استقرار أسعار الذهب محليًا بعد ارتفاع عالمي 36 دولارًا    ننشر أسعار الأسماك والخضروات والدواجن.. الأحد 24 أغسطس    45 دقيقة تأخرًا في حركة قطارات «طنطا - دمياط».. الأحد 24 أغسطس    الضرائب العقارية تجمع 1.5 مليار جنيه حصيلة ملاهي الحفلات خلال عام    فأغشيناهم فهم لا يبصرون، حصيلة مرعبة لقتلى جيش الاحتلال الإسرائيلي ب"نيران صديقة"    الرئيس الفنلندي: صبر ترامب بدأ ينفد بشأن التسوية الأوكرانية    تفوقت على زوجة ميسي وبيكهام، رقم لا يصدق في عدد متابعي جورجينا بعد خطبتها من رونالدو (صور)    ضبط كيان تعليمي بدون ترخيص للنصب والاحتيال على المواطنين بالجيزة    خلافات مالية وراء اعتداء صيدلى على عامل خلال مشاجرة فى أبو النمرس    حظك اليوم الأحد 24 أغسطس وتوقعات الأبراج    "سيد الثقلين".. سر اللقب الشريف للرسول صلى الله عليه وسلم في ذكرى مولده    في ذكرى المولد النبوي.. أفضل الأعمال للتقرب من الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم    لقطة انسانية.. تامر حسني يحرص على الغناء لطفلة مصابة في حفله بمهرجان مراسي (فيديو)    "في الظهور الأول لوسام".. كولومبوس يتلقى الهزيمة من نيو إنجلاند بالدوري الأمريكي    تنسيق الدبلومات الفنية 2025.. كليات التجارة و التربية ومعاهد الفني الصحي المتاحة تجاري 3 سنوت (قائمة كاملة)    تحذير خطير من تأثير الملح على الدماغ وعلاقته بالموت المفاجئ    مصر تنافس بقوة في جوائز LMGI العالمية عبر فيلم "Fountain of Youth" للمخرج جاي ريتشي    إعلام فلسطيني: سماع دوي انفجارات ضخمة جراء تفجير روبوتات مفخخة في مدينة غزة    سعر اليورو اليوم الأحد 24 أغسطس 2025.. العملة الأوروبية بكام الآن؟    «روحي سميتها بيروت».. محمد رمضان يفاجئ جمهوره بأغنية عن لبنان (فيديو)    انتشال جثمان طفلة من أسفل أنقاض منزل بسمنود بعد انهياره الجزئي    شديد الحرارة ورياح.. بيان من الأرصاد يكشف حالة الطقس اليوم    دعاء الفجر | اللهم يسّر أمورنا واشرح صدورنا وارزقنا القبول    إعلام فلسطيني: طائرات الاحتلال تشن غارة جنوب مخيم المغازي وسط قطاع غزة    ملف يلا كورة.. تغريم الزمالك.. صفقة كهربا.. وأزمة السوبر السعودي    شيكابالا يتحدث عن.. احتياجات الزمالك.. العودة لدوري الأبطال.. ومركز السعيد    الاحتلال الإسرائيلى يقتحم بلدتين بالخليل ومدينة قلقيلية    حكام مباريات يوم الإثنين فى الجولة الرابعة للدورى الممتاز    في 12 مقاطعة ب موسكو.. الدفاع الروسية تُسقط 57 مسيرة أوكرانية    تنسيق المرحلة الثالثة، الأخطاء الشائعة عند تسجيل الرغبات وتحذير من الرقم السري    «عقلي هيجراله حاجة».. حسام داغر يكشف سبب وفاة الممثل الشاب بهاء الخطيب    مروة ناجي تتألق في أولى مشاركاتها بمهرجان الصيف الدولي بمكتبة الإسكندرية    محمد رمضان يحيي حفلًا غنائيًا بالساحل الشمالي في هذا الموعد    وزير الاتصالات: الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى اندثار بعض الوظائف.. والحل التوجه لمهن جديدة    تصل كييف خلال 6 أسابيع.. إدارة ترامب توافق على بيع 3350 صاروخا بعيد المدى ل أوكرانيا    خسوف القمر الكلي.. مصر على موعد مع ظاهرة فلكية بارزة في 7 سبتمبر.. فيديو    انقلاب سيارة محملة بالزيت على الطريق الدولي ومحافظ كفر الشيخ يوجه بتأمين الطريق    شاب بريطاني لم يغمض له جفن منذ عامين- ما القصة؟    وزير الصحة: نضمن تقديم الخدمات الصحية لجميع المقيمين على رض مصر دون تمييز    خلال اشتباكات مع قوات الأمن.. مقتل تاجر مخدرات شديد الخطورة في الأقصر    مصرع طفل وإصابة 2 آخرين في انهيار حائط بسوهاج    في المباراة ال 600 للمدرب.. ويسلي يفتتح مسيرته مع روما بحسم الفوز على بولونيا    رسميًا.. موعد المولد النبوي 2025 في مصر وعدد أيام الإجازة للقطاع العام والخاص والبنوك    لا صحة لوقوع خطأ طبي.. محمود سعد يوضح تطورات الحالة الصحية للفنانة أنغام    تاليا تامر حسني: التنمّر ليس مزحة.. إنه ألم حقيقي يدمّر الثقة بالنفس (فيديو)    «المصري اليوم» في جولة داخل أنفاق المرحلة الأولى للخط الرابع ل«المترو»    مستثمرون يابانيون: مصر جاذبة للاستثمار ولديها موارد تؤهلها للعالمية    وزير الإسكان يتابع موقف عدد من المشروعات بمطروح    برشلونة يقلب تأخره لفوز أمام ليفانتي بالدوري الاسباني    «قولتله نبيع زيزو».. شيكابالا يكشف تفاصيل جلسته مع حسين لبيب    محافظ شمال سيناء يوجه بتشغيل قسم الغسيل الكلوي للأطفال بمستشفى العريش العام    إحالة المتغيبين في مستشفى الشيخ زويد المركزى إلى التحقيق العاجل    «أوقاف المنيا» تعلن بدء احتفال المولد النبوي غدًا الأحد 24 أغسطس    تعرف على استعدادات تعليم كفر الشيخ للعام الدراسي الجديد    كيف تدرب قلبك على الرضا بما قسمه الله لك؟.. يسري جبر يجيب    الجندي يشدد على ضرورة تطوير أساليب إعداد وإخراج المحتوى العلمي لمجمع البحوث الإسلاميَّة    حصاد الأسبوع    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التعليم ضروري لضمان الأمن القومي واستمرار النظام السياسي
نشر في القاهرة يوم 15 - 06 - 2010

أتيح لي أن أطلع علي مخطوط كتاب سيتم نشره قريباً للدكتور عبد الفتاح ترك أحسب أنه سيكون جديراً بأن يقرأه ويتمثله كل من يتصدي لممارسة مهمات التربية والتعليم، والتأثير في مجريات تنمية المواطن في مراحل الطفولة المبكرة أو في التدريس بالمؤسسات التعليمية في مختلف مراحلها. سوف يستثير كذلك فكر المعنيين بتعليم الكبار وتثقيفهم من المسئولين عن رسائل الإعلام والتثقيف في مختلف مواقعهم وأساليب فنونهم وآلياتها.
أزكي قراءته فصلاً فصلاً، بل وتأمل أفكاره سطراً سطراً، إذا كانت لديك أشواق بأن تراجع رصيدك المعرفي، أو تجدد مخزون مفاهيمك وممارساتك فيما يتصل بتنمية البشر: روحاً ونفساً وبدناً وعقلاً وفعلاً وتواصلاً. وأحسب كذلك أنك سوف تري أنها نصيحة خالصة من شيخ عرك مجالات التعليم والتثقيف أكثر من ستين عاماً، وقد وقع في يديه أخيراً هذا الكنز التربوي والذي يحفزك علي قراءته، لا يدفعه لذلك هوي أو نفع أو شكور.
طه حسين التربوي
والكتاب بعد هذا وقبله لمؤلف أصفه دون تردد أو مبالغة أو تزيد بلقب (طه حسين التربوي) في قدراته علي التحليل والتدقيق لمفاهيم ما يكتبه، وإلي التركيب النقدي في معالجاته للفكر والممارسة. وهو في مشروعه التربوي نحو فلسفة عربية علمية نقدية يلتقي في إطاره المرجعي مع أستاذي عالم الاجتماع الشامخ/ كارل مانهايم حين يقرر أن التنمية الشاملة إنما تتحقق حين يصبح العلم ومناهجه ثقافة المجتمع: تفكيراً وتدبيراً وممارسة.
ويركز المؤلف في مختلف فصول كتابه علي التوضيح المستمر للفروق الجوهرية بين مقومات فلسفته التي يجهد في صياغتها، وفلسفة التربية التقليدية بمختلف تفرعاتها وافتراضاتها وتطبيقاتها الشائعة. ويؤكد في الوقت ذاته علي ما تتسم به رؤيته الفلسفية التربوية من مرونة وقابلية للمراجعة المستمرة لتداعياتها في ضوء ما تتلاقح معه من تغيرات مجتمعية داخلية وخارجية.
وهو في هذا الكتاب يجمع ويعتصر كثيرا من مؤلفاته السابقة في إطاره المرجعي الأصيل، وأشهرها (المدرسة وبناء الإنسان)، و(نحو فلسفة تربوية لبناء الإنسان العربي) و (تربية ما بعد الحداثة) و(فلسفة التربية مؤتلف علمي نقدي)الخ.. ولعله قد آن الأوان للتعريف بهذا المؤلف الذي اعتبره النظير التربوي لطه حسين في عالم الأدب والثقافة. إنه أ.د. عبد الفتاح إبراهيم تركي، أستاذ بقسم أصول التربية بكلية التربية، جامعة طنطا. ومن معالم سيرته الذاتية:
حاصل علي ليسانس آداب/ قسم الفلسفة/ جامعة القاهرة 1961.
التحق بالقوات المسلحة/ ملازم أول وقائد سرية استطلاع اللواء الثاني المدرع، والمكلف يوم الثامن من يونيو 1967 بتنفيذ هجوم مضاد علي المحور الأوسط لوقف تقدم العدو.
وفي هذا الهجوم يقول المؤلف (شاء الله أن أهدي تراب مصر نور العين)
ابتعث إلي فرنسا لاستكمال دراسته العليا خلال الفترة من 1969 - 1979، ليحصل علي ليسانس علوم وتربية، ودكتوراة المرحلة الثالثة - ودكتوراة الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية.
ومنذ عودته من البعثة يظل عضو هيئة التدريس بكلية التربية جامعة طنطا.
ومما سبق لعلك تتفق معي أيها القارئ الكريم إلي ما وصفته من التشابه بينه وبين طه حسين، إلي ما يتصفان به من عزيمة فائقة، وإرادة لا تحيد، ومعاناة قاسية في اقتحام دراستهما العليا حتي درجة الدكتوراة، وفي نفس جامعة السوربون الشهيرة في باريس، ومع فقد البصر وانتصار الإرادة والبصيرة.
ولعلي أضيف سمة أخري في التشابه بين قطبي مؤلف هذا الكتاب عبد الفتاح تركي وطه حسين حين نستمع إلي كل منهما وهو يلقي محاضرة أو يقدم بحثاً. فمن حديث كل منهما تسمع صوتاً رخيماً واضحاً واثقاً في مخارج حروفه ومقاطعه، لا يتلجج ولا يتلعثم ولا يتقطع، يتسم بإيقاع عذب يملك عليك كل انتباهك. هذا فضلاً عن عمق الأفكار وسلاسة العبارة ودقتها في التعبير عما ينشده المتحدث.
وأكثر من هذا ما منحهما الله من ذاكرة خارقة مبهرة. أتيح لي أن استمع لكل منهما وهو يناقش طالباً في رسالته للدكتوراة، حيث تغمرك الروعة حين يحيله إلي أرقام وصفحات معينة، بل وإلي أرقام فقرات في صفحات معينة، لمناقشته في تلك الصفحات أو الفقرات دون أن يقلب صفحات الرسالة طبعاً، أثق في أنك أيها القارئ الكريم مع تصور هذا المشهد سوف تزداد قناعتك بأن تلقيبي لمؤلف هذا الكتاب باسم (طه حسين التربوي) كانت له أسانيده ومبرراته.
إننا مع كتاب يستوقفك عنوانه: (النظرية التربوية حوار الأفكار والتحديات) وقد يبدو لأول وهلة أن العنوان يمثل معالجة نظرية لا تبتعد قوانينها القاطعة المتفق عليها دون تردد.
النظرية التربوية
لكن منذ الصفحة الأولي في هذا الكتاب سوف يفاجئك المؤلف بأن النظرية التربوية إنما تعني الإطار المرجعي الذي يؤثر في تلك المفردات الجزئية من ألفها إلي يائها. وقد سيطرت، ولا تزال في حالات كثيرة، نظرية الحتم البيولوجي بخصائصه الوراثية الثابتة التي يولد بها الطفل، وباعتبارها المحددة لما سيكونه في المستقبل، ذكياً أم غيباً، نشطاً أم خاملاً. وتصبح مهمة مؤسسات التربية والتعليم تنمية ما يحمله الإنسان (بالقوة) ليصبح متحققاً ومتطوراً (بالفعل) خلال التحاقه بها، كما يقول الفلاسفة. وفي هذه النظرية سوف يغلب الطبع علي التطبع، وسوف تتضح لنا عوامل تماثل وثبات الأنظمة التعليمية، وجعلها توسم بالجمود وصعوبة التطوير والتغيير والتجديد.
وفي مواجهة تلك النظرية التربوية الجامدة والحاكمة لمسيرة الإدراك التربوي يؤكد المؤلف أن من بين أهم مرتكزات مرجعيته ضرورة اصطناع إطار مرجعي يتألف من مجموعة من (الأفكار والمفاهيم والمبادئ والقناعات التربوية، كحزمة لا تتوقف عن التغير والتطور، الذي تحكمه العلوم المساندة للتربية من جانب، وما تفرزه عملية توظيف مضمون هذا الإطار في الواقع من جانب آخر).
ويتضمن التخلي عن نظرية الحتمية البيولوجية الاقتناع بأن أطفالنا يولدون وهم قابلون للتعلم بدرجة غير محدودة، وليسوا مقيدين بمواهب أو قدرات ومهارات تدمغهم مسبقاً، بين موهوب وغير موهوب، وإنما يتوقف نموهم عقلاً وجسماً ووجداناً وسلوكاً بما يتاح لكل منهم من عناية ورعاية في أجواء معلمهم الأول أي الأسرة. وبذلك ينفتح المجال إلي ما يتلو ذلك من خبرات ومثيرات ومواقف تربوية خلال مراحل نموهم ونضجهم. ومن ثم تصدق مقولة (التعليم في الصغر كالنقش علي الحجر) وصفاً لأهمية مرحلة الطفولة وتأثيرها البالغ لبيئتها الرعائية في نمو الطفل. لكنها بطبيعة الحال ليست ثابتة غير قابلة للتبديل أو الإضافة، وإنما يتغير النقش مع تفاعله مع محيط نموه الاجتماعي والمادي والتواصلي في بيئته.
ونشير في هذا الشأن إلي الأسس الباطلة في بعض التصورات الجينية أو الوراثية التي تدعو إلي تقسيم الطلاب علي أساس اختبارات الذكاء أو قبول الطلاب في الجامعات علي أساس اختبار للقدرات، علي اساس أنها قدرات وراثية بقضاياها عن المألوف في دراسة المنظومة التربوية والتعليمية مما تلوكه الألسنة وما تسطره أحبار الكتابة في مسائل المناهج، وعملية التعليم والتدريس، والإدارة المدرسية والامتحانات، وغيرها من المألوف في تناول مكونات التعليم منعزلة في المدرسة والجامعة، وهو مما جري العرف السائد علي تناوله في مفرداته، وتشخيصها بمواقع ساكنة مستقرة. وثمة قناعة ثابتة فطرية، كما هو المقترح حالياً من اعتبارها مؤشراً هاماً للالتحاق بالتعليم العالي.
وانطلاقاً من أهمية مرحلة الطفولة التي تعتمد أساساً علي المحيط الأسري يؤكد المؤلف علي أهمية ما يطلق عليه بالتربية الوالدية وتنظيم برامج تدريبية وتثقيفية للآباء والأمهات تهدف إلي توعيتهم بالأسس المعرفية والعلمية والممارسات والخبرات الحياتية التي تضمن تنشئة أطفالهم تنشئة سليمة. ونظراً لتأكيد المؤلف علي مسئولية الأسرة في إنضاج أطفالها فقد أفرد للتربية الوالدية فصلاً خاصاً (الثامن) يحدد تفاصيل البرامج التدريبية والخبرات والأسس العلمية والنفسية والصحية التي تعالجها. وفي اعتقادي أن موضوع التربية الوالدية ينبغي أن يكون مكوناً من مكونات برامج تعليم الكبار للأميين وللمتعلمين. وقد تتولي كليات التربية إدماج التربية الوالدية ضمن برامجها في تعليم الكبار وفي مؤتمراتها وندواتها العلمية.
ويؤكد المؤلف ضرورة التخلي عن معتقد الحتمية البيولوجية في الفهم والممارسة التربوية السائدة في كثير من جبهات التربية والتعليم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وما صاحبها مما يطلق عليه مصطلح (تخدير الألفة) نتيجة لما استقرت عليه تقاليد الماضي من استمرار الاطمئنان لمقتضياتها ويعتبر ذلك التخلي شرطاً من شروط بلورة بنيته التعليمية الجديدة، والعمل علي مراجعة القوانين والقرارات والأنظمة البيرقراطية ومسلماتها السائدة التي تخنق محاولات التجديد.
المؤتلف العلمي النقدي
وهي الفلسفة التي اصطلح علي تسميتها بمشروع (المؤتلف العلمي النقدي) الذي يتسم بالمرونة والمراجعة والتطوير. ويعني بهذا المصطلح الأهمية البالغة للتناسق والاتساق والتكامل بين مكونات البنية التعليمية وأسسها ومبرراتها وفاعليتها، أي في إطار مرجعي متآلف وقابل للتعديل في إطار حركة الزمان والمكان. ويحذر من عدم الالتفات لإطار هذين العاملين، إذاً إن تجاهلهما في قياس الحاضر بالماضي، ينفي متغيرات التاريخ الذي لم يعد تاريخاً ليصبح مجرد امتداد زمني لا تاريخي.
ولعل العمود العام الثاني الذي ترتكز عليه فلسفته ما دعت إليه النظرية النقدية في فهم حركة المجتمع وتفاعلاتها وعلاقتها الجدلية مع السلطة والقوي السياسية والاقتصادية المهيمنة علي مسيرة المجتمع وتوجهات مؤسساته قديمة راسخة بأن السعي إلي تطوير كل منها يخضع لمسلمات علمية أو علي الأصح "علموية" أي شبه علمية، أو فنية أكاديمية محايدة لها وجماعاته. من ثم يفصل في استعراضه للإطار النقدي وفواعله والقوي السياسية المؤثرة فيه داخلياً وخارجياً، وتنوع التوظيف للمؤسسات التعليمية ورسائلها في المجتمع المصري منذ تبلورت سلطة الدول في حكم محمد علي الكبير 1805 وحتي اليوم.
وتتفق معظم نظريات المنهج النقدي في تشخيصها لحركة المجتمع عبر الزمان والمكان وتأثيرها في تطور النظم التعليمية سواء في المجتمعات المتقدمة أو النامية. ويمكن تلخيص (أهم مقوماتها العامة المشتركة في تأكيد العلاقات الجدلية، تأثيراً وتأثراً، نهضة وركوداً، بين النظام السياسي/ الاقتصادي/ الاجتماعي في إطار المجتمع الأكبر من ناحية وبين المهمات الأساسية لدور المنظومة التعليمية). ويلخصها عميد المدرسة النقدية الحديثة الفيلسوف البرازيلي (باولوفريري) في مقولته المختصرة بأن (التعليم عملية سياسية بأوسع معاني السياسة، كما أن السياسة بهذه المعاني عملية تربوية باتساع آفاقها). وهذا يعني أن النظام التعليمي إنما هو في الأغلب والأعم آلية وأداة وقوي محركة يعتمد عليها النظام السياسي والفئات الاجتماعية التي ترتبط مصالحها بمصالحه لدوام استقراره حاضراً ومستقبلاً.
ومن ثم يؤكد المؤلف علي حرص الأنظمة السياسية للدولة في إقرار قوانين للتعليم الإلزامي الإجباري لمرحلة معينة من تعليم الأطفال والشباب وفي مناهج ومضامين عامة، ولمجانية محددة لبعض فئاته أو لجميعهم في مختلف مراحل التعليم، لكي يتم برمجتهم وفق أهدافها ومقتضيات التعبئة في تعليمهم. وبذلك يتحقق تكوين مواطنين صالحين للاندماج في مسيرة النظام السياسي لهذا المجتمع أو ذاك . ومن خلاله يجري التلوين والتكييف للمتعلم بما يتطلبه ذلك المجتمع من مفاهيم وتوجهات فكرية ومقومات قيمية وتواصلية في تكوين المتعلمين للمشاركة في أحداثه في السراء والضراء. وبذلك يكتسب النظام السياسي الاجتماعي شرعيته مع توافقه واتساقه مع رسالة تكوين المواطنة من خلال المنظومة التعليمية.
وبعبارة أخري يؤكد المؤلف أن شرط وجود النظام التعليمي ومكوناته ومضامينه واحتفاظه ببنية ومسيرة مستقرة، مرهون بقدرته علي تحقيق تطلعات وتوجهات النظام السياسي والقوي المرتبطة به، وإقرارها بفاعلية ذلك النظام التربوي في التأكيد وضمان الأمن القومي لاستمرار ذلك النظام، وإمكانية إعادة إنتاجه خلال مسيرته المتصلة. وهذا هو توجه النظرية النقدية التي يتحدد دور التعليم من خلالها في إعادة إنتاج أو معاودة إنتاج قيم النظام السياسي الراهن والحفاظ علي بنيته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إجراءات
بيد أنه قد يحدث في مسيرة تلك العلاقة بين النظام السياسي المجتمعي ودور المؤسسة التعليمية خلل بسيط في الاتساق القائم بين الطرفين سواء في توازن الطرف الأول أو تكيف الطرف الثاني. وساعتئذ سوف تتخذ إجراءات محدودة في أي من الطرفين أو في كليهما، وقد تكون في معظم الحالات علي صورة تعديلات أو إضافات محدودة تكون في الأغلب شكلية أو تجميلية. وهذه الإعادة لحالة التوازن الأصلية تمثل ما يعرف بمشروعات إصلاحية لا تغير من جوهر اللحن الأصلي الذي تميزت بها معزوفة موازين معاودة الإنتاج. وهذا يحدث في كثير مما يعرف بمشروعات إصلاح التعليم أو تحسينه أو تطويره في معظم الدول النامية التي تسودها نظم سياسية غير ديمقراطية تتشبث ببقائها في السيطرة علي مقاليد الحكم. ومثل تلك الإصلاحات الشكلية ينطبق عليها المثل الفرنسي plus ca change plus c' est la meme chose أي (كلما جري تغيير، فإنه يظل علي نفس الحال والمنوال)
غير أنه إذا ما حدثت تغيرات كبري عميقة جديدة في بنية المجتمع مما يؤدي إلي اختلالات نوعية مزعزعة للتوازنات الراهنة والمصالح الفئوية، أي عند حدوث انقلاب أو ثورة فإن تلك القوي سوف تسعي إلي تغيير حاسم يطلق عليه عادة بأنه تغير جذري راديكالي. وسوف يمتد إلي نظام التعليم وسياساته ومناهجه وتوجهاته العميقة، تمليها القوي السياسية والاجتماعية الجديدة. وهذا يعني تمكين نظام تعليمي مغاير يقوم بدعم شرعية الحكم الجديد وفاعليته لترسيخ مقوماته وأهدافه.
ومع مضي الزمن وضمان النظام السياسي لاستمرار التعليم الجديد، في دعم للنظام الجديد، يتحول دور المنظومة التعليمية إلي معاودة إنتاج النظام السياسي الذي استقرت دعائمه، واطمأن إلي صلاح مسيرته ونتائجها.
وهكذا دواليك في عملية التفاعل والتأثير والتأثر بين التعليم والقوي السياسية ليصبح عملية سياسة وأن السياسة عملية تعليمية. ويوضح المؤلف العلاقة بين البنية الاجتماعية المتبوعة والبنية التعليمية التابعة في تاريخ مصر منذ بداية حكم محمد علي الكبير حتي اليوم مشيراً إلي تلك العلاقة خلال النظام الملكي وفترة الاحتلال، ومنذ ثورة 1919 والفترة الليبرالية منذ الاستقلال الذاتي 1922، امتداداً إلي الثورة الناصرية 1952، ثم تغيير فلسفة الحكم والاتجاه نحو الرأسمالية والحرية الاقتصادية، والاندماج مع عولمة السوق العالمية وتوجهاتها التعليمية والتكنولوجية والإنمائية.
تبعية النظام السياسي
ومع غلبة تبعية النظام السياسي في تأثيره علي بنية التعليم وسيطرته في تحديد العلاقات بين مكوناته المختلفة، إلا أن ذلك لا ينكر في تقديرنا ما للتعليم في بعض الحالات من كونه قوة فاعلة في التأثير علي البنية السياسية بطريقة خفية مستترة وجوباً أو جوازاً، ومتراكمة متفاعلة تدريجياً ليصبح بذلك هو القوة المتبوعة في نهاية المطاف. وهذا يعني أن يصبح التعليم ذاته قوة من قوي التغيير للنظام السياسي ذاته، وإيجاد توازنات جديدة مغايرة للقوي السياسية والاجتماعية السابقة.
وسوف أتوقف هنا بعد إبراز هذين العمودين لما فصله الكتاب من رؤيته في تحديد التعليم وفاعليته في المجتمع، وهما عمود التخلي عما ترسب وترسخ بطريقة مباشرة وغير مباشرة من التراث البيولوجي أو من تخدير الألفة وبيروقراطيتها الخانقة والمعوقة لأي سياسات في تطوير بناء الإنسان.
والعمود الثاني هو رؤية البنية التعليمية في علاقتها الجدلية مع القوي السياسية والاجتماعية متأثراً ومؤثراً، تابعاً ومتبوعاً. هذا فضلاً عن تأكيده في مختلف فصول الكتاب بأن النظرية التربوية أو الإطار المرجعي النقدي يتطلب اعتماد رؤية عقلية علمية نافذة واعية لا تقتصر علي ما بين التعليم والمجتمع من المكونات والتفاعلات الداخلية لكل منها، وإنما تقتضي امتداداً إلي ما تتفاعل معه عالمياً من تيارات سياسية وعلمية ومعلوماتية وتكنولوجية واتصالية، وعلي منظور الحاضر وآفاق المستقبل القريبة والبعيدة.
وأمامك أيها القارئ في هذا الكتاب أحد عشر فصلاً أو بحثاً في موضوعات مهمة سوف تستمتع خلال قراءتها بكثير من آيات الفكر المبدع والالتفافات الذكية ومقترحات الممارسة والفعل نحو الأفضل.
ولن أحدثك مرة أخري عن الأسلوب العذب الجميل الذي يصوغ المؤلف من خلاله مفاهيمه وتحليلاته ومقترحاته، فسوف تشعر وتستمع بها، وبخاصة في تميزها عما جرت علية معظم الكتابة التربوية من جفاف لا يوحي، وعن تكلس لا يفصح، وعن "علموية" لا تفسح للخيال والبدائل آفاقاً مبدعة، أو قفزاً ونقلاً لتوجهات ومؤسسات تعليمية لدول وثقافات مغايرة في سياقاتها المجتمعية بحجة التحديث والتجديد.
تحية طيبة وتهنئة خالصة للمؤلفد. عبد الفتاح ترك أو (طه حسين التربوي)، وهنيئا لكل قارئ يريد أن ينعش فكره، ويجدد رؤيته بالتفكير والتدبر في مسالك التربية والتعليم وفي آفاقها المتعددة في بر مصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.