لم يكن أكثر المتشائمين يتخيل أن المشهد الذي عم مصر مساء 11 فبراير 2011 سينتهي به المآل إلى مانحن عليه اليوم في الذكرى الخامسة للثورة . روح العافية التي دبت في أوصال جسد أنهكته السنون ، الشباب الذي خرج كالرياحين من حدائق الوطن فلون الدنيا بأحلامه وطموحاته ، رائحة الحرية التي تعزف سيمفونية جذلى يتراقص على أنغامها الشيوخ والعجائز ، ابتسامات العيون التي تضج بالفرح ، الجدران تحنو على السائرين ، قصص العشق التي أنبتتها أرصفة الميادين ، السكارى الذين يتخلون عن قنينة الخمر لأن الواقع صار أجمل ، الزغاريد والأغاريد التي تشنف الأسماع ، الطيور المهاجرة وهي تعود بعد أن صار لها وطن ، العلماء والمفكرون وهم يحنون للمشاركة في بناء مصر الثائرة الطاهرة العامرة بالطمأنينة. هوى ذلك الصرح الذي لم يكن خيالا بل واقعا تجسد وتجلى كأجمل ما يكون ، لذلك يبدو أن الزمن توقف بمن عاش تلك اللحظات الفريدة في تاريخ مصر ، لا يستطيعون أن يصدقوا ماحدث من انتكاسات آملين أن تكون ماتراه أعينهم مجرد كابوس ويزول. الثورة الطاهرة النقية البتول أغرت أطرافا كثيرة بركوب موجتها ، أفاقون ومدعون ولاعبو سيرك سياسي ادعوا أنهم شاركوا فيها أو فجروها ، فصائل وجماعات اقتادتها عنوة إلى حجرة المجلس العسكري ، ثم إلى بناية في المقطم ، ثم إلى عواصم خارجية ، العروس التي مثلوا بها وحاولوا اغتيال شرفها ، لم تكن أبدا تلك التي ذهبت معهم ، بل هي هنا كامنة بطهارتها ونضارتها في النفوس ، تختبيء في البيوت وفي صدور الشباب العاشق لبلده لتتجلى ذات يوم آخر. والسلطة التي تنكل بالجميع ، تحبس الشباب ، وتغتال الحريات ، وتلجأ لاصطناع ديكور برلمان ، وتطلق كلابها يمينا ويسارا للاغتيال المعنوي ، وفرض الصمت والخوف ، لن تستطيع أن تنال منها. بل إن حملات الاعتقال والترويع وتلفيق القضايا ، والتواطؤ على الفساد ، وتوجيه الإعلام ، تزيد من وتيرة الغضب الشعبي ، وتقرب اليوم الذي تتجلى فيه 25 يناير أخرى عفية نضرة مسالمة ، كما كانت أول مرة. مايؤخر ذلك اليوم الذي تقتص فيه الثورة من ظلامها بالدستور والقانون ، هو الإرهاب الذي يحاول اقتطاع جزء غال من أرض مصر ليسرح ويمرح فيه كما يشاء ، تؤخر ذلك اليوم الدعوات إلى استخدام العنف وإشاعة الفوضى وتدمير الممتلكات والعبث بمقدرات المصريين ، والدخول في مواجهات مع الجيش المصري الذي يمثل ضمير الوطنية الصادق وإن حاول البعض الانحراف بمساره. لا نريد للثورة المصرية أن تنجر إلى ما انجرت إليه ثورات أخرى بدأت عفوية تلقائية ، ثم ارتمت في أحضان دول وأجهزة مخابرات عالمية ، فخربت بدل أن تصلح ، ويتمت مئات الآلاف وهجرت الملايين بدلا من أن تطعم وتواسى وتضمد جراح الوطن. نريدها ثورة تحفظ للوطن مقدراته وثرواته ، تصون أمنه واستقراره ، حتى وإن تأخرت سنين. لكن السلطة وأعداءها يلهثون معا نحو الوصول بالبلاد إلى فورة غضب جامحة ، تخرج من المصريين أسوأ مافيهم ، بعد أن أخرجت ثورة 25 يناير أجمل مافيهم. المشهد .. لا سقف للحرية المشهد .. لا سقف للحرية