يستابق مفكرو الطرح النقدي العربي بسئوالهم المحموم المتداعي منذ فترة : هل انتفى فعل التجديد من حياتنا المعاصرة ؟ الواقع يؤكد أن الطروحات التنظيرية سواء على مستوييها الفقهي والنقدي لم يصبها فعل الجمود ، بل إن كتابات الصحافة العربية تشير بقوة إلى حضور حالة من الهوس الاجتهادي لكن في بوصلته السلبية لا التجديد بخارطة طريق المجدد الإمام محمد عبده ، إنما هو تجديد سلبي يؤدي عادة إلى الفوضى وزعزعة الاستقرار الذهني للأفكار في المجتمعات التي طالما تنعمت بسماحة الطرح الديني والنقدي . ومشكلة التجديد الراهنة ليست في الطرح فحسب ، بل في عمليات تلقي وتأويل النصوص الدينية الفقهية والنقدية القديمة ، لاسيما وأن المتلقي دوما غير مبال بالسياقات التاريخية والاجتماعية وربما الانفعالية الموازية لهذه النصوص ، الأمر الذي يجعل تلقيها مسألة غامضة نرى صداها في فتاوى القتل والتكفير والغلو ونظريات النقد المغالبة لنصوص الأدب الحداثوي . وليست مفاجأة حينما نشير إلى أن أقطاب وأصحاب الطرح الفقهي المعاصر والذي يتسم بالغلو والإفراط والتفريط لا يراهنون على المتلقي المشاغب ، لا الشغب كفعل سلوكي إنساني لفظي أو غير لفظي ، بل الشغب العقلي المحمود الذي يستنبط ويستقرئ ويؤول ويناقش الفكرة بعمق ليصل إلى نتيجة تتعلق بالنص المقروء أو بالقضية الفقهية أو النقدية المطروحة . ومشكلة فعل التجديد في هذا الخطاب الفقهي أنه بالفعل نص خطابي يقدم من خلال منبر متعال لا يصل إلى أرضية جمهوره بل إلى مستوى التلقي السمعي فقط ، هذا برسم تخيلي ، ويجزم كثيرون من رواد التنوير أن النص التراثي الفقهي والنقدي تعرض لقراءات متعددة ومتباينة غير مستقرة ، استطاعت كل قراءة أن تنظر للنص التراثي من زاوية تخصصية أقل ما توصف بأنها قاصرة وعاجزة لأنها لا تحيط بالنص من كافة جوانبة الثقافية والسياسية والتاريخية والجغرافية وخصائص اللغة في وقت إنتاجه ، وسمات الحضارة المجتمعية في أوان طرح هذا النص ، الأمور التي جعلت متلقي النص لا يطيق بتأويله فاكتفى بأخذ ما يدعم رأيه المغالي ، أو يعزز قضيته المعاصرة برأي مقتطع من سياقه الأصلي . هكذا ارتكبنا أخطاء كثيرة ونحن بصدد النصوص الفقهية والطروحات النقدية لابن تيمية وابن خلدون وأبي الأعلى المودودي حتى بعض روادنا التنويريين أخطأنا ونحن نحدب ونقعر مرايانا المتعددة في اقتناص تفاصيل استثنائية من زاوية قاصرة محدودة ، تم هذا في تناول كتابات محمد عبده وطه حسين ونصر حامد أبو زيد وعابد الجابري ومالك بن نبي وأدونيس . ومما لاشك فيه أن حضور التراث بنصوصه كثيف في حياتنا المعاصرة بشهادة أساتذة متخصصون في هذا الشان ، لكن رغم الحضور الشديد لنصوص غائبة عن مشهدنا الراهن المجتمعي فإن المؤسسات الدينية والتعليمية لا تزال تقف مكتوفة الأيدي والأقدام أيضا وعاجزة عن مهمة التصدي لقراءة هذه النصوص وتحليلها وتفسيرها أو بالأحرى تهيئة المتعلمين كباحثين يستطيعون فعل التأويل . وفي هذا الشأن من الطبيعي أن نشير إلى محاولات أخرى دعمت فعل القراءة والفهم والتأويل حتى وإن كانت مغايرة لطبيعتنا العربية غير القارئة رغم أن البيئة العربية هي مصدر ورافد ثري وخصب للتنوير والتثقيف . فعلى سبيل المثال حينما استطاع الاتحاد السوفيتي المنحل سياسيا أن يطلق القمر الصناعي سبوتنيك إلى الفضاء العريضة قفزت الولاياتالمتحدة وقتها لتلعن حال القراءة المدرسية وواقع تعليم القراءة في مدارسها وجامعاتها ، الأمر الذي دفعها بعد ذلك لتقديم أخطر تقريرين عن القراءة والثقافة عموما وهما تقرير Becoming a Nation of Reading لنكن أمة من القراء ، وتقرير No Child Left Behind لن نترك طفلا في المؤخرة ، وبذلك استطاعت الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تفجر ثورة معرفية لخلق قارئ متميز مستخدمة في ذلك شعارات مفادها " سنغير العالم بطفل يقرأ " ، و " سنغير العالم بطفل نضع أمامه قصة " . وأستاذنا العالم التربوي الأستاذ الدكتور فتحي علي يونس رائد تعليم القراءة في الوطن العربي يذكر كثيرا من أهمية القراءة وتجارب الشعوب الناهضة في الارتقاء بأممهم عن طريق الفهم القرائي وتنمية مهارات النقد والتفسير والتأويل وخطورة القراءة وضرورتها في بناء الأوطان والحضارات ، كل هذا في كتابه الأخير الماتع والرائع " اتجاهات حديثة وقضايا أساسية في تعليم القراءة وبناء المنهج " . أيضا يشير العالم والمفكر التربوي الكبير الدكتور حسن سيد شحاتة أستاذ ورائد تعليم اللغة العربية بالوطن العربي في كتبه المثيرة للتفكير والخاصة بتطوير تعليم اللغة إلى ضرورة الاهتمام بالقراءة وتنمية مهاراتها المتعددة وحرص المؤسسات التعليمية على استخدام استراتيجيات معرفية جديدة من شأنها تطوير فعل القراءة لدى المتعلمين ، وأذكر له كتابه الرائع " استراتيجيات التعليم والتعلم الحديثة وصناعة العقل العربي " والذي أشار فيه إلى استراتيجيات عقلية يمكن استغلالها بطريقة إيجابية داخل مؤسساتنا التعليمية العربية لتطوير القراءة ومهاراتها لدى الطلاب لأن القراءة هي ألف باء الحضارة . وعود على بدء لقضية التجديد الفقهي والديني في ظل وجود أمة عربية غير قارئة فإن الصلة بيننا وبين نصوصنا التراثية ستظل محل جدال وصراع نستمرئ في آخر الرحلة تلك إلى الإذعان المطلق لفتاوى تكفيرية وآراء متطرفة تغرق الأوطان في فتن وحروب طائفية اللهم إذا استفاقت المؤسسات الدينية والتعليمية وأخذت على عاتقها ضرورة تنمية مهارات القراءة التأويلية وتفسير المقروء وتحليله بقصد الوصول إلى منتوج ثقافي إيجابي . وحينما سمعت لأول مرة عن تنظيم الدولة الإسلامية داعش ومن قبلها الفتاوى الساخنة التي ضربت القنوات الفضائية بقوة وعنف خلال مد التيارات السياسية الإسلامية أو ما عرف بتيارات الإسلام السياسي كان طبيعيا توقع الحالة الراكدة التي وصلنا إليها في مجال التجديد الفقهي والنقدي لأن المؤسسة التعليمية لا سيما الدينية كانت ولا تزال غائبة عن المشهد القرائي والثقافي العام ، بل إن كثيراً من علماء الدين وأساتذة النقد يرفضون كل ما يشير إلى كلمات بعينها مثل التجديد والتطوير والتفسير وحذار أن تتلفظ بكلمة التأويل أمام بعضهم لأن تلك الكلمة قد تخرجك على الفور من الملة والعقيدة هذا في ظنهم وتفكيرهم القاصر. والقرآن الكريم نفسه دستور المسلمين في كافة بقاع الكرة الأرضية حرص على تعزيز إعمال العقل والقراءة والتدبر المحمود الأمور التي تدفعنا إلى إيجاد خطاب فقهي ونقدي مستنير ، وقد نزلت أول آية من القرآن تحض على القراءة والتعلم، وقد أقسم الله بالقلم، يقول الله تعالى: ن . والقلم وما يسطرون ( القلم 1) كما قرن الله سبحانه وتعالى أهل العلم به وملائكته ، يقول تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (آل عمران 18). والقرآن الكريم يحث المؤمن على استعمال العقل إلى أقصى حد مستطاع، ويشيد بمن يستعمله، ويعمل فكره في النظر والتدبر، واستخلاص البراهين والنتائج من المعلومات التي تتوافر لديه من الأمور الدينية والدنيوية. يقول الله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ( ص 29)، ويقول تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ( العنكبوت 43) . لقد كذبنا على أنفسنا حينما قلنا بأننا نطبق فكر الحداثة ، وضللنا أنفسنا وغيرنا وقتما دعمنا فكر الحداثوية لأننا بالفعل سقطنا في أول اختبار للمعرفة حينما هبطت علينا فتاوى تنظيم الدولة الإسلامية وطفق يلهج وراءها كثيرون من أبناء المؤسسات العربية التعليمية ، ولقد آن الوقت بغير لحظة تردد أن نجتهد ونقرأ ثم نقرأ . المشهد.. لا سقف للحرية المشهد.. لا سقف للحرية