عندما أمر الصحابة بالذهاب إلى النجاشي ملك الحبشة، ودافعه لذلك عدل الرجل، وبأنه لا يظلم عنده أحد، فحفظ للرجل خلقا واحدا. أما الموقف الثاني، فعندما قال بعد غزوة بدر لو كان المطعم بن عدي حيا، لرددت إليه هؤلاء النتنى، وكان يقصد أسرى المعركة. والقصة تعود إلى أن المطعم حمى النبي (صلى الله عليه وسلم) ذات مرة من أذى قريش وقال إنه في حمايتي، فحفظ له الجميل رغم إشراكه بالله. ومن تأمل في هذه المعاني، وجد اختلافا كثيرا بينها وبين ما هو كائن بالفعل في واقعنا المعاصر، فلا أحد يعترف بالخطأ بسهولة، ولو كان خطأه واضحا وضوح الشمس. لا أحد يبدي استعدادا سريعا لتعديل أفكاره المعلبة بداخله، لا أحد لديه الشجاعة على قول لا أعرف، أو لا أدري، أو سأعيد التفكير، أو ربما أكون مخطئا، قليل من يضع في ذهنه أن الله لم يخلقنا ملائكة، بل بشرا يخطئون ويصيبون. إن صفاء الذهن وهدوء التفكير وإعمال العقل وترك التعصب يحتاج منا إلى تدريب كبير ومعرفة أكبر، وإنما الحلم بالتحلم والصبر بالتصبر والطبع بالتطبع. أفضل للإنسان كثيرا أن يعترف بالخطأ، وبإمكانه بعد ذلك شرح الأسباب التي دفعت لهذا الخطأ، هذا في رأيي أفضل مائة مرة من نكران الخطأ وعدم الاعتراف بوقوعه، تحت ضغط التعصب والتحزب، قاتل الله التعصب والتحزب، اللذين يدفعان صاحبهما لإعلائهما فوق الحق المظلوم المكلوم بيننا. ما رأيت شيئا دأب الناس على طمسه وظلمه بوسائل شتى وأساليب عديدة مثل الحقيقة، وإدراك الحقيقة هي أولى خطوات الإنصاف. اعدلوا وأنصفوا هو أقرب للتقوى.