يعترف محمود مكي، النائب السابق لمحمد مرسي ووزير الشؤون النيابية الحالي، أن الدولة لم تعد موجودة في مصر . تصريح خطر من مسؤول سام في النظام الحالي لا يمكن الشك في ولائه للنظام ورئيسه، ولا يمكن حسبانه في باب التهويل والتزيّد لانعدام المصلحة في ذلك . وليس لنا سوى أن نأخذ الاعتراف هذا بما هو تقدير رسمي للموقف في مصر، لعله قائم على معلومات أجهزة الدولة التي توضع، عادة، تحت تصرف رئيس الجمهورية، ولعله مما يدور في الحلقات الضيقة داخل “مؤسسة” الرئاسة، ولعله أي شيء يكون سوى أن يُحسَب موقفاً شخصياً للرجل: حيث مسؤوليته - الحالية والسابقة - وموقعه في النظام لا يسمحان له، أو يبيحان، التعبير عن مواقف شخصية بهذه الخطورة التي يمكن أن تحدث البلبلة والمخافة من المجتمع والرأي العام، وتضغط على الاستقرار الهش في البلد . والحق أن وقائع عدة انهمرت، في الأشهر الأخيرة، وأتت تثبت أن حالة الفوضى وغياب الدولة آخذة في التفاقم والاستفحال، على نحو مخيف، في المعظم من محافظات مصر . وأشد الظواهر خطورة، في تلك الوقائع، أن الدولة لم تكن مغلوبة - دائماً - على أمرها في مواجهة حال الفوضى هذه، بل هي أسهمت - وللدقة: أسهم نظام الحكم فيها - في توليد أسبابها، أو في التمكين لها بسياسات خاطئة غير مقدّرة للعواقب . ففي سيناء، الخاصرة الشرقية لمصر، يستباح الأمن الوطني ويتساقط الجنود برصاص “مجهول” على مرمى حجر من الكيان الصهيوني، فيما تبدو الدولة عاجزة عن الوصول إلى الجناة، وعاجزة عن تحصين مراكزها الأمنية المستهدفة . وحين لا تقوى دولة على حماية جنودها وحرس حدودها، كيف تملك أن تحمي مواطنيها من الأخطار الأمنية، وأن تحمي سمعتها وهيبتها في المجتمع ولدى المواطنين؟ وفي بور سعيد ومدن القنال والمنصورة، تُدْفَع الشرطة إلى ارتكاب الفظاعات بحق الناس ودمائهم، ثم تنسحب مُخْلِية المجال للفوضى، ومهيئة لدفع الجيش إلى ملء الفراغ الأمني، في مخطط مفضوح لشرطنة الجيش، وحمله على الاصطدام الأمني بالمواطنين لدق الإسفين بين الفريقين، وإفقاد الجيش هيبته وشعبيته وثقة الناس به، أو لإجبار المتظاهرين على وقف احتجاجاتهم خشية الاحتكاك بمؤسسة يقدّرونها . وفي قرار غريب، وفريد في التاريخ، تنقل الدولة سلطاتها العمومية إلى المجتمع الأهلي، فتقرّ حقّ الجميع على الجميع في ممارسة الاعتقال والجلب، نيابة عن الشرطة القضائية، وذلك من طريق تمكين المواطنين من “الحق” في أداء “الضبطية القضائية”، لتفتح الأبواب - بذلك - أمام شريعة الغاب، والتسيب، والانفلات، والكيدية، والثأر، وكل ما في الطبيعة البشرية من غرائز حيوانية . وهي أبواب سيشرعها أكثر أنّ مَنْ سيتصدون للنيابة عن الدولة، في وظائفها الأمنية - القضائية، من جنسٍ سياسي معلوم يشكل احتياطاً استراتيجياً للنظام القائم، ولهم خصومات وعداوات مع طيف واسع من القوى التي تعارض نظامهم سيجدون في هذا “الحق” الممنوح لهم، بقرار أخرق، فرصة نادرة لإسباغ الشرعية على مليشياتهم الخارجة عن القانون . وفي المحلة، يمارس الأهالي فعل القصاص بأيديهم، نيابة عن الدولة والشرطة الجنائية والقانون والقضاء، فيعتقلون شابين، ويسحلونهما، ويعلقون جثتيهما المقتولتين، في مشهد يعود بمصر إلى ما قبل ميلادها الحديث، حيث كان الثأر شريعة اجتماعية، وجزءاً من منظومة القيم . وفي شبرا يتحول خلاف كروي إلى معركة بالأسلحة البيضاء والنارية، فيسقط قتلى من دون أن تستطيع أجهزة الأمن التدخل في الوقت المناسب، ومن دون أن يقيم لها المتقاتلون اعتباراً . وقبل هذا كله، وأخطر منه، يعجز قضاة المحكمة الدستورية عن الالتئام في مقر المحكمة لأن مليشيات غاضبة، وموالية للحزب الحاكم، تحاصر المحكمة وتعطل عمل أعلى مؤسسة دستورية في البلاد، من دون أن تتدخل أجهزة النظام لفك الحصار عن هذه المؤسسة، وفرض احترام القانون، وكأن هؤلاء الخارجين عن القانون، المنتهكين لمؤسسات السيادة، يمارسون واجباً وطنياً نيابة عن الدولة والشعب . وفي الأثناء، تتعالى أصوات شؤم مطالبة بتطبيق حد الحرابة . وليس يعلم أحد، غير علام الغيوب، ما في جوف هؤلاء من مطالب غداً! هكذا ينهار الأمن الاجتماعي، بانهيار الدولة وأجهزتها، وينفتح الباب أمام خشية الناس من أن تتحول أحياء القاهرة وشوارعها، والمدن الكبرى، إلى ساحة اشتباكات مسلحة بين الأهالي، وإلى ميدان لتطبيق هلوسات القصاص وأخذ الحق باليد! هل يحدث ذلك مصادفة؟ هل هو مقدمة إلى الانتقال من إسقاط النظام (السابق) إلى إسقاط الدولة “الكافرة”؟ *************** (نقلا عن الخليج- الامارات)