الطريق طويل والمسافات بعيدة.. والقطار يمضي مسرعا يمزق أحشاء الشريط الحديدي متجها إلي القاهرة.. أصوات كثيرة متداخلة.. أعداد الركاب تتزايد أمام كل محطة يقف عندها القطار منذ اللحظة الاولي التي تحرك فيها من مدينة فاقوس.. أغاريد وأناشيد وهتافات كأنما تحول القطار بكل عرباته الي ميدان آخر للتحرير.. حاول عم حامد جاهدا ان يتفحص اكبر عدد من الواقفين امامه وخلفه وفي كل اتجاهات عربة القطار الذي يجلس فيها. جاء يوم الحساب.......... قالها عم حامد في نفسه بينما يترقب كل همسة وكل حركة وكل ضحكة ويري كل دمعة.. عالم ثوري يحيط به من كل مكان.. وأنشودة واحدة تلتف حولها الحناجر.. رجال ونساء شباب وفتيات وأطفال. بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي.. كانت الدمعات الساخنة تنساب رقراقة علي خدي عم حامد الذي أغمض عينيه للحظات رأي فيها مشاهد كثيرة.. رأي مشهد احتضار زوجته التي عانت لسنوات من مرض السرطان.. ورأي مشهد ابنته الكبري وأطفالها بعدما انفصل عنها زوجها الذي لم يستطع ان يلبي احتياجات اسرته ورأي مشهد ابنةالذي تخرج منذ سنوات بعيدة دون ان يستطيع الالتحاق بوظيفة حكومية كما رأي مشهد ابنته الصغري المتمردة علي كل شيء تراه ناعية حظها الذي اوجدها في زمن بغيض قاتل لكل شيء جميل حتي اصابها الهزال البادي علي كل جزء من اجزاء جسدها المتأهب لاستقبال الحياة بفرض ما ينبغي ان يكون عليه هذا الجسد.. لكن واقع الحال ينبيء من وجهة نظرها عن ان هناك قنبلة موقوتة لا شك أنها ذات يوم ستنفجر.. وقد كانت ثورة52 يناير بمثابة هذه القنبلة التي انفجرت فأزالت رؤوسا كان من رابع المستحيلات الاطاحة بها. الشعب يريد اسقاط النظام هتاف يبدو كما لو كان كأغاريد ترتقي دوما الي عنان السماء لتتلاقي مع شمس النهار ثم تعود لتعانق قمر الليل.. تنهد عم حامد مبتهجا بما يحدث وخالطه يقين قد ملأ عليه سويداء قلبه فآمن بان هذا النظام لابد ان يسقط.. ذلك الايمان الذي جعله يقطع عمل يومه كصاحب كشك شاي بجوار مقر الحزب الوطني بمدينة فاقوس.. تركزت نظراته بين الحين والاخر علي شاشة التلفاز بداخل محل السيد الحلاق الذي يفصل بين كشك عم حامد ومقر الحزب الوطني فانصب جل اهتمامه بما يدور من حوله لما رأي مئات الالاف في أماكن متفرقة وفي توقيت واحد انشودتهم واحدة وأغنيتهم واحدة( الشعب يريد اسقاط النظام). كان قد اتخذ قراره الأخير بأن يكون شريكا في اسقاط نظام جعله كطائر وضعوه فوق مقلاة زيت مشتعلة فلا هو قد وافته المنية فاستراح, ولا هو قد ازرته القدرة علي الفرار في أقرب قارب للنجاه من الموت المحقق.. كان الزحام داخل عربة القطار قد أجبر عم حامد علي ان يحمل دلوه الصاج الممتليء بالأدوات البسيطة التي تكفي لإدارة مقهي صغير وساعده الواقفون ان يضع دلوه علي الحامل الخشبي بأعلي سقف القطار الذي أوشك علي الوصول الي محطة رمسيس.. بينما قطار عمر عم حامد لم يفارق بعد محطة الحياة.. فكان ذلك حافزا سيطر علي كل ذرة من ذرات جسده وهام شوقا الي اسقاط النظام, ومما ضاعف من ايمانه بضرورة هذا السقوط ذلك الخلاف الشديد الذي نشب بين الاستاذ لطيف الموظف بمقر الحزب الوطني وبين السيد الحلاق عندما قذفه الحلاق بحجر جعل الدماء تتناثر هنا وهناك وأقسم الحلاق حينها بأن يشعل النيران في تلك اللافته البغيضة البالية المعلقة في اعلي مبني مقر الحزب بل وسيشعل النيران في مبني المقر ذاته ان لم يقم الاستاذ لطيف بنفسه بإزالة تلك اللافتة.. وكان هذا القسم بمثابة الجرح الذي أدمي قلب الاستاذ لطيف الذي لم يعد لطيفا حين حاول جاهدا ان يقبض بيديه علي رقبة السيد الحلاق الذي ما ان افلت من قبضته حتي قذفه بحجر أصاب رأسه.......... كان ركاب القطار الذي يقل عم حامد قد وصلوا الي ميدان التحرير وأعقب القطار قطارات أخري وميدان التحرير الذي بدأ أمامه كبقعة طاهرة تضم حجاج بيت الله... الالاف التي افرغتها بطون عشرات القطارات ومئات السيارات في شكل صفوف وحلقات تعلوها اعلام ورايات.. لافتات صغيرة وكبيرة.. هتافات واناشيد ادخلت السرور علي قلب عم حامد الذي اتخذ موقعه في احد جوانب الميدان يوزع علي الثائرين اكوابا من الشاي تلتها اكواب اخري.. وفي لحظة واحدة خالط فيها عم حامد شعور جامح.. شعور لم يعرف له مثيلا.. شعور بأن شيئا ماسيحدث قريبا.. وأن هذا الشيء بلا أدني ريب لابد ان يحدث.. والذي لابد له ان يحدث ان هذا الشعب سيسقط هذا النظام.. راح يدعم الشعب بصوته المبحوح. الشعب يريد اسقاط النظام.. كان عم حامد قد اتخذ قرارا اخر رغم تعرضه للخطر المحقق.. فإن افلت من شرك الزحام فلم ولن يفلت من شرك الرصاصات التي تتقاذف بكل قسوة الي صدور وقلوب وعيون ورءوس وأذرع وأرجل الثوار الذين علا هتافهم وزاد اصرارهم علي اسقاط النظام.. اخترق عم حامد الصفوف.. كل الصفوف حتي وقف حائلا بين الرصاصات وقلوب الثائرين.. تقدم الي الصفوف الاولي وقد اخذ التعب والاجهاد منه كل مأخذ.. وكانت خيوط العرق بادية علي وجهه الصغير.. كانت الطلقات تصرخ في وجوه الثائرين وكانت الصرخات الناعمة الهادئة تصدر عن عم حامد حين اخترقت جسده طلقات بغيضة فانهمرت الدماء التي صنعت حول جسد عم حامد خارطة جديدة للوطن.. كانت الابتسامة لاتزال ترتسم علي شفتيه حين طلب من الواقفين حوله ان يكتبوا علي ارض ميدان التحرير وبكل قطرة من قطرات دمائه صباحا جديدا للحرية. محمد الحديدي الشرقية