تأتي معرفتنا بفضاء السرد بوصفه بعداً جوهرياً من أبعاد الوجود الإنساني وسؤالاً يفرض حضوره للكاتب فيخترق السرد الواقع بتشكله الجغرافي وبمقوماته الثقافية والسياسية والمجتمعية ويشكل بعداً موازياً لعالم تنتظم فيه الكائنات والأشياء والأفعال وهي بدورها تشكل معياراً لقياس الوعي والعلاقات الإنسانية ويصبح الفضاء مكون اساسي في سرد الخطابات المتجاورة والمتعددة.. استحضر جملة لماجد السامرائي في سؤال له عن الفضاء السردي بقوله (أنه يمثل وعياً عميقاً بالكتابة جمالياً وتكوينياً) وهو يعني بالفضاء هنا - الشكل والمعنى والذاكرة والهوية والوجود ثم الفضاء بوصفه سؤالاً اشكالياً للكاتب يلتصق بالوعي الثقافي والجمالي وبالنسيج السيكولوجي والمعرفي والأيدولوجي. والسرد الذي يعني الإخبار من صميم الواقع أو من نسج الخيال أو من كليهما معا في إطار زماني ومكاني ويتسم بحبكة فنية متقنة ويغلب عليه الزمن الماضي (فلاش باك) وكثرة الروابط الظرفية والأسلوب الخبري وقيل أن السرد هو من أكثر أنواع الفنون الأدبية إمتاعاً وجذبا للمتلقي لما فيه من تشويقا له.. نسجت من محطات فضائي التراكمي تفاصيل تجربتي السردية وقد وعيت على هذا الفضاء في قرية نائية تقع على رؤوس هذه الجبال كابنٍ أكبر لوالدين ينتميان إلى أسرة المحراث ورعي الأغنام ومتعة الغناء ومناجاة غيوم السماء الخفيضة كنت دون العاشرة أشكل أرضية هذا الفضاء وأرسم من أسراب الغيوم مكون تفاصيل ذاكرة عالم ثري بقيت أحداثه ونماذجه علامات كوشم في الذاكرة تلوح وتنتظر المحرض و التوظيف والتأويل بين حينٍ وآخر. هذا الفضاء كان له إشكالية ومعاناة فنية لي فيما بعد فقد غادرت القرية بعد العاشرة بسنتين وطبعت الذاكرة مشاهدها ووجوهها وأصواتها ومورثها الشعبي الثري وإيقاعها الحياتي وانتقلت للحياة في بداية الثمانينات من القرن الماضي للرياض كانت الرياض حينها قرية كبيرة نطوف أطفالاً شوارعها كاملة على الأقدام عصر كل يوم وتعد بالنسبة لي أكبر من القرية الأولى كنت الطفل الذي فقد والده مبكراً وفقد حكايات جدته لسيرة بني هلال والزير سالم ورواية أساطير شعبية ستكون مؤثرة في التجربة وفقده لقاء رجال القرية مساء كل ليلة حول راديو صانع القرية كل مساء كنافذة وحيدة على العالم الخارجي يتابعون أخبار الثورة اليمنية وسماع الأغاني وتسريب كثير من شقاء نهار الحقول.. المدن كالنساء وكنت الطفل الذي عشق وأنتزع بقسوة من دفْء عشقه كان انقلاباً شنيعاً ومروعاً في وجداني وأظن أن في هذه المحطة المبكرة تشكلت أسئلة كثيرة ولم يتشكل فضاء فالبيت مساوٍ للشارع يفتقد لحضور المرأة وتحول الراديو نافذة القرية الوحيدة فأصبح صحف يومية ومكتبة عامرة في تلك المرحلة فتنوعت نصوص تلك الحقبة وتنوعت في انتمائها إلى المدارس والمذاهب السردية المتنوعة وتراوحت الغالبية بين الواقعية والرمزية وشكلت لغة القصة القصيرة الدلالات المتنوعة ولكنها في مجملها عكست واقعها الزماني والمكاني مقتربة من اللغة الشعرية الظاهرة في بعض النصوص الكتابية حيناً وتتلون أحياناً فنلمح التقنيات الحديثة في نصوص أخرى مماثلة وتبقى السمة السائدة في خطابات نصوص تلك المرحلة تجسيد فضاء حالات الضياع والغربة والحرمان والاستلاب والشتات والسفر وصدمة المدينة ورسم صور الفوارق والهوة المجتمعية الكبيرة كفضاء لنصوص تلك المرحلة واقتصرت غالبية نصوص تلك المرحلة النظر من زاوية ذاتية يأتي ذلك لطبيعة جنس القصة القصيرة فبرغم حضور البيئات المجتمعية لنصوص تلك المرحلة فقد غابت المعالجة المجتمعية كفضاء للنصوص لتأتي الرواية كفن شامل لكل الفنون وهي من يحفل بالفضاء الروائي بطبيعة الفن وكانت الرواية غائبة في تلك الفترة حدث ذلك بعد الحادي عشر من سبتمبر وانفراج الزوايا المغلقة وحضور وسائل التقنية الحديثة لغة العصر والجيل فشهدت الرواية المحلية هذا الفن الشامل لكل الفنون توجه كتاب السرد القصصي إلى كتابة الرواية وبالذات الجيل الثالث من كتاب القصة القصيرة وكنت من الجيل الثالث من كتاب القصة الذين وجدوا في فن القصة القصيرة متنفس لهم وكتبت مجموعتين هما (البديل) و (قالت فجرها) وفقدت قبلهما مجموعة قصصية لم تصدر الغريب أني أحتفظ بقراءة نقدية لمسودة نصوصها المفقودة وكانت في مجلة (أوراق)الإماراتية والواقع أن كتابتي القصصية لم تكن ترضي طموحاتي ولكنها كانت بديلاً عن الموت والجنون ويحضر في فضاء كتابتي هاجس الموت والجنون بكثيرة لكني خرجت بملاحظة مهمة استقيتها من الأصدقاء والقراءات لتلك النصوص مفادها أن نصوصي القصصية تشيء بفضاء روائي نلمح هذا في تعدد الشخوص وأتساع الفضاء وتعدد الخطابات المتجاورة في نص قصصي لا يحتمل كل هذه الحمولات. والكاتب الحقيقي هو أول ناقد لنصه.. ولأن الرواية تقول شيئا لا يمكن أن تقوله سوى الرواية بحسب رأي الناقد والروائي ميلان كونديرا. والرواية فن مدني بمعنى أنها فن يزدهر في المجتمعات المدنية ويستوعب كل الشرائح المتنوعة والمتعددة وهي جنس أدبي شامل لكل الفنون الأدبية الأخرى بمعنى أن ألواناً أخرى تدخل في الفضاء الروائي كاللوحة والقصة والفلكلور والمسرح والشعر الجنس الأدبي الأثير للذاكرة العربية فالرواية فضاء يتداخل فيه السياسي والديني والشفوي والتاريخي والأسطوري والكتابة الروائية طفرة نعيشها في الواقع المحلي بلا شك وتعتبر نموذجاً متفرداً يمثل الخصوصية التي نزعمها في أبهى تجلياتها لكون الرواية المحلية بدأت متأخرة عن نظيراتها في أقطار الوطن العربي بما فيها القريبة منا جداً. ونعزو ذلك إلى معوقات كثيرة لا يزال بعضها قائماً ويمكن معرفة وقراءة بداية نتاج هذا الجنس الأدبي حينما ظهرت في الحجاز بالذات مكةوالمدينة كمجتمعات حضارية مروراً بالمراحل الكتابية الروائية إلى المرحلة الراهنة. وكانت رواية ريحانة أولى رواياتي في تلك المرحلة.قبل التسعين وخجلت أن ترى النور.. فقد بقيت القرية ذاكرة الطفولة الصافية ومهد ولادة الحكايات و تبقى ذاكرة المكان بينما تتغير الوجوه والحالات وتتبدل الأحداث وتتلون الطقوس والقرية الجنوبية حضرت بكثافة في نصوصي السردية الأولى وكانت ثرية وحية في الحقول والجبال والأسواق والدلالة الرمزية المستوحاة من تراثها المتنوع الثري ولذلك فقد جربت أن يكون لي فضاء مستقل في الرواية الثانية (أواني الورد) فكانت بدايتها في صحراء نجد ونهايتها بوادي ما عين في الأردن. السأم والملل لم يصب المثقف العربي وحده فالإنسان العربي أيضاً يدمره هذا التململ إلى حدٍ لا يطاق ولابد في النهاية أن يسفر عن شيء والمعرفة الإنسانية مشرعة وليست باباً واحداً والرواية كفنّ تعنى بالمتعة كأي فن إنساني آخر متقن ولابد أن يجد القارئ العربي هذا في النص الروائي وإلا سيتخلى عن القراءة وأجد أن في مواجهة الرواية العربية كمّاً هائلاً من الأوضاع المعاصرة ولها رصيد تراثي عظيم ومسألة كهذه مرهونة بتحقق شروط عدة وهي مسألة نسبية متفاوتة ولا أعتقد أن الرواية المحلية والعربية ستكتب في كوكب آخر وأعتقد أنها لا تجسد كائنات خارج محيطها وواقعها وكتابة الرواية يعني التواصل مع جهات القارات في الأرض ويعطي دلالة على رغبة في الانفتاح على الآخر من جهة وامتحان اسئلة دون زعم بمعرفتها والسؤال لماذا حروب الخليج المتتالية والطفرة الاقتصادية وما سمي بالصحوة الدينية شكلت فضاء وسياجاً غطى غالبية الفضاء الروائي المحلي فلا يكاد يخلو نصاً من ضفائر لهذا المحاور بكل تشكيلاتها الرواية بعيدة كل البعد عن الأيديولوجيات وليست ضد المجتمع ولا تمثل الفرد الأحادي وهي في النهاية فن عال والحقيقة أن الإشكالية بدأت مع حركة الحداثة الشعرية بدأية في السبعينات مع ظاهرة الصحوة وبدأت وكانت وقتها صادمة للمجتمع مع أنها في نظري على الأقل أطهر ما جاء به المشهد الثقافي وهادفة لو لم يخالطها شوائب نقدية وهذا نفس الشيء الذي يحصل مع الرواية اليوم ونجد بعض من يروج لبعض النصوص كونها تحقق لهم مواجهة مع المجتمع وتحمل خطابات أيديولوجية فنقد الخطاب الأكثر تحكما في عقول الناس وتأثيرا في علاقاتهم. ونقد الخطاب السائد أيا كان هو الشيء الوحيد الذي يليق بالمثقف النقدي هنا وفي كل مكان في بلد تكاد خطاباته الرسمية تشل الفكر وتعطل الخيال لفرط تشبعها بالحقائق الجاهزة. رواياتي وبالذات الثلاث الأخيرة مدن الدخان ووحي الآخرة وهي رواية ميتافيزيقية لكني لا أستطيع وضعها في قائمة الروايات الخاضعة لسطوة ما سمي بالصحوة الدينية وبطبيعة الحال لن اتحدث عن رواية غيوم امرأة استثنائية تحت الطبع وأقتصر الكلام على رواية ثلاثية المكتوب مرة أخرى المكتوبة كفضاء روائي واعي وهي بالمناسبة التجربة الثالثة في سياقي الروائي : (فقد ازدادت حالتي النفسية سوءا ففقدي زرقاء اليمامة أشعرني بفقد شيء مهم كما لم أشعر بفقد من سبقنها أجزم أني لم أر وجهها... وصار لا بد من تعويضها في هذه الحال بأفضل منها دون أن أتنازل عن شيء من صفات أدرجتها في مخيلتي لبطلة النص المنتظرة " ص 128 في هذا الاقتباس. بحسب رأي الناقدة الدكتورة أسماء الزهراني يدرج الروائي أحمد الدويحي مبدع "المكتوب مرة أخرى " إحدى أهم لحظات السرد الروائي وهي اختيار البطل ويناقش وجوها من نظرية الإبداع عبر تجربته حين يسرد كيفيات تشكل الشخصية في ذهن الكاتب والحالات الشعورية والذهنية التي تصاحب هذا التشكل والتحولات التي تمر بها الشخصية في طريقها للنضج. هذا مثال نقتبسه لندلل كيف تمثل رواية "المكتوب مرة أخرى " رواية الرواية بامتياز في مشهدنا السردي المحلي. فهي لا تكتفي بكون البطل كاتبا يلمس معاناة الكتابة من بعيد بل إن بطلها هو روائي ومروية هو رواية وشخصياتها مبدعون يحكون قصة الإبداع وهو يعالج تفاصيل كتابة الرواية من كل جوانبها وفي أدق تفاصيلها ويتابعها لحظة بلحظة ويناقش فلسفتها وهو لا يغفل تفاصيلها التقنية فنظرية الرواية تتنفس كثيرا في هذا العمل حتى تستغرقه كله بحيث يشكل فعل السرد قصته وقضيته حكايته وحبكته ومنظوراته. وبسبب من هذا يتطابق زمن الراوي وزمن المروي وزمن الرواية الفعل والفاعل والمفعول هم الشيء نفسه بحيث لا يمكن تمييز الراوي من روايته ومروية ومن هنا تأتي صعوبة قراءة هكذا نص والدهشة الجمالية التي يفجرها في قارئه. والواقع بأني استحضرت هذا الاقتباس من قراءة أسماء الزهراني لقراءة الوجه الأسطوري في الرواية ولها الحق في ما قالت من زاوية ولكن أريد أن أضيف شيئاً عن هذا الفضاء الأسطوري وقد حصرت زرقاء اليمامة في المقتبس.