جاءت زيارة مليس زيناوى - رئيس الوزراء الإثيوبى للقاهرة فى سبتمبر الجارى - لتنعش الأمل فى إمكانية الوصول إلى تسوية قريبة للأزمة المائية التى اندلعت بين دول منابع النيل ودولتى المصب"مصر والسودان"، إثر توقيع دول المنابع على اتفاق عنتيبى فى مايو 2010. من هنا يثور تساؤل مهم حول أنسب سبل التعامل المصرى مع دول المنابع، بهدف الوصول إلى مخرج للأزمة المائية، التى اتصور أن مواجهتها تقتضى بداية تقدير طبيعة التهديد الذى يمكن أن تمثله دول منابع النيل بالنسبة لمصر، ثم تحديد اتجاهات التحرك فى مواجهة الأزمة. بداية، هل تستطيع دول المنابع بالفعل أن تمنع وصول مياه النيل إلى مصر، الإجابة تكمن فى جملة من الأمور، أهمها الطبيعة الجغرافية لمناطق المنابع، التى تحول دون قدرة هذه الدول على إقامة مشروعات كبرى على المجرى الرئيس للنهر، من أجل التخزين السنوى للمياه. فبالنسبة للمنابع الإثيوبية التى تمد مصر ب 85% من حصتها المائية، فهى تقع فى منطقة من أعلى مناطق القارة الأفريقية ارتفاعاً، حيث ترتفع " بحيرة تانا " عن سطح البحر بمقدار 1760 م، ومن ثم تنحدر منها المياه بشدة إلى النيل الأزرق، بقوة اندفاع هائلة، لها صوت يشبه الرعد، مما يجعل المياه ترتفع لأعلى فى شكل أعمدة تشبه الدخان، مما يحول دون القدرة على إقامة سدود على النيل الأزرق من أجل التخزين السنوى للمياه، كما أن عمق النيل الأزرق يصل إلى فى بعض المناطق إلى 1000م، وهو ما يجعل إقامة سدود خرسانية أو حتى فولاذية على مجرى النيل الأزرق أمر شديد التكلفة، تنوء به القدرات المادية إثيوبيا. أما المنابع الإستوائية، فهى لا تزود مصر إلا ب15% من حصتها المائية، كما أنها تمر بمساحات شاسعة من المستنقعات، ومن ثم فإن إقامة سدود لتخزين المياه فى تلك المناطق يعنى حتماً غرق مساحات شاسعة من أراضيها، ينطبق ذلك بصفة خاصة على جنوب السودان، وبالتالى فإن انفصال الجنوب لا يمثل خطراً آنياً على الأمن المائى المصرى، لأن النيل الأزرق، وهو المصدر الأهم للحصة المائية المصرية، لا يمر بولايات الجنوب، كما أن الجنوب بعد انفصاله أصبح دولة حبيسة، ومن ثم فمن غير المتوقع أن يتخذ الجنوبيون سياسات مائية مناوئة لحكومة الخرطوم فى الشمال. لكن تبقى قضية أخرى، وهى أن الجنوب إذا لم يكن بوسعه منع المياه عن مصر، فإن رفضه التعاون معها فى تنفيذ مشروعات استقطاب الفواقد المائية، سوف يشكل خطراً مستقبلياً على مصر ينبغى الاستعداد من الآن لمواجهته. من جهة أخرى، قد يرى البعض أن التقدم التكنولوجى، والقدرات المالية للدول المانحة من شأنها التقليل من أهمية الحماية التى توفرها الجغرافيا لمصر، وأن الدول الأجنبية، وفى مقدمتها الولاياتالمتحدة وإسرائيل، يمكن أن تدعم مشروعات السدود والخزانات والتوسعات الزراعية فى دول المنابع، مما يتيح لتلك الدول " خنق مصر مائياً "، ويتيح لإسرائيل الحصول على حصة من مياه النيل. والرد على ذلك أن الولاياتالمتحدة كانت تتمتع بعلاقات جيدة بإثيوبيا فى الستينيات من القرن الماضى، فى الوقت الذى كانت فيه مصر الناصرية تدعم حركات التحرر الوطنى فى أفريقيا وكثير من دول العالم الثالث، وتتبع سياسات غير متسقة، وربما معادية، للسياسات الأمريكية، فلماذا لم تعاقب الولاياتالمتحدة مصر بإنشاء السدود فى إثيوبيا، ولماذا لم ينفذ الاتحاد السوفيتى تلك المشروعات فى السبعينيات، عندما كان يتمتع بعلاقات بنظام مانجستو هيلا ميريام فى إثيوبيا. أما إسرائيل، فبالرغم من الإقرار بدورها فى تأليب دول المنابع ضد مصر، فإنه لا ينبغى المبالغة فى تقدير إمكانياتها فى مساعدة دول المنابع على الإضرار بالأمن المائى المصرى، خاصة أن إسرائيل ذاتها، تعانى من الفقر المائى، وأنها تستخدم كل المتاح لها من المياه منذ عام 1985، فإذا لم يكن بوسع إسرائيل حل أزمتها المائية، فهل سيكون بمقدورها أن تفعل ذلك لصالح دول منابع النيل. أما عن المسارات التى يمكن لمصر أن تتحرك من خلالها لمواجهة الأزمة مع دول منابع النيل فمن أهمها: المسار التفاوضى، والمسار الاقتصادى، والمسار السياسى، والمسار القانونى. بالنسبة للمسار التفاوضى، من المهم استمرار المفاوضات مع دول منابع النيل، وذلك على مستوى رؤساء الدول والحكومات والمستوى الشعبى، وليس على مستوى وزراء الرى فحسب، وقد تحركت مصر بالفعل فى هذا المسار، بداية من لقاء الرئيس السابق مبارك برؤساء بوروندى والكونغو الديموقراطية، ورئيس الوزراء الكينى لبحث الموقف، مروراً بزيارة وفد الدبلوماسية الشعبية إلى كل من أوغندا وإثيوبيا، ثم زيارة رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف إلى كل السودان وأوغندا وإثيوبيا، وزيارة مليس زيناوى مؤخراً لمصر. فإذا كانت هذه التحركات قد جاءت متأخرة إلى حد كبير، فإن الأمل لا يزال باقياً باعتبار أن اتفاق عنتيبى لا يزال اتفاقاً مبدئياً تم توقيعه بالأحرف الأولى، ولم يصبح نهائياً بعد، إذ لم تصادق عليه برلمانات تلك الدول، كما أن هناك دولتين لم توقعا الاتفاق وهى الكونغو الديموقراطية وجنوب السودان، بالإضافة إلى دولة أخرى تقترب فى موقفها من الموقف المصرى السودانى وهى إريتريا، التى أقر رئيسها خلال زيارته للقاهرة أن مشكلة مياه النيل هى مشكلة مفتعلة، لا تستهدف أكثر من ابتزاز مصر سياسياً واقتصادياً. وقد أكدت مصر بالفعل أنها مستمرة فى التفاوض، مع نقل ملف التفاوض من "المستوى التقنى" فى إطار وزارة الموارد المائية والرى إلى المستوى السياسى فى إطار هيئة عليا تضم ممثلين للعديد من الجهات السيادية، كما تحرص مصر على استثمار عناصر قوتها الناعمة فى التأثير على مسار المفاوضات، وذلك بإشراك الكنيسة المصرية فى إقناع حكومة إثيوبيا بالتراجع عن اتفاق عنتيبى، خاصة فى ظل العلاقة الخاصة بين الكنيسة الإثيوبية والكنيسة المصرية. وعلى المسار السياسى، ينبغى على مصر أن تستثمر الأوضاع فى إقليم القرن الأفريقى، وفى الداخل الإثيوبى والعمل على تدعيم العلاقات مع إريتريا، والصومال وجيبوتى، بما يسهم فى خلق توازن استراتيجى جديد فى الإقليم، يضطر إثيوبيا إلى التوقف عن تعنتها مع مصر، خاصة أن نسبة اعتمادها على مياه النيل فى الزراعة لا تتجاوز 3% فى أفضل الأحوال، فى حين يتركز اعتمادها الأساسى فى الزراعة والرعى على مياه الأمطار. كما يمكن لمصر أن تضغط على إسرائيل عبر التهديد بمراجعة اتفاقيات تصدير الغاز، واتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة "الكويز"، وإعادة فتح ملفات من قبيل دفن الأسرى المصريين الأحياء، وشهداء الأمن المصرى فى المناطق الحدودية. ومن المهم أيضاً أن تكسب مصر تأييد المجتمع الدولى لقضيتها المائية، خاصة الدول والجهات المانحة التى تمول المشروعات المائية فى دول المنابع وأهمها: الولاياتالمتحدة والصين وإيطاليا والبنك الدولى والاتحاد الأوروبى، وخاصة فرنسا، التى تتبنى سياسة مائية تقترب من السياسة المصرية، حيث تتمسك فرنسا بمبادئ القانون الدولى بشأن قضايا المياه. وقد سبق لفرنسا أن تحفظت على اتفاقية قانون الأممالمتحدة للعام 1997، بشأن استخدام المجارى المائية الدولية فى غير الأغراض الملاحية، بسبب تمسكها بحقوقها المكتسبة تجاه هولندا طبقاً لاتفاقيات مائية سابقة بين البلدين. وهنا يجب على مصر عرض حقيقة قضيتها المائية على المجتمع الدولى والدول الأفريقية، والتشديد على أنها لا تتبع سياسة " أنانية " تحرم شعوب حوض النيل من الاستفادة من المياه، وإنما هى تتبع سياسة " أخلاقية "، تستهدف مواجهة الأخطار الحقيقية التى تهدد نهر النيل، وفى مقدمتها ارتفاع درجة حرارة الأرض، مع العمل على تعظيم الانتفاع بمياه نهر النيل، عبر مشروعات مثل " قناة جونجلى ونهر السمليكى"، مع تقليل الفاقد الهائل من مياه النيل، والذى يصل إلى 92% من إجمالى إيراده السنوى " 1650 مليار متر مكعب"، لا تستخدم منها كل دول حوض النيل فعلياً أكثر من 8%. وعلى المسار الاقتصادى، فمن المهم تطوير العلاقات المصرية مع دول منابع النيل فى مجالات التجارة البينية، والمساعدات الاقتصادية، والمنح والقروض، والاستثمارات المشتركة، خاصة فى مجال الطاقة والبنية الأساسية، من أجل خلق مشاركة اقتصادية حقيقية بين مصر وتلك الدول، بما يجعلها، تفكر ملياً قبل الإقدام على أى تصرفات غير محسوبة تضر بالأمن المائى لمصر. فمن غير المنطقى أن تستورد مصر اللحوم من البرازيل والهند وغيرهما، فى حين تذخر إثيوبيا بإنتاج وفير من اللحوم. ولا يستقيم أيضاً أن تعتمد مصر على النيل كمصدر لحياتها، دون أن تقدم المساعدات اللازمة لدول المنابع، التى كثيراً ما يعصف النيل باستقرارها الاقتصادى، نتيجة لتقلبه بين دورات الفيضان العارمة والجدب القاحلة. وعلى المسار القانونى، أعلنت مصر أن اتفاق عنتيبى غير ملزم بالنسبة لها، وأكدت سلامة موقفها القانونى بشأن سريان اتفاقيتى 1929 و1959، استناداً إلى الاتفاقات الدولية وأهمها قواعد هلسكنى لعام 1966 بشأن الأنهار الملاحية وغير الملاحية، ومعاهدة فيينا الخاصة بخلافة الدولة أو التوارث الدولى لعام 1978، والتى تأخذ حكم معاهدات الحدود بالنسبة لالتزام الخلف بما ارتبط به السلف، ولا يجوز الدفع بأنها اتفاقات استعمارية، بالإضافة إلى أن السوابق القضائية لمحكمة العدل الدولية تدعم الموقف المصرى. كما أن اتفاقية قانون الأممالمتحدة بشأن استخدام المجارى المائية الدولية فى غير الأغراض الملاحية للعام 1997، تفرض التزاماً أساسياً على الدول الأطراف فيها بالتعاون من أجل تحقيق الاستخدام الأمثل والعادل لمياه الأنهار الدولية، كما أنها أدخلت تطويراً مهماً على قواعد القانون الدولى يتعلق الالتزام بالتسوية السلمية للمنازعات بين الدول المتشاطئة، مع منحها حرية الاختيار بين الوسائل الساسية والوسائل القانونية للتسوية. وتشمل الوسائل السياسية التفاوض المباشر، وبذل المساعى الحميدة، والوساطة والتوفيق، أما الوسائل القانونية، فتتمثل فى التحكيم.