لطالما ردد القوم تلك الرواية التي ذكرها البخاري في مسنده (عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيسٍ، قَالَ ذَهَبْتُ لأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ (يعني علي بن أبي طالب)، فَلَقِينِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ أَينَ تُرِيدُ قُلْتُ أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ . قَالَ ارْجِعْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يقُولُ " إِذَا الْتَقَي الْمُسْلِمَانِ بِسَيفَيهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ " . فَقُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ " إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَي قَتْلِ صَاحِبِهِ " باعتبارها حقيقة ثابتة من حقائق الدين التي لا تقبل الدحض ولا التعديل. الآن وبعد أن اندلع القتال في اليمن انبري مفتي السعودية محرضا علي القتل والقتال ومعلقا علي ما تردده بعض وسائل الإعلام بشأن حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يتحدث عن لقاء مسلمين بسيفيهما ومصير القاتل والمقتول في النار قائلا في تصريحات لصحيفة (الوطن) السعودية: إن هذا الحديث ينطبق علي الأمور الملتبسة وغير الواضحة، أما في المسائل الخاصة بين الحق والباطل كما هو في مسألة دخول المتسللين الحوثيين إلي أراضينا، فنحن علي الحق وهم علي باطل واضح يجب قتالهم. إنه الحق (من ربك) وكل من عداه هو الباطل!!. الصورة واضحة عند المفتي!! كما يمكننا أن نلاحظ أن المفتي السعودي يعتقد أنه يملك من البصيرة ما لم يكن متاحا للإمام علي بن أبي طالب أو لخصومه من الصحابة مثل طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وأم المؤمنين عائشة حيث لم تكن الصورة واضحة بالنسبة لهم خاصة وأنه يعتقد أن البخاري هو أصح الكتب بعد كتاب الله!!. من ناحيتنا فنحن نعتقد أن الصورة كانت واضحة تمام الوضوح عند الإمام علي بن أبي طالب الذي جاء إلي الخلافة ببيعة شعبية عامة فضلا عن أن أحدا لا يمكن أن يزعم أن المخابرات البريطانية كانت صاحبة نفوذ في الجزيرة العربية وقتها أو أنها كانت صاحبة دور في تعيينه خليفة للمسلمين كما أنه لم يكن من بين قادته العسكريين ومستشاريه أحد يسمي جون فيلبي أو الكابتن شكسبير!!. فعن أي شرعية ووضوح تمنحهم الحق في سفك الدماء يتحدثون؟!. طبعا نحن نعتبر أي قتال ينشب بين المسلمين كارثة يتعين إيقافها فورا إلا أننا نعتقد أن هذا النص المفترض لا ينسخ النص القرآني الذي أباح قتال الفئة الباغية المسلمة من أجل ردعها ومنعها من مواصلة العدوان عملا بقوله تعالي (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَي الأُخْرَي فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّي تَفِيءَ إِلَي أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الحجرات 9-10. أما كيف يمكن الحكم بأن هذه فئة باغية يتعين قتالها وردعها فهذا يتوقف علي أمرين: الأول: أن تكون الحكومة التي تتولي هذه المهمة حكومة شرعية منتخبة تمثل أغلب فئات المجتمع ولا تقوم علي هيمنة فئة أو أسرة أو حزب علي فضاء الحكم والسياسة والثروة وإلا اعتبر كل معترض علي الظلم والاسئثار باغيا يتعين قتله وإبادته. الثاني: أن يصدر القرار بعد التحقيق والتدقيق القانوني وبعد التأكد من بذل كل ما يمكن من جهد وصولا إلي حقيقة أن القتال أصبح هو المخرج الوحيد المتاح. النص القرآني ليس دعوة مفتوحة لإبادة (الفئة الباغية) رغم بغيها ولا هو دعوة للافتئات عليها ومحوها من علي ظهر الأرض بل هو نص يتعلق بالإجراءات التي يتعين علي حكماء الأمة تحقيقا لهدفين واضحين هما تحقيق العدالة والأمن في إطار من الإخوة الإسلامية (فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا). أي أنه لا أمن بالقمع ولا أمن بلا عدل ولا أمن عبر منع الجماعات والفئات المتظلمة من المطالبة بحقوقها ولا أمن في ظل نظم تتصرف مع شعوبها تصرف السباع الضارية التي تروم أكل هذا ونهش ذاك وإلقاء ما تبقي منه للضباع. بين معاوية وسعد يروي المؤرخون أن سعد بن أبي وقاص دخل علي معاوية بن أبي سفيان بعد استيلائه علي السلطة فلم يسلم عليه بإمرة المؤمنين فقال له معاوية لو شئت أن تقول في سلامك غير هذا لقلت، فقال له سعد نحن المؤمنون ولم نؤمرك، كأنك قد بهجت بما أنت فيه يا معاوية والله ما يسرني ما أنت فيه وأني هرقت محجمة دم!! قال ولكني وابن عمك عليا يا أبا اسحق قد هرقنا أكثر من محجمة ومحجمتين، هلم فاجلس معي علي السرير فجلس معه فذكر له معاوية اعتزاله للحرب يعاتبه! فقال سعد إنما مثلي ومثل الناس كقوم أصابتهم ظلمة فقال واحد منهم لبعيره أخ فأناخ حتي أضاء له الطريق فقال معاوية والله يا أبا إسحق ما في كتاب الله أخ، وإنما فيه (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما علي الأخري فقاتلوا التي تبغي حتي تفيء إلي أمر الله) فو الله ما قاتلت الباغية ولا المبغي عليها، فأفحمه!. إنه حوار أورده كثير من المؤرخين بصيغ متقاربة واللافت أن سعد بن أبي وقاص عندما عوتب من قبل معاوية علي جلوسه في بيته معتزلا أمر المسلمين لم يرد عليه قائلا (سمعت رسول الله يقول القاتل والمقتول في النار) لأن هذه الرواية لم تكن موجودة وقتها بل حاول أن يوجد تخريجة لهذا المأزق بحديث عن الظلام والضباب وانعدام الرؤية فكان رد ابن أبي سفيان (ما في كتاب الله إخ ولا أناخ) وسرد عليه الآية (فأفحمه) كما يقول الرواة. ليس في كتاب الله إخ ولا أناخ وليس في سنة رسول الله توقف في الحكم بعنوان انعدام الرؤية ومن ثم فالقاتل والمقتول في النار كما أنه ليس في دين الله ما أفتي به المفتي السعودية من إباحة القتل والقتال لا لشيء إلا لأن الأمور واضحة أو هكذا يظنها!!. أما الأسوأ من هذا فهو الاستهانة بتحريم القتال في الأشهر الحرم من دون مبرر منطقي ولا واضح ومن دون أن تتعالي الأصوات لتطالب بوقف القتال وكأن دماء المسلمين هي والماء سواء. ألغيت أخيرا فتوي (القاتل والمقتول في النار) ليحل محلها فتوي (القاتل في الجنة والمقتول في النار) فعلي كل من يري أن الأمور واضحة أن يسارع بقتل وإبادة من يختلف معه من المسلمين!!. وإنا لله وإنا إليه راجعون.