يكاد يجزم كثير من المؤرخين لحركة النهضة العربية بأن محمد علي باشا والي مصر المحروسة هو صاحب أول مشروع نهضوي عربي يتسم بملامح تنويرية وإن اختلفت أهداف النهضة لديه عن نهضة المواطنين آنذاك ، ففي تدشينه لمشروعه التوسعي بحكم أنه سيحكم مصر إلى نهايات غير محددة زمانياً استهدف اقتناص فرصة ضعف الخلافة العثمانية التي بدأ المرض السياسي والاجتماعي والتحلل الأخلاقي يدب في أواصلها ومفاصلها ، فكر في أن يقيم امبراطورية مصرية مقرها القاهرة ذات نفوذ عسكري وعلمي مستخدماً في ذلك كافة الوسائط الثقافية المتاحة وقتئذ من بعثات وترجمة واستلاب طاقة الأزهر الشريف الإيجابية في تعضيد مشروعه . ثم سرعان ما سقط محمد علي ومشروعه وفقاً للتحالف الأوروبي مع الكيان العثماني الضعيف والذي مارست الدول الأوروبية عليه كل ممارسات السيادة والقمع بحكم أن تركيا آنذاك لم تعد قادرة على الحراك السياسي في البلدان التي تخضع لها اسماً وتشريفاً دونما اتصال أو صلة رحم تاريخية .ورغم التوسع العسكري والحضاري الوئيد مقارنة بالاهتمام بتطوير البنية العسكرية فإن حركة التنوير لم تكن على نفس القدر إلا إذا اعتبرنا أن إنشاء المدارس الحديثة هي طور من تنامي الوعي بالثقافة . لكن من بزوغ عهد الخديو إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي بدأ عصر جديد وربما أول من التنوير في تاريخ مصر الحديث ، وصادف هوىالخديو إسماعيل بالحضارة الأوروبية وجود عقول مصرية وطنية ساعدت توظيف ميل إسماعيل إلى الأخذ بالحضارة الغربية وبتنوير الشعب المصري وإن كانت مظاهر التنوير مادية نوعية تخص فئات محددة أكثر منها معنوية تهم قطاعات المجتمع ككل . لكن تحسب له تجربة التنوير الأولى والتي كان أحد مظاهرها إنشاء أول مدرسة لتعليم الفتيات في مصر وهي المدرسة السنية التي قدمت الأدب واللغة والتاريخ والاقتصاد المنزلي وفنون الإتيكيت لفتياتها وكانت مصر بذلك هي أول دولة بالمنطقة تخصص تعليماً للمرأة . لكن رغم ذلك أيضاً لم يكن التنوير الثقافي والديني يأخذ قدراً من الاهتمام الكافي من قبل سلطة الحكم وحتى المواطن العادي حيث إن المؤرخين للحركات الثقافية أجبروا طلابنا عن طريق اقتناصهم لقصيدة هنا وقصة مهملة هناك وخطبة منبرية عابرة للتأكيد على وجود حركة ثقافية تنويرية بالمعنى المعاصر ، لكن ما هي إلا حراك ذاتي يخص أصحابه وحدهم دون التعميم بحالة ثقافية سائدة. لكن من الواضح أن حركة التنوير لم تصل بعد إلى حد شيوع الثقافة السياسية والاجتماعية المستنيرة ، حتى بعد بزوغ نجم قاسم أمين الذي أضر بالمرأة العربية والمصرية أكثر مما أفادها وشاع السفور بدلاً من العفة على مستوى المشاركة غير الفاعلة للنساء في الحراك الثقافي والاجتماعي والذي لم يتجاوز خلع الحجاب والمشاركة في الهتاف والصراخ تنديداً بالمستعمر وممارساته البذيئة . ولعل أبرز أسباب فشل التنوير في مجتمعاتنا العربية هو فقر التوظيف المعرفي للنظريات النقدية ، فلقد شاع في نظر كثيرين ممن لا ينتمي إلى الثقافة الليبرالية والتيارات المدنية أن التنوير ارتبط بنقد الفكر الديني أو بالأحرى نقد النصوص التراثية التي كتبها السلف ، ولربما في ظنهم قليل من الصحة أيضاً ، لأن كثيرا ممن استبقوا طوابير التنوير والمشروع النهضوي العربي قاموا بتوجيه بعض اللوم على كتابات رجال الدين لاسيما المتفقهين منهم . ثم أفرد المعاصرون صحائف كثيرة من مصنفاتهم لنقد العقل العربي ونقد نقد هذا العقل في تفكيره وتأويله وتلقيه للنصوص الدينية في عصورها التاريخية المختلفة ، حتى وقتنا الراهن يقع كثيرون من المثقفين في شَرَك وفخ اقتناص النص الديني والذي لا يقصد به القرآن الكريم على الإطلاق بل الكتابات الدينية فراحوا يهاجمون ويستلبون ويقيمون محاكم تفتيش للنوايا والأهواء والأغراض المستترة والمسكوت عنها . ومشكلة هؤلاء أنهم لا يدركون أن نقدهم يتعلق بمقدسات أعني الحديث النبوي الشريف والصحيح ، وتبدو المشكلة أكثر وضوحا حينما يستند أولئك على آيات من الذكر الحكيم قد لا تتصل بسياق الاتهام الموجه للكتابات الدينية والفقهية ، لذلك فإن اللغة المطلقة التي يستخدمها ناقدو الخطاب الديني القديم تشكل أزمة في التلقي لدى العامة والمثقفين على السواء . وهم في نقدهم يسعون جاهدين إلى تكوين الاتجاهات المضادة والعكسية لا السعي صوب التنوير والاستنارة وهذا هو أبرز أسباب فشل المشروع النهضوي المعاصر. ولا تزال تجربة التنوير العربية تعاني التخبط والفشل لأنها تركز على المسائل الفقهية الهامشية نادرة الحدوث بل إن من أطرف ما استمعت إليه مجادلة تلفازية لرجل إعلامي لا يمكن توصيفه بالشيخ أو المفكر الديني يسعى إلى تعجيز ضيوف البرنامج بالبحث عن نوع النملة التي تحدثت إلى سليمان وهذا من باب الخطاب الديني المعاصر الذي ينبغي تجديده وتطويره بل ونسفه وخلق خطاب ديني مستنير يستهدف التنمية الدينية والاستنارة العقلية . ولكي نجدد خطابنا التنويري العربي فإن التركيز على أسباب فشله من أول محاولات التطوير ، ومن هذه الأسباب أن هناك خلطا كبيرا بين وقائع الحدث وصاحب سرده التاريخي وهو الأمر الذي يتشكك فيه كثيرون ويجدون فيه ملاذا لاتهام النص أو الطرح الديني وهو الأمر الذي ظهر مؤخرا في الاحتدام الإعلامي بين إسلام بحيري وعلماء الأزهر الشريف ولا يزال قائماً بغير انقطاع. وإذا كان المعاصرون لا يزالوا يجترون حكايات بدايات التنوير على أيدي مصطفى عبد الرازق ومحمد عبده وطه حسين ورفاعة الطهطاوي وغيرهم رغم أنهم موقوفون عند حدود العرض السردي لطرح هؤلاء السابقين ومناقشة آرائهم حول بعض القضايا التي انتهت صلاحيتها الزمنية وهو الأمر الذي يعزى إليه فشل خطاب التنوير المعاصر . بجانب حركة الاجتهاد الفقهي البليدة والتي نصف بها حالة الاجتهاد الراهن من ظهور بعض الوجوه الإعلامية الدينية التي عادت لمناقشة وطرح قضايا فقهية تلقي بالعقل العربي بعيداً عن مشكلاته الراهنة وأزماته اليومية الحقيقية لاسيما التي تتعلق بواقعه الديني . إن مشكلة التنوير حاليا هي التقليد ليس أكثر ، وعلى القارئ أن يراجع كل محاولات المدعين بالتجديد أو بالأدق الأكثر إثارة للخلافات الفكرية الدينية ليكتشف أن مسعى المجتهدين الجدد صار قاصرا على إثارة الدهشة فحسب ، فأين التنوير وأين تلك النهضة العقلية التي تحث على التفكير وإعمال العقل ؟ إن أردنا التنوير بحق بغير فشل أو إخفاق فعلينا الرجوع إلى قرآننا الكريم الذي يقول اله تعالى فيه ( ما فرطنا في الكتاب من شئ ) ( سورة الأنعام آية 38 ) ، والحديث النبوي الشريف الصحيح والثابت بالقطعية ، لكننا مقتصرون على الوقوف عند شواطئ الطروحات الدينية التي تتسم بالمبالغة في إتعاب الفكر وكثرة النظر في الشواهد الظنية . المشهد.. لا سقف للحرية المشهد.. لا سقف للحرية