شيخ الأزهر ورئيس سنغافورة يواصلان الضغط لوقف العدوان على غزة    إيتيدا تعزز حضورها بالمحافظات عبر الملتقى التوظيفي الثامن عشر ببني سويف    رئيس مياه الأقصر يتفقد محطة معالجة الدبابية ويتابع شبكات الصرف الصحي في المساوية    140 مليار دولار صادرات بعد 5 سنوات    روبيو يؤكد التزام الولايات المتحدة بتعزيز العلاقات الثنائية مع جامايكا    الإضراب العام لأجل غزة يغلق الموانئ في إيطاليا    يونيسف: مقتل 11 طفلا في غارة بطائرة مسيرة على مسجد بالفاشر السودانية    نادي الزهور يحدد موعد إجراء الانتخابات ومناقشة الميزانية    أليو ديانج يوافق على تجديد عقده مع الأهلي.. جلسة بعد القمة لحسم التفاصيل    حيرة فى الأهلى بسبب المدرب الأجنبى    برشلونة يعلن إصابة فيرمين لوبيز ويحدد مدة غيابه    منع المطربة بوسى من السفر    مسلم يعلن انفصاله عن زوجته.. «حسبي الله في اللي كان السبب»    من هم ال70 ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب؟ رمضان عبد المعز يوضح    في الخريف.. علامات تكشف إصابتك بحساسية الأنف    جامعة كفر الشيخ تبحث مع نائب وزير الصحة تنفيذ الخطة العاجلة للسكان والتنمية 2025–2027    في لقاء حصري... عمرو سليمان يتحدث عن مستقبل الاستثمار العقاري في مصر    أول رد من أرملة إبراهيم شيكا على رغبة وفاء عامر في استرداد شقتها    حفل استقبال الطلاب الجدد بكلية العلوم جامعة الفيوم.. صور    الحبس 6 أشهر لصانعة المحتوى أم سجدة في اتهامها بالاعتداء على القيم والمبادئ الأسرية    بحضور وكيل الأزهر والمفتي ووزير الأوقاف.. نقابة الأشراف تُحيي ذكرى المولد النبوي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 22سبتمبر2025 في المنيا    الداخلية تكشف ملابسات فيديو تعاطي المخدرات أسفل أحد العقارات بالقاهرة    السفير سيف قنديل: النسخة الخامسة من منتدى أسوان ستضم دوائر رجال الأعمال والمؤسسات الإنسانية    ضبط 13 مليون جنيه حصيلة الإتجار غير المشروع في النقد الأجنبي    الرئيس السيسي يقرر العفو عن علاء عبد الفتاح و5 آخرين    المدينة التي يجتاحها جيش الاحتلال.. إطلاق صاروخ من غزة صوب مستوطنة ناحل عوز    وسط فرحة الطلاب.. محافظ المنوفية يفتتح مدرستين ببروى وبكفر القلشى للتعليم الأساسي    طقس الإسكندرية اليوم.. أجواء معتدلة ودرجات الحرارة العظمى تسجل 30 درجة مئوية    عبد الله السعيد: أتمنى تتويج منتخب مصر بكأس الأمم وجاهز للعودة إذا طُلب مني    قبل 24 ساعة من اللقاء... أزمة في بث مباراة أهلي جدة وبيراميدز فضائيا    20.9% تراجعا فى أعداد العاملين الأجانب بالقطاع الحكومي والقطاع العام- الأعمال العام خلال 2024    إنجاز جديد لجامعة بنها بمؤشر نيتشر للأبحاث العلمية Nature Index    عميد معهد الفراعنة: اكتشفنا واقعة انتحال صفة رمضان صبحى بالامتحانات صدفة    مصرع فتاة وإصابة 6 في تصادم ميكروباصين بطريق العوايد بالإسكندرية    ضبط 6 آلاف علبة جبنة فاسدة داخل مخزن خلال حملة تموينية في الأقصر    بالصور - محافظ أسوان يتفقد 1540 مدرسة استعدادًا للعام الدراسي    رابط التقديم على وظائف بنك مصر 2025 لخدمة العملاء.. متاح الآن بدون خبرة    ب "التايجر".. ريم سامي تخطف الأنظار بإطلالة أنيقة    متحدث فتح للقاهرة الإخبارية: الاعتراف بالدولة الفلسطينية لحظة تاريخية فارقة    أمير كرارة: معايا صورة ل هنا الزاهد ممكن تدمرها لو نزلتها    بمشاركة نرمين الفقي وراجح داوود وإيهاب فهمي.. تعرف على لجان تحكيم مهرجان الغردقة الدورة الثالثة    هينسحبوا تمامًا.. 3 أبراج لا تقبل العلاقات السامة «التوكسيك»    "طلاب من أجل مصر" ترحب بدفعة طب الجديدة بجامعة بورسعيد الأهلية (صور)    عاجل- قراران جمهوريان بإنشاء منطقة جرجوب الاقتصادية وتخصيص أراضٍ للتنمية الصناعية    اللجنة المصرية لإغاثة أهالي غزة تتوصل لطفلي طريق الرشيد بغزة.. ووالدتهما: بشكر الرئيس السيسي    العوارى: ما يحدث للأبرياء من تدمير منازلهم لا يمت بصلة للأخلاق التي جاء بها الأنبياء جميعا    تأييد تغريم غادة والي 10 آلاف جنيه في سرقة رسومات فنان روسي    "البحوث الزراعية" ينظم المنتدى العلمي الأول حول تطبيقات الإدارة المتكاملة    رئيس جامعة القاهرة يتلقى تقريرا عن مؤشرات الأداء بمستشفيات قصر العيني    وزارة الصحة: تقديم 17 ألف خدمة طبية في طب نفس المسنين    تحذير من أدوية البرد للأطفال دون وصفة طبية    أكثر اللاعبين حصدا للكرة الذهبية عبر التاريخ    موعد أذان الظهر ليوم الإثنين ودعاء النبي عند ختم الصلاة    بعد الظهور الأول لهما.. ماذا قال ترامب عن لقائه ب ماسك؟    الدوري المصري بشكل حصري على "أبليكشن ON APP".. تعرف على طريقة تحميل التطبيق    خلال لقائه مع نظيره الكويتي .. وزير الخارجية يؤكد رفض مصر القاطع لأي محاولات للمساس بأمن واستقرار الخليج    أحمد العوضي: لو هتجوز مش هقول.. ومشغول بمسلسل «علي كلاي» لرمضان 2026    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنّة الكتاب ومتعة القراءة
نشر في محيط يوم 15 - 06 - 2009

كتاب بيروت
1 حسناً أن تكون بيروت عاصمة عالمية للكتاب للعام 2009. إنها تستحق ذلك بجدارة وامتياز، إذ الكتاب منارة من منائرها ومجلى لحيويتها وازدهارها، هي التي أتقنت صناعة الكتاب، وما تزال، منذ عقود؛ وهي التي شكلت، اساساً، مختبراً للتجارب ونموذجاً للتعايش ومنبرا ًلحرية الكلمة، بقدر ما انفتحت كمكان للتعدّد والتنوع والاختلاف والتعارض، في اللغات والافكار كما في المذاهب والمشارب أو في الانماط والنماذج. ولعل هذا ما أسهم اكبر المساهمة في أن يصنع للبنان قوته ومنعته في مواجهة الضغوط والحشود والجيوش والحروب.... بهذا المعنى تختلف بيروت عن نفسها، تماماً كما أن لبنان هو "هبة الاختلاف"، بتركيبته التعدّدية، وتلك هي ميزته، وربما مشكلته، بقدر ما يعجز اللبنانيون عن إدارة اختلافاتهم بصورة سلمية مدنية بنّاءة... أياً يكن، فما دامت بيروت هي عاصمة "الكتاب"، طوال عام، فإنها مناسبة لكي يصدر كتاب يسمى "كتاب بيروت" يضم ابرز النصوص والكلمات والشهادات التي كُتِبَت أو قيلت على امتداد العام، والتي تشهد على ريادة بيروت وتميّزها في عالم الكتاب بأركانه الثلاثة: الكاتب والناشر والمكتبة.
2 هذا الحدث يستدرج الكاتب، بنوع من الارتداد والتأمل الى الحديث عن الكتاب وقراءاته. وكما أن الكتابة تصبح عند الكاتب المحترف لعبته ورهانه، فإن الكتاب يغدو عند مؤلفه عالمه الاثير الذي يملأ به فراغه ويستغرق جّل وقته ونشاطه. وفي الحالات القصوى يمسي الكتاب بالنسبة للكاتب فردوسه الضائع أو المستحيل؛ فيتماهى معه، بوصفه أحد مخلوقاته، على ما فعل الروائي فلوبير الذي لخّص علاقته بروايته "مدام بوفاري" بقوله "أنا مدام بوفاري"، عاكساً بذلك الآية، حيث الخالق يتماهى مع مخلوقه وليس المخلوق مع خالقه. وفي حالة اخرى قصوى قد يتعلق المؤلف بنصوصه، تعلق عاشق بمعشوقه، كما كان من أمر الفارابي مع عقوله، أو كنط مع مقولاته وأحكامه، أو كما هي حال الشاعر بول شاوول مع سيجارته، إذا شئنا مثالاً حيّاً وطازجاً.
الغزو الجميل
3 للكتاب أثره وسحره. فقد يستحوذ على قارئه، لكي يستولي على حواسه وعقله أجمل استيلاء، على سبيل الإثراء والامتاع، بقدر ما يفاجئه بلغة مبتكرة، أو يفتح امامه ابواباً للمعرفة كانت موصدة، أو يرتحل بخياله نحو فضاءات جديدة، رمزية ومفهومية، غير مسبوقة ولا متوقعة... لكي ينتقل به من فتحٍ الى فتح أو من متعة الى اخرى. وهذا ما أعتبره نوعاً من الغزو، ولكنه غزو غنيّ وجميل ولذيذ.
بالطبع، هذه هي مفاعيل الكتب التي هي روائع فكرية أو تحف أدبية تعدّ آثاراً باقية في بابها أو في الثقافة العامة جملةً: نحن لا ننفك نعود اليها كمراجع للمعنى أو كمصادر للمصداقية والمشروعية، بقدر ما تشكّل إمكاناً للتفكير لا ينضب أو كمساحة للتأويل مفتوحة على تنوّع الدلالة وتعدّد المعنى، أو على توتر الفكر والتباس المفهوم، أو على حيرة العقل وتناقض الاطروحة، فضلاً عن مخاتلة اللغة ومراوغة الخطاب...
وأنا عندما أدخل الى مكتبة "أنطوان"، في شارع الحمراء ببيروت، ومنها أتزوّد، منذ عقود، ما أقرأه وأقتنيه من الكتب والمجلات باللغة الفرنسية، أقول لمن تتولى أو يتولى شؤون المحاسبة، على سبيل الدعابة، من النادر أن أدخل الى هذا المكان، دون أن أقع في الفخ، لكي يتم اصطيادي كفريسة دسمة، وأنا أقصد بذلك دفع ثمن ما اشتريت من الورق، وقد يكون احياناً باهظاً.
ولكن أنا من يفوز في النهاية، بصيد ثمين، من حيث القيمة الرمزية والمردود المعنوي الذي يفوق القيمة المادية، بما لا يُقاس، بحسب نظرتنا المثالية، نحن ككتّاب ومثقفين، سيما اذا كان الكتاب (أو المجلة) عظيم الفائدة، قوي الأثر، بما يمتاز به من الجدة والاصالة والابتكار، أو بما يثيره في النفس من مشاعر الدهشة والروعة أو النشوة.
4 كل صنيع مبتكر، في بابه، أكان فلسفة أم شعراً ام رسماً ام اسطورة ام عقيدةً أم شريعة... إنما يخترق حواجز اللغات والثقافات أو العصور لكي يشكّل عملاً يمتلك مفاعيله التحويلية في تغيير جغرافية المعنى وعلاقات القوة، بقدر ما يرتاد مناطق غير مسبوقة، أو يطرح اسئلة غير متوقعة، أو يستخدم عدة جديدة؛ كما يمتلك مفاعيله التنويرية أو التحررية، بقدر ما يسهم في كشف آليات الحجب والاقصاء والخداع، أو تعرية أو انماط الاستئثار والمصادرة والاحتكار، أو فضح ممارسات الشعوذة أو التهويم والتشبيح.
مثالاً، هذا شأن الرواية المبتكرة بسردها وشخوصها وعوالمها. إذ هي بالسبر الخارق والتخيل الخلاق، تشكّل عملية مركبة ومزدوجة، وجهها الاول هو التفكيك والتعرية لما يُبنى به الواقع المرئي والظاهر على السطح، مما هو منسي أو محجوب أو غائر، من الاطياف والهوامات أو الكوابيس والاشباح أو الدهاليز والمتاهات أو الالغاز والاسرار... ووجهها الآخر هو اعادة بناء الواقع عبر تركيب الشخوص وخلق الحيوات التي تنشغل بمعاشها وترزح تحت همومها أو تعاني مآزقها وتقود مصائرها. ولعلّ هذا ما جعل البعض يقول بأن الرواية الممتازة هي واقعية اكثر من الواقع نفسه، بمعنى أن الكتابة السردية الخارقة التي تصدر عن تجربة فذة تستكشف الوجود في دائرة من دوائره، إنما تشكّل هي نفسها واقعةً تغيّر نظرتنا الى الواقع بقدر ما تُسهم في تغييره.
مُتعتان
5 الكتاب الخارق قد يغير علاقة المرء بنفسه ولغته، كما بالعالم والاشياء، على نحو يتغيّر معه نمط تفكيره أو خريطته الفكرية. وقد تتغير خريطته العاطفية بالذات، وعلى نحو يتيح له أن يمارس حيويته الوجودية بأبعادها المعرفية والسياسية والايروسية العشقية. هذا ما يحدث عند من يقرأ الكتاب بشغف ونهم، بحيث يلتهم عباراته ويتماهى مع صوره ورؤاه، أو ينتشي بتمثلاته وإيحاءاته وتداعياته، على نحو ما نلتهم المواد أو نلتحم بالاجساد. وتلك هي لذة القراءة التي هي الوجه الآخر لمتعة الكتابة.
ولا يتعلق الأمر هنا بمُتعٍ روحانية مقابل مُتعٍ مادية. فاللذة هي ما يناله أو يبلغه جسدنا بدماغه واعضائه وآلاته وقواه وجوارحه... ولذا تتنوع المتع من حيث أصنافها وأنماطها. قد يتعلق الامر بالوجوه وقسماتها أو بالاجساد وتضاريسها، كما يمكن أن يتعلق بالنصوص وخرائطها أو بالكلمات ومعانيها أو بالمفاهيم وقوتها. وهذه حال اللسان، قد يكون مصدراً أو اداة لمتعتين: متعة تذوق الطعوم والاجسام، ومتعة الحديث والفهم لدى سماع الكلام...
وهم القبض
6 غير أن الكتاب الذي يتمتّع بالغنى والفرادة والأصالة والذي هو إمكان للتفكير والتخيّل، ليس هو مرآة للحقيقة، ولذا لا يُقرأ بوصفه مجرد مخزن للمعارف أو بيان بالحقائق أو سجل للمعلومات أو مجمع للقواعد والفضائل. هذا مستوى للقراءة مفيد ولا غنى عنه. ولكن مآله عند مَن يتوقف عنده، هو الختم على العقول، لأن كل نص يعبّر في النهاية عن تجربة صاحبه ويجسد فرادته، بقدر ما يحمل ختمه وبصماته.
ثمة مستوى آخر للقراءة، هو أن يعامل الكتاب كفضاء مفتوح على امكاناته، بحيث يشكّل مادة للدرس والتحليل، أو حقلاً للحرث والتنقيب، أو مادة للخلق والتحويل، أو أداة لاعادة التركيب والبناء.. من هنا، فالمماهاة مع النص من اجل القبض على معناه، امر مستحيل، سواء تعلّق الأمر بالتفسير أو الشرح أو الترجمة، لأن لكل خطاب بنيته، ولكل منطوق معناه وعالمه الدلاليّ. قد يظنّ القارئ أنه يجد نفسه أو يعثر على ضالّته من الحقيقة في كتاب من الكتب. وهذا اعتقاد خادع يشبه اعتقاد المترجم أن بوسعه أن ينقل نصاً من لغة الى لغة بصورة حرفية. ذلك أن كل تعاطٍ فعّال مع النص يخلق مساحةً أو يُعدّ مجازاً للعبور بين الحقيقة والوهم أو بين الواقع والمتخيّل. ولذا كل قراءة مُنتجة تختلف عن النص المقروء. كلّ تفسير فعّال ينطوي على قدر من الاحالة والزحزحة، كما كل ترجمة ناجحة هي ضرب من التحويل الخلاّق، مما يعني في النهاية أن كل قارئ يصنع حقيقته على نحوٍ من الألحان.
7 ليست كل النصوص، منبعاً للامكان أو حقلاً للرهان، ولا هي كلها ادوات للكشف والتنوير أو للتحرير والتغيير. هناك الكتب ذات المحتوى العقائدي والايديولوجي أو التوجّه الخُلقي والتعليمي، وهي كتب يريد اصحابها من الناس الطاعة والامتثال، لأنهم يهتمون بالقولبة والتطويع أو بالتعبئة والتجييش للسيطرة على العقول والاجساد.
هذه هي بنوع خاص الكتب التي يدّعي اصحابها امتلاك الحقيقة، لكي يحتكروا المشروعية ويمارسوا الوكالة الحصرية على القيم والمثل والفضائل. ولذا فهي تشكّل اعتداءً رمزياً على الآخر، يترجم باتّهامه وأبلسته وإقصائه، وفي المآل الأقصى تعمل على تفخيخ العقول وتلغيم المجتمعات بقدر ما تتحول الى متاريس لبث الكره وممارسة العنف ونشر الارهاب أو زرع الخراب.
والوجه الآخر للكتاب المغلق على اصوله وثوابته، هو القراءة الاحادية الوجه والدلالة والمعنى. سيما عندما يدّعي صاحبها القبض على المعنى على وجه يقيني وقاطع. والقراءة الاحادية مآلها الحجب والخداع والافقار، سواء تعلق الامر بالكتاب المفتوح على احتمالاته أو بالكتاب الذي هو منظومة عقائدية صارمة.
ففي حالة الكتاب المفتوح على تعدّد المعنى، تعمل القراءة الاحادية على التبسيط والاختزال أو المسخ أو التشويه، لتنتج فقر المعنى وضحالة الفكر، بقدر ما تحيل النص الى مدرسة جامدة أو الى جملة تعليمات ومقررات.
أما اذا كان الكتاب هو في الاساس من الصنف المُغلق، فإن القراءة الاحادية تزيد الامور بؤساً على بؤس وفقراً على فقر أو حجباً على حجب، لكي تضاعف الاستبعاد وتنتج الاستعباد، كما يمارس الارهاب الفكري والرمزي، أو المادي والجسدي، على يد الاصوليات المختلفة، دينية أو قومية أو علمانية أو اجتماعية... فالاصوليات المتصارعة تتواطأ، من حيث أحاديتها الاستبدادية، في صناعة التمييز أو الالغاء.
القراءة الاتهامية
9 من المثالات على القراءة الاحادية الحصرية، القراءات السائدة للكتب الغيبية التي هي مساحات للتأويل، بقدر ما هي حمّالة أوجه بتعدد دلالاتها والتباس معانيها واشتباه أسمائها وآياتها. هذه القراءات تحيل النصوص الى مذهب بعينه يلغي ما عداه. وفي الحالة القصوى، تحيله الى مجرد حكم جائر أو الى متحجرة فكرية أو الى فتوى تكفيرية.
وهذا شأن القراءات الاحادية لكتب فلسفية كمؤلفات ماركس التي حوّلها الاتباع الى اصنام نظرية وأقانيم عقائدية مفهومية أو تنانين ثورية. ومن الامثلة ايضاً على القراءات الأحادية الاستبعادية، القراءةُ الاتهامية لأعمال نيتشه بوصفها تمجّد العنصرية أو تمهد للفاشية، أو القراءةُ العدوانية لأعمال هايدغر بوصفها معادية للسامية. هذا في حين أن الواقع يتعلق بنصوص تستعصي على الحصر والقبض والتيقن، بما تمتاز به من الكثافة والغنى والالتباس... ولذا كانت مجالاً لقراءات مختلفة ومتعددة ومتعارضة.
والمثال الاقرب الينا اليوم هو ما تتعرّض له كتابات أدونيس وآراؤه النقدية للأوضاع العربية، ثقافةً وحضارةً وفكراً وسياسةً، من القراءات الاتهامية والعدوانية، من منطلق شخصي أو مذهبي أو سياسي. مثل هذه القراءات تهرب من المشكل وتتستّر على الأخطاء والمساوئ، بقدر ما يمارس أصحابها ما تتقنه الأصوليات والأنظمة الشمولية من التهويل الإيديولوجي والتشبيح النضالي.
القراءة الخلاّقة
10 القراءات المفتوحة هي على العكس من ذلك، إنما تقرأ في النص ما وراء القول أو ما تحته أو ما قبله او ما وراءه مما هو مهمش أو مستبعد أو مطوي، بل هي تقرأ ما هو بديهي لأن النص يحجب بداهته، أي واقعه وسلطته ومفاعيله، إذاً هو يحجب أثره المزدوج على صاحبه وعلى الشيء نفسه، أولاً لأن المتكلّم يتأثر من حيث لا يحتسب بالكلام الذي يستعمله، وثانياً لأن ما نقوله عن الشيء ليس الشيء نفسه بل ما ننجزه من أعمال الصُنع أو البناء أو التركيب أو التحويل. وأياً يكن الامر، فالحصيلة هي قيمة مضافة يتجدد معها المعنى أو يتّسع الفهم أو تغتني المعرفة...
ومن الامثلة البارزة على ذلك، قراءات الجرجاني لنصوص شعرية أو لآيات قرآنية قراءة خلاقة وخصبة أسهمت في اغناء علوم البلاغة والبيان والمعنى...
ومن الامثلة الحديثة على ذلك، قراءة نيتشه لزرادشت. فهي لم توقفنا على الطريقة التي كان يفكر فيها زرادشت أو يتكلم بها، بل اخترعت له شخصية مفهومية جديدة، فأخرجته من الظلمات الى النور، بقدر ما غيّرت نظرتنا لفكره وسيرته. ومن الامثلة ايضاً قراءات ميشال فوكو للخطابات والنصوص التي أثمرت فرعاً معرفياً جديداً، "أثريات المعرفة"، تغيرت معه نظرتنا للمعرفة والحقيقة، كما للغة والخطاب...
التُقى الفكري
11 الكلام عن القراءة يُعيدنا الى مسألة ما زالت تشغل المعنيين من أهل الكتابة والعاملين في ميادين وفروع المعرفة، فضلاً عن المهتمين بقضايا التنوير والتحديث والنهضة: كيف نقرأ الكتب القديمة، أكانت دينية أم غير دينية؟
بالطبع أن أهل الثنائيات الضدية والقراءات الاحادية إنما يتعاملون مع النصوص بعقلية التهمة ومنطق المماهاة أو بمنهج الاختزال والتبسيط.
هذه حال دعاة الايمان في قراءاتهم لكتبهم بصورة تقديسية تبجيلية، على نحوٍ يُضيّق ما يتسع أو يستبعد ما يختلف أو يُفقر ما يُثري أو يُترجم الشعارات بأضدادها. وذلك لأنها تتعامل مع الخطابات بوصفها مطلقة، بقدر ما تتعامل مع المعاني بوصفها ماهيات متعالية أو جواهر ثابتة، فتكون النتيجة على ارض المعايشات الوجودية والدنيوية، الانتهاك والارتكاب والإرتداد، لأنه لا يوجد في هذا العالم سوى النسبي والمتعّدد والمتكسّر أو المتغير والعابر...، ولأن المعاني هي سياقاتها واستعمالاتها بقدر ما هي اختلافاتها وكسورها أو شظاياها. ولا عجب فالمعنى هو بناء علاقة تُبنى بين الكائنات أو بين الذوات، حيث تستحيل المطابقة بين شيء وشيء في هذا العالم. وتلك هي محنة المعنى التي تجعلنا لا ننفك عن تحويله واعادة بنائه.
12 وهذه ايضاً حال الدعاة في قراءاتهم الاتهامية والعدوانية لكتب هي كنوز فكرية وحقول معرفية نقدية تتسّم بالتواضع والانفتاح أو التعدد والتركيب. كأقوال المعرّي وكتب ابن رشد أو فتوحات ابن عربي.
فالمعري، وإن اعترف بزندقته، إلا أنه كان الأتقى على الصعيد الفكري والمعرفي، إذ كان يدرك ويعترف بأن ما يقوله ليس اليقين الجازم، بل حدوس أو ظنون، أي مجرد وجهات نظر بين اخرى. أما ابن رشد الذي اتهم وادين، فكان يقول بأن الطريق الى الحق ليس واحداً، بل كثير ومتعدّد، وعلى نحوٍ يُفضي الى توسيع فضاء العقل وأفق الفكر ومعنى الحقيقة. أما ابن عربي، فإنه كان يفهم الهوية ويمارسها كسوية مزدوجة وبنية مركّبة وسيرورة مفتوحة، بقدر ما هي متعدّدة الوجوه والأطوار والأبعاد.
ولذا فما استُبعد من كتب القدامى، من جانب أهل الفقه والفتوى، ورافعي سيف التكفير والتحريم، هو ما نحتاج إليه اليوم اكثر من أي يوم مضى. إذ هو يفتح الامكان لفهم وتشخيص واقعنا الثقافي والمجتمعي والسياسي بأزماته وآفاته، كما يخلق الفرصة لتجديد العلوم والمعارف...
13 وما يُقال على القراءة الأحادية التراثية، يُقال ايضاً على القراءات الايديولوجية الحداثية التي مارس اصحابها الاستبعاد والتبسيط، في ما يخص كتب التراث، من خلال ثنائيات العقلاني والظلامي أو الرجعي والتقدمي أو الحداثي والتقليدي... فكانت الحصيلة التماهي مع فريق ونفي فريق آخر من الفلاسفة والمفكرين، الذي كانوا جميعاًَ منتجين ومبتكرين، كل في حقله وعلى طريقته. فلكلّ منهم انجازه، ولكلٍ هفواته ومآزقه. هذا عند من يرى بعين نقدية، ويقرأ النصوص قراءة توليدية تحويلية تتعامل مع المستحيل بوصفه غير ممكن، بقدر ما تفتح الافق والمجال لممارسة التفكير بصورة حرّة ومستقلة، خلاّقة ومتجدّدة، فعّالة وراهنة.
أيّاً يكن، إن النصوص لا تقرأ قراءة وحيدة الجانب، ولا تقرأ لكي تستبعد، وإنما هي مواد للتفكير والتأمل أو مواضيع للدرس والتحليل أو ادوات للفهم والتشخيص أو حقول للاستثمار والتوظيف. حتى النصوص الاستبعادية لا تستبعد، بنوع من الاستبعاد المضاد يشكل الوجه الآخر لها المتواطئ معها في ممارسة القطع والانغلاق والتزمت... وإنما هي بنى فكرية يجري العمل عليها وتفكيكها لفهم ممتنع أو فتح مستغلق أو تجاوز عائق أو الخروج من مأزق...
حتى اذا كان النص هو عبارة عن منظومة مغلقة، فإن القراءة الخصبة والفعالة، التي تقرأ بعين نقدية، تنويرية، إنما تشتغل على النصوص، تشريحاً وتفكيكاً لأبنيتها وطبقاتها، لكشف ما تنطوي عليه من آليات الحجب وأنماط المصادرة أو من ممارسات التهويم والشعوذة.
سياسة القراءة
14 المؤدى من ذلك كله، أن ما نحتاج اليه في علاقتنا بالكتب، قديمة أو حديثة، أمور عديدة:
أ أن نقرأ، سيما وأننا في أدنى السلم من حيث النشاط القرائي، في لبنان وبقية البلدان العربية، التي هي مجتمعات كسولة، فيما أهلها يعتدّون بأنهم اهل ثقافة رفيعة، أو يدّعون أنهم اصحاب كتاب وأن عقيدتهم تحضّهم على القراءة. وتلك فضيحة.
ب وما نحتاج اليه ايضاً أن نوسع مفهومنا للقراءة، فنقرأ التجارب والوقائع، لكي ننتج علوماً ومعارف، بدلاً من أن نسطو على ما ينتجه العلماء في البلدان الغربية لنسبته الى القرآن. وتلك فضيحة كبرى.
والدخول على الحقيقة من مفهوم القراءة يغيّر مفهومنا لها بمعنى أنّ مَن يقرأ المجريات والمعطيات، قراءةً فعّالة وراهنة أو خارقة، لا يوقفنا على حقيقة مطلقة أو متعالية أو مسبقة أو جاهزة، بقدر ما يُسهم في انتاج الحقائق وخلق الوقائع، التي يتغير معها مشهد الواقع على مستوىً من مستوياته.
ج وما نحتاج اليه ثالثاً، أن نحسن القراءة، بالتحرّر من أوهام المطابقة والكفّ عن عبادة النصوص، كما يقدّس التراثيون كتبهم، أو يؤلّه بعض الحداثيين مقولاتهم ، لأنه لا ممكن سوى الاختلاف الخلاّق والمنتج، الذي هو سبيل للاثراء والاستمتاع، أو لبناء القوة الناعمة، لا لممارسة القوة الغاشمة. فهذا شأن القراءات الخصبة والفعّالة، التي ترى دوماً ما لا يُرى في النصّ.
بهذا المعنى ليس القارئ مجرّد متلقٍ سلبي وإنما هو فاعل يتأثر ويؤّثر، بقدر ما يعيد إنتاج المعنى وينسج مع العمل الذي يقرأه علاقة تعارفٍ وتبادلٍ وتفاعل. فما من قراءة قادرة على امتلاك المعنى. ولذا فإن القراءة الخصبة هي التي تنجح في "مضاعفة" النص، لأن كل قارئ يدخل على مقروئه من لغته واسئلته ومشكلاته ومناخه الفكري...، على ما أفهم وأمارس علاقتي بالنصوص التي أقرأها وأتأثر بها. كل قراءة ناجحة هي استثمار لنصٍّ آخر في ضوء تجربة اخرى أو في بيئة ثقافية مغايرة. بالطبع نحن نقرأ كتباً لكي نتعلّم منها ونفيد، ولكن القراءة هي ايضاً تجربة وجودية ننخرط فيها، لكي يمارس الواحد حيويته واستقلاليته وحريته، بالتفكّر والتخيّل، على سبيل التدرّب والتدبّر أو التجدّد والتجاوز.
عالمية الكتاب
د وأخيراً، ما دامت المناسبة هي بيروت عاصمة "عالمية" للكتاب، فالأحرى أن نتعامل مع الكتب بصورة عالمية، سيما وأننا نندرج في عصر تتعولم فيه الهويات والمشكلات بقدر ما تتفاعل وتتهجّن الثقافات والحداثات، على سبيل الغنى المتبادَل.
هذا ما يحدث على الساحة العالمية، الثقافية والفكرية، حيث تتعولم الافكار والنصوص، ويتحوّل الكتّاب والمفكّرون الى نجوم عالميين، بأسمائهم واعمالهم وماركاتهم وندواتهم وجوائزهم...، كما هي المثالات والرموز من جاك أتالي ويورغن هابرماس ونعوم تشومسكي الى هوراكي موراكامي وبول كويليو وماريو فرغاس.. وبالوسع إيراد شواهد عربية ناطقة، من جمال الغيطاني وجمانة حداد الى ابراهيم الكوني وعلاء الأسواني، بالطبع مثالاً لا حصراً.
وما يعنيه ذلك بالنسبة الى المفكرين والفلاسفة العرب هو كسر القوقعة، بحيث نتوقف عن الحديث عن عقل عربي أو اسلامي أو غربي أو استشراقي أو استغرابي أو كولونيالي. فالعقل ليس واحداً في اي مجتمع كان، وإنما العقول تتعدّد، فمنها اللاهوتي والنبوي والفقهي والاصولي والمنغلق والاستبدادي... ومنها المنفتح والنقدي والتنويري والجدلي والكلبي والديموقراطي والتداولي... وقد تجتمع هذه العقول في الذهن الواحد. من هنا فإن الفرصة سانحة الآن لكي نهتم بتأليف كتب قابلة للتداول، خارقة للحدود، بحيث تُخاطب كل عقل وتثير اهتمام الانسان أينما كان، بكشوفاتها الفكرية وثرائها المعرفي وأبنيتها الجمالية.
** منشور بصحيفة "المستقبل" اللبنانية 15 يونيه 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.