«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التعليم ضروري لضمان الأمن القومي واستمرار النظام السياسي
نشر في القاهرة يوم 15 - 06 - 2010

أتيح لي أن أطلع علي مخطوط كتاب سيتم نشره قريباً للدكتور عبد الفتاح ترك أحسب أنه سيكون جديراً بأن يقرأه ويتمثله كل من يتصدي لممارسة مهمات التربية والتعليم، والتأثير في مجريات تنمية المواطن في مراحل الطفولة المبكرة أو في التدريس بالمؤسسات التعليمية في مختلف مراحلها. سوف يستثير كذلك فكر المعنيين بتعليم الكبار وتثقيفهم من المسئولين عن رسائل الإعلام والتثقيف في مختلف مواقعهم وأساليب فنونهم وآلياتها.
أزكي قراءته فصلاً فصلاً، بل وتأمل أفكاره سطراً سطراً، إذا كانت لديك أشواق بأن تراجع رصيدك المعرفي، أو تجدد مخزون مفاهيمك وممارساتك فيما يتصل بتنمية البشر: روحاً ونفساً وبدناً وعقلاً وفعلاً وتواصلاً. وأحسب كذلك أنك سوف تري أنها نصيحة خالصة من شيخ عرك مجالات التعليم والتثقيف أكثر من ستين عاماً، وقد وقع في يديه أخيراً هذا الكنز التربوي والذي يحفزك علي قراءته، لا يدفعه لذلك هوي أو نفع أو شكور.
طه حسين التربوي
والكتاب بعد هذا وقبله لمؤلف أصفه دون تردد أو مبالغة أو تزيد بلقب (طه حسين التربوي) في قدراته علي التحليل والتدقيق لمفاهيم ما يكتبه، وإلي التركيب النقدي في معالجاته للفكر والممارسة. وهو في مشروعه التربوي نحو فلسفة عربية علمية نقدية يلتقي في إطاره المرجعي مع أستاذي عالم الاجتماع الشامخ/ كارل مانهايم حين يقرر أن التنمية الشاملة إنما تتحقق حين يصبح العلم ومناهجه ثقافة المجتمع: تفكيراً وتدبيراً وممارسة.
ويركز المؤلف في مختلف فصول كتابه علي التوضيح المستمر للفروق الجوهرية بين مقومات فلسفته التي يجهد في صياغتها، وفلسفة التربية التقليدية بمختلف تفرعاتها وافتراضاتها وتطبيقاتها الشائعة. ويؤكد في الوقت ذاته علي ما تتسم به رؤيته الفلسفية التربوية من مرونة وقابلية للمراجعة المستمرة لتداعياتها في ضوء ما تتلاقح معه من تغيرات مجتمعية داخلية وخارجية.
وهو في هذا الكتاب يجمع ويعتصر كثيرا من مؤلفاته السابقة في إطاره المرجعي الأصيل، وأشهرها (المدرسة وبناء الإنسان)، و(نحو فلسفة تربوية لبناء الإنسان العربي) و (تربية ما بعد الحداثة) و(فلسفة التربية مؤتلف علمي نقدي)الخ.. ولعله قد آن الأوان للتعريف بهذا المؤلف الذي اعتبره النظير التربوي لطه حسين في عالم الأدب والثقافة. إنه أ.د. عبد الفتاح إبراهيم تركي، أستاذ بقسم أصول التربية بكلية التربية، جامعة طنطا. ومن معالم سيرته الذاتية:
حاصل علي ليسانس آداب/ قسم الفلسفة/ جامعة القاهرة 1961.
التحق بالقوات المسلحة/ ملازم أول وقائد سرية استطلاع اللواء الثاني المدرع، والمكلف يوم الثامن من يونيو 1967 بتنفيذ هجوم مضاد علي المحور الأوسط لوقف تقدم العدو.
وفي هذا الهجوم يقول المؤلف (شاء الله أن أهدي تراب مصر نور العين)
ابتعث إلي فرنسا لاستكمال دراسته العليا خلال الفترة من 1969 - 1979، ليحصل علي ليسانس علوم وتربية، ودكتوراة المرحلة الثالثة - ودكتوراة الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية.
ومنذ عودته من البعثة يظل عضو هيئة التدريس بكلية التربية جامعة طنطا.
ومما سبق لعلك تتفق معي أيها القارئ الكريم إلي ما وصفته من التشابه بينه وبين طه حسين، إلي ما يتصفان به من عزيمة فائقة، وإرادة لا تحيد، ومعاناة قاسية في اقتحام دراستهما العليا حتي درجة الدكتوراة، وفي نفس جامعة السوربون الشهيرة في باريس، ومع فقد البصر وانتصار الإرادة والبصيرة.
ولعلي أضيف سمة أخري في التشابه بين قطبي مؤلف هذا الكتاب عبد الفتاح تركي وطه حسين حين نستمع إلي كل منهما وهو يلقي محاضرة أو يقدم بحثاً. فمن حديث كل منهما تسمع صوتاً رخيماً واضحاً واثقاً في مخارج حروفه ومقاطعه، لا يتلجج ولا يتلعثم ولا يتقطع، يتسم بإيقاع عذب يملك عليك كل انتباهك. هذا فضلاً عن عمق الأفكار وسلاسة العبارة ودقتها في التعبير عما ينشده المتحدث.
وأكثر من هذا ما منحهما الله من ذاكرة خارقة مبهرة. أتيح لي أن استمع لكل منهما وهو يناقش طالباً في رسالته للدكتوراة، حيث تغمرك الروعة حين يحيله إلي أرقام وصفحات معينة، بل وإلي أرقام فقرات في صفحات معينة، لمناقشته في تلك الصفحات أو الفقرات دون أن يقلب صفحات الرسالة طبعاً، أثق في أنك أيها القارئ الكريم مع تصور هذا المشهد سوف تزداد قناعتك بأن تلقيبي لمؤلف هذا الكتاب باسم (طه حسين التربوي) كانت له أسانيده ومبرراته.
إننا مع كتاب يستوقفك عنوانه: (النظرية التربوية حوار الأفكار والتحديات) وقد يبدو لأول وهلة أن العنوان يمثل معالجة نظرية لا تبتعد قوانينها القاطعة المتفق عليها دون تردد.
النظرية التربوية
لكن منذ الصفحة الأولي في هذا الكتاب سوف يفاجئك المؤلف بأن النظرية التربوية إنما تعني الإطار المرجعي الذي يؤثر في تلك المفردات الجزئية من ألفها إلي يائها. وقد سيطرت، ولا تزال في حالات كثيرة، نظرية الحتم البيولوجي بخصائصه الوراثية الثابتة التي يولد بها الطفل، وباعتبارها المحددة لما سيكونه في المستقبل، ذكياً أم غيباً، نشطاً أم خاملاً. وتصبح مهمة مؤسسات التربية والتعليم تنمية ما يحمله الإنسان (بالقوة) ليصبح متحققاً ومتطوراً (بالفعل) خلال التحاقه بها، كما يقول الفلاسفة. وفي هذه النظرية سوف يغلب الطبع علي التطبع، وسوف تتضح لنا عوامل تماثل وثبات الأنظمة التعليمية، وجعلها توسم بالجمود وصعوبة التطوير والتغيير والتجديد.
وفي مواجهة تلك النظرية التربوية الجامدة والحاكمة لمسيرة الإدراك التربوي يؤكد المؤلف أن من بين أهم مرتكزات مرجعيته ضرورة اصطناع إطار مرجعي يتألف من مجموعة من (الأفكار والمفاهيم والمبادئ والقناعات التربوية، كحزمة لا تتوقف عن التغير والتطور، الذي تحكمه العلوم المساندة للتربية من جانب، وما تفرزه عملية توظيف مضمون هذا الإطار في الواقع من جانب آخر).
ويتضمن التخلي عن نظرية الحتمية البيولوجية الاقتناع بأن أطفالنا يولدون وهم قابلون للتعلم بدرجة غير محدودة، وليسوا مقيدين بمواهب أو قدرات ومهارات تدمغهم مسبقاً، بين موهوب وغير موهوب، وإنما يتوقف نموهم عقلاً وجسماً ووجداناً وسلوكاً بما يتاح لكل منهم من عناية ورعاية في أجواء معلمهم الأول أي الأسرة. وبذلك ينفتح المجال إلي ما يتلو ذلك من خبرات ومثيرات ومواقف تربوية خلال مراحل نموهم ونضجهم. ومن ثم تصدق مقولة (التعليم في الصغر كالنقش علي الحجر) وصفاً لأهمية مرحلة الطفولة وتأثيرها البالغ لبيئتها الرعائية في نمو الطفل. لكنها بطبيعة الحال ليست ثابتة غير قابلة للتبديل أو الإضافة، وإنما يتغير النقش مع تفاعله مع محيط نموه الاجتماعي والمادي والتواصلي في بيئته.
ونشير في هذا الشأن إلي الأسس الباطلة في بعض التصورات الجينية أو الوراثية التي تدعو إلي تقسيم الطلاب علي أساس اختبارات الذكاء أو قبول الطلاب في الجامعات علي أساس اختبار للقدرات، علي اساس أنها قدرات وراثية بقضاياها عن المألوف في دراسة المنظومة التربوية والتعليمية مما تلوكه الألسنة وما تسطره أحبار الكتابة في مسائل المناهج، وعملية التعليم والتدريس، والإدارة المدرسية والامتحانات، وغيرها من المألوف في تناول مكونات التعليم منعزلة في المدرسة والجامعة، وهو مما جري العرف السائد علي تناوله في مفرداته، وتشخيصها بمواقع ساكنة مستقرة. وثمة قناعة ثابتة فطرية، كما هو المقترح حالياً من اعتبارها مؤشراً هاماً للالتحاق بالتعليم العالي.
وانطلاقاً من أهمية مرحلة الطفولة التي تعتمد أساساً علي المحيط الأسري يؤكد المؤلف علي أهمية ما يطلق عليه بالتربية الوالدية وتنظيم برامج تدريبية وتثقيفية للآباء والأمهات تهدف إلي توعيتهم بالأسس المعرفية والعلمية والممارسات والخبرات الحياتية التي تضمن تنشئة أطفالهم تنشئة سليمة. ونظراً لتأكيد المؤلف علي مسئولية الأسرة في إنضاج أطفالها فقد أفرد للتربية الوالدية فصلاً خاصاً (الثامن) يحدد تفاصيل البرامج التدريبية والخبرات والأسس العلمية والنفسية والصحية التي تعالجها. وفي اعتقادي أن موضوع التربية الوالدية ينبغي أن يكون مكوناً من مكونات برامج تعليم الكبار للأميين وللمتعلمين. وقد تتولي كليات التربية إدماج التربية الوالدية ضمن برامجها في تعليم الكبار وفي مؤتمراتها وندواتها العلمية.
ويؤكد المؤلف ضرورة التخلي عن معتقد الحتمية البيولوجية في الفهم والممارسة التربوية السائدة في كثير من جبهات التربية والتعليم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وما صاحبها مما يطلق عليه مصطلح (تخدير الألفة) نتيجة لما استقرت عليه تقاليد الماضي من استمرار الاطمئنان لمقتضياتها ويعتبر ذلك التخلي شرطاً من شروط بلورة بنيته التعليمية الجديدة، والعمل علي مراجعة القوانين والقرارات والأنظمة البيرقراطية ومسلماتها السائدة التي تخنق محاولات التجديد.
المؤتلف العلمي النقدي
وهي الفلسفة التي اصطلح علي تسميتها بمشروع (المؤتلف العلمي النقدي) الذي يتسم بالمرونة والمراجعة والتطوير. ويعني بهذا المصطلح الأهمية البالغة للتناسق والاتساق والتكامل بين مكونات البنية التعليمية وأسسها ومبرراتها وفاعليتها، أي في إطار مرجعي متآلف وقابل للتعديل في إطار حركة الزمان والمكان. ويحذر من عدم الالتفات لإطار هذين العاملين، إذاً إن تجاهلهما في قياس الحاضر بالماضي، ينفي متغيرات التاريخ الذي لم يعد تاريخاً ليصبح مجرد امتداد زمني لا تاريخي.
ولعل العمود العام الثاني الذي ترتكز عليه فلسفته ما دعت إليه النظرية النقدية في فهم حركة المجتمع وتفاعلاتها وعلاقتها الجدلية مع السلطة والقوي السياسية والاقتصادية المهيمنة علي مسيرة المجتمع وتوجهات مؤسساته قديمة راسخة بأن السعي إلي تطوير كل منها يخضع لمسلمات علمية أو علي الأصح "علموية" أي شبه علمية، أو فنية أكاديمية محايدة لها وجماعاته. من ثم يفصل في استعراضه للإطار النقدي وفواعله والقوي السياسية المؤثرة فيه داخلياً وخارجياً، وتنوع التوظيف للمؤسسات التعليمية ورسائلها في المجتمع المصري منذ تبلورت سلطة الدول في حكم محمد علي الكبير 1805 وحتي اليوم.
وتتفق معظم نظريات المنهج النقدي في تشخيصها لحركة المجتمع عبر الزمان والمكان وتأثيرها في تطور النظم التعليمية سواء في المجتمعات المتقدمة أو النامية. ويمكن تلخيص (أهم مقوماتها العامة المشتركة في تأكيد العلاقات الجدلية، تأثيراً وتأثراً، نهضة وركوداً، بين النظام السياسي/ الاقتصادي/ الاجتماعي في إطار المجتمع الأكبر من ناحية وبين المهمات الأساسية لدور المنظومة التعليمية). ويلخصها عميد المدرسة النقدية الحديثة الفيلسوف البرازيلي (باولوفريري) في مقولته المختصرة بأن (التعليم عملية سياسية بأوسع معاني السياسة، كما أن السياسة بهذه المعاني عملية تربوية باتساع آفاقها). وهذا يعني أن النظام التعليمي إنما هو في الأغلب والأعم آلية وأداة وقوي محركة يعتمد عليها النظام السياسي والفئات الاجتماعية التي ترتبط مصالحها بمصالحه لدوام استقراره حاضراً ومستقبلاً.
ومن ثم يؤكد المؤلف علي حرص الأنظمة السياسية للدولة في إقرار قوانين للتعليم الإلزامي الإجباري لمرحلة معينة من تعليم الأطفال والشباب وفي مناهج ومضامين عامة، ولمجانية محددة لبعض فئاته أو لجميعهم في مختلف مراحل التعليم، لكي يتم برمجتهم وفق أهدافها ومقتضيات التعبئة في تعليمهم. وبذلك يتحقق تكوين مواطنين صالحين للاندماج في مسيرة النظام السياسي لهذا المجتمع أو ذاك . ومن خلاله يجري التلوين والتكييف للمتعلم بما يتطلبه ذلك المجتمع من مفاهيم وتوجهات فكرية ومقومات قيمية وتواصلية في تكوين المتعلمين للمشاركة في أحداثه في السراء والضراء. وبذلك يكتسب النظام السياسي الاجتماعي شرعيته مع توافقه واتساقه مع رسالة تكوين المواطنة من خلال المنظومة التعليمية.
وبعبارة أخري يؤكد المؤلف أن شرط وجود النظام التعليمي ومكوناته ومضامينه واحتفاظه ببنية ومسيرة مستقرة، مرهون بقدرته علي تحقيق تطلعات وتوجهات النظام السياسي والقوي المرتبطة به، وإقرارها بفاعلية ذلك النظام التربوي في التأكيد وضمان الأمن القومي لاستمرار ذلك النظام، وإمكانية إعادة إنتاجه خلال مسيرته المتصلة. وهذا هو توجه النظرية النقدية التي يتحدد دور التعليم من خلالها في إعادة إنتاج أو معاودة إنتاج قيم النظام السياسي الراهن والحفاظ علي بنيته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إجراءات
بيد أنه قد يحدث في مسيرة تلك العلاقة بين النظام السياسي المجتمعي ودور المؤسسة التعليمية خلل بسيط في الاتساق القائم بين الطرفين سواء في توازن الطرف الأول أو تكيف الطرف الثاني. وساعتئذ سوف تتخذ إجراءات محدودة في أي من الطرفين أو في كليهما، وقد تكون في معظم الحالات علي صورة تعديلات أو إضافات محدودة تكون في الأغلب شكلية أو تجميلية. وهذه الإعادة لحالة التوازن الأصلية تمثل ما يعرف بمشروعات إصلاحية لا تغير من جوهر اللحن الأصلي الذي تميزت بها معزوفة موازين معاودة الإنتاج. وهذا يحدث في كثير مما يعرف بمشروعات إصلاح التعليم أو تحسينه أو تطويره في معظم الدول النامية التي تسودها نظم سياسية غير ديمقراطية تتشبث ببقائها في السيطرة علي مقاليد الحكم. ومثل تلك الإصلاحات الشكلية ينطبق عليها المثل الفرنسي plus ca change plus c' est la meme chose أي (كلما جري تغيير، فإنه يظل علي نفس الحال والمنوال)
غير أنه إذا ما حدثت تغيرات كبري عميقة جديدة في بنية المجتمع مما يؤدي إلي اختلالات نوعية مزعزعة للتوازنات الراهنة والمصالح الفئوية، أي عند حدوث انقلاب أو ثورة فإن تلك القوي سوف تسعي إلي تغيير حاسم يطلق عليه عادة بأنه تغير جذري راديكالي. وسوف يمتد إلي نظام التعليم وسياساته ومناهجه وتوجهاته العميقة، تمليها القوي السياسية والاجتماعية الجديدة. وهذا يعني تمكين نظام تعليمي مغاير يقوم بدعم شرعية الحكم الجديد وفاعليته لترسيخ مقوماته وأهدافه.
ومع مضي الزمن وضمان النظام السياسي لاستمرار التعليم الجديد، في دعم للنظام الجديد، يتحول دور المنظومة التعليمية إلي معاودة إنتاج النظام السياسي الذي استقرت دعائمه، واطمأن إلي صلاح مسيرته ونتائجها.
وهكذا دواليك في عملية التفاعل والتأثير والتأثر بين التعليم والقوي السياسية ليصبح عملية سياسة وأن السياسة عملية تعليمية. ويوضح المؤلف العلاقة بين البنية الاجتماعية المتبوعة والبنية التعليمية التابعة في تاريخ مصر منذ بداية حكم محمد علي الكبير حتي اليوم مشيراً إلي تلك العلاقة خلال النظام الملكي وفترة الاحتلال، ومنذ ثورة 1919 والفترة الليبرالية منذ الاستقلال الذاتي 1922، امتداداً إلي الثورة الناصرية 1952، ثم تغيير فلسفة الحكم والاتجاه نحو الرأسمالية والحرية الاقتصادية، والاندماج مع عولمة السوق العالمية وتوجهاتها التعليمية والتكنولوجية والإنمائية.
تبعية النظام السياسي
ومع غلبة تبعية النظام السياسي في تأثيره علي بنية التعليم وسيطرته في تحديد العلاقات بين مكوناته المختلفة، إلا أن ذلك لا ينكر في تقديرنا ما للتعليم في بعض الحالات من كونه قوة فاعلة في التأثير علي البنية السياسية بطريقة خفية مستترة وجوباً أو جوازاً، ومتراكمة متفاعلة تدريجياً ليصبح بذلك هو القوة المتبوعة في نهاية المطاف. وهذا يعني أن يصبح التعليم ذاته قوة من قوي التغيير للنظام السياسي ذاته، وإيجاد توازنات جديدة مغايرة للقوي السياسية والاجتماعية السابقة.
وسوف أتوقف هنا بعد إبراز هذين العمودين لما فصله الكتاب من رؤيته في تحديد التعليم وفاعليته في المجتمع، وهما عمود التخلي عما ترسب وترسخ بطريقة مباشرة وغير مباشرة من التراث البيولوجي أو من تخدير الألفة وبيروقراطيتها الخانقة والمعوقة لأي سياسات في تطوير بناء الإنسان.
والعمود الثاني هو رؤية البنية التعليمية في علاقتها الجدلية مع القوي السياسية والاجتماعية متأثراً ومؤثراً، تابعاً ومتبوعاً. هذا فضلاً عن تأكيده في مختلف فصول الكتاب بأن النظرية التربوية أو الإطار المرجعي النقدي يتطلب اعتماد رؤية عقلية علمية نافذة واعية لا تقتصر علي ما بين التعليم والمجتمع من المكونات والتفاعلات الداخلية لكل منها، وإنما تقتضي امتداداً إلي ما تتفاعل معه عالمياً من تيارات سياسية وعلمية ومعلوماتية وتكنولوجية واتصالية، وعلي منظور الحاضر وآفاق المستقبل القريبة والبعيدة.
وأمامك أيها القارئ في هذا الكتاب أحد عشر فصلاً أو بحثاً في موضوعات مهمة سوف تستمتع خلال قراءتها بكثير من آيات الفكر المبدع والالتفافات الذكية ومقترحات الممارسة والفعل نحو الأفضل.
ولن أحدثك مرة أخري عن الأسلوب العذب الجميل الذي يصوغ المؤلف من خلاله مفاهيمه وتحليلاته ومقترحاته، فسوف تشعر وتستمع بها، وبخاصة في تميزها عما جرت علية معظم الكتابة التربوية من جفاف لا يوحي، وعن تكلس لا يفصح، وعن "علموية" لا تفسح للخيال والبدائل آفاقاً مبدعة، أو قفزاً ونقلاً لتوجهات ومؤسسات تعليمية لدول وثقافات مغايرة في سياقاتها المجتمعية بحجة التحديث والتجديد.
تحية طيبة وتهنئة خالصة للمؤلفد. عبد الفتاح ترك أو (طه حسين التربوي)، وهنيئا لكل قارئ يريد أن ينعش فكره، ويجدد رؤيته بالتفكير والتدبر في مسالك التربية والتعليم وفي آفاقها المتعددة في بر مصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.