بهذا العدد تستقبل «القاهرة» - التي صدر عددها الأول يوم الثلاثاء 18 أبريل 2000 - عاما جديدا من عمرها وكان باستطاعتنا كما تفعل الصحف عادة.. أن نستعرض بيانا بما انجزناه: القضايا التي أثرناها.. والأقلام الجديدة التي سلطنا عليها الضوء.. والمعارك التي خضناها.. وموجات الهجوم التي تعرضنا لها والتي تكسرت واحدة بعد الأخري علي صخور يقيننا بأننا ندافع عما نعتقد أنه الحق.. وإصرارنا علي ألا نخضع لابتزاز.. وألا نتراجع أمام فحش في القول أو سوقية في التعبير وألا ننحدر تحت أي ظرف إلي مستوي الذين لا قيمة أو مقام لأحد عندهم.. لأنهم أصلا بلا قيمة أو مقام. علي امتداد السنوات التي انقضت، وبالذات في السنوات الأولي. كانت مشكلتنا الرئيسية هي أننا صدرنا في مناخ أصبح الاستقطاب الفكري فيه مرضا متوطنا.. وعصيا علي الشفاء.. فالأمور إما أبيض ناصع.. أو أسود فاقع.. والناس ينقسمون إلي قسمين لا ثالث لهما.. وكلّ شيء ضد كل شيء.. فالعمل الأهلي ضد العمل الحكومي.. والحرية ضد المسئولية.. واستقلال المثقف.. لا يتحقق إلا بالانعزال الكامل عن المؤسسات الثقافية للدولة بما في ذلك أحيانا رفض جوائزها أما التعاون مع المؤسسات العربية والدولية والمراكز الثقافية الأجنبية.. فهو عمل شرعي تماما لا ينقض الوضوء.. ولا يمس بالاستقلال!. في هذا المناخ من الاستقطاب الفكري والثقافي.. كان طبيعيا ألا يقبل أحد بالآخر.. وأن يتصرف الجميع بمنطق من ليس معي مائة بالمائة فهو ضدي مائة بالمائة.. وأن تتسع الهوة بين التيارات الفكرية الرئيسية.. علي نحو يوحي بأنها لا يمكن أن تلتقي حول مشتركات.. فكل واحد حريص علي نفي الآخر.. وعلي استئصاله.. ولا مانع لديه من أن ينسب له ما لم يقله.. وأن يزيف ما قاله لكي يتيح لنفسه الفرصة للتشهير به والتنديد بما لم يقله.. لأنه وحده.. ودون غيره.. الممثل الشرعي الوحيد للوطن وللدين وللثقافة وللفكر وللحرية وللاستقلال.. أما الآخرون فهم مطرودون من فردوس الوطنية والإيمان ومن جنة الحرية والاستقلال. وهكذا شاعت في حياتنا الفكرية والثقافية.. اتهامات العمالة.. بحيث أصبحنا جميعا في نظر الذين يتابعون المشهد الثقافي المصري من خارجه «عملاء».. وعجزنا عن أن نتفق إلا علي شيء واحد.. هو ألا نتفق!. وحين كانت هذه الجريدة مشروعا.. كنا نحلم بصحيفة تواجه هذا الاختلال في حياتنا الفكرية والثقافية... تكون منبرا للجميع.. يتحاورون علي صفحاته.. ويتعاونون فيما يتفقون عليه.. ويعذر بعضهم بعضا فيما يختلفون حوله لا يحتكر أحد علي صفحاته الصواب لنفسه ولا يعتبر أحد من يكتبون فيها نفسه الممثل الشرعي الوحيد لمقدسات الأمة.. وكان ذلك مصدر معظم متاعبنا وكان كذلك مصدر سرورنا وفخرنا.. فقد ألقينا حجرا في بحيرة ساكنة وغرسنا زهرة.. في حقل أشواك... كان علينا أن نتحمل بصبر التقاليد التي رسختها سنوات احتكار الحقيقة، وأن نواجه ظواهر استقرت كالأمراض الطفيلية في حياتنا الثقافية والفكرية.. اعتذر البعض في التعاون معنا، لأننا نستكتب بعض الذين يختلفون معهم في العقيدة أو المذهب أو الرأي، وفي أحيان ليست نادرة، الذين يختلفون معهم لأسباب شخصية.. وتعرضنا لهجوم الذين لا يطيقون أن يقرأوا رأيا يختلف عما يعتقدون أنه الحقيقة المطلقة التي لا يملكها سواهم، ويسيئون الظن بكل من لا يتفق مع رؤيتهم وحملات الذين أدمنوا الحكم علي كل عمل من زاوية الأشخاص الذين يديرونه وليس من حيث هو واقع موضوعي، ولسخافات وأكاذيب الذين توهموا أننا صدرنا لننافسهم ونسحب الأرض من تحت أقدامهم.. وتعرضنا لزوابع الذين يعانون وساوس قهرية متسلطة تدفعهم لإساءة الظن بكل شيء وكل شخص والذين تعودوا أن يسقطوا عاهاتهم النفسية علي الآخرين ويلحقوا بهم كل الرذائل التي يمارسونها سرا وعلنا.. تحملنا كل ذلك بصبر.. ولم نرد علي أصحابه ليس فقط لأننا كنا ندرك، أنه لن يصح في النهاية إلا الصحيح، ولكن - كذلك - لأننا كنا ندرك بأن هناك واقعاً موضوعيا، يخلق المناخ المواتي لانطلاق مثل هذه الزوابع، هو حالة التشوش الفكري التي أصابت جماعة المثقفين المصريين والعرب، في ظل عالم أخذ يتغير بإيقاع سريع وتنقلب مفاهيمه ورؤاه، وأن الأمر يتطلب وقتا حتي يستوعب الجميع ما يجري، وحتي يتوصلوا إلي اجتهاد جديد، يقودهم لتحقيق أهدافهم في ظل هذا التغير.. ومن الإنصاف للحقيقة أن نقول، إن هذه العواصف كلها انطلقت من عدد محدود من الأشخاص، وأننا وجدنا احتشادا ومساندة من الكتلة العظمي من المثقفين المصريين والعرب، الذين تفهموا الرؤية التي انطلق منها مشروع هذه الجريدة، وشاركوا بمساهماتهم الفكرية في دعمها، كمنبر ديمقراطي حر، يدعو للاعتراف المتبادل بين كل التيارات والمدارس والأجيال الأدبية والفكرية والثقافية، علي أساس حقها المشروع في الوجود، وحق كل منها في الاستقلال عن الآخرين، وفي الصراع ضد أفكارهم، عبر الحوار الديمقراطي الحرّ، انطلاقا من مقولة «قاسم أمين» التي اتخذناها شعارا لنا: الحرية الحقيقية تحتمل إبداء كل رأي ونشر كل فكر وترويج كل مذهب! وخلال السنوات التي انقضت منذ أن صدرت «القاهرة» تغير المناخ السياسي والفكري والثقافي في مصر وفي العالم العربي، بشكل نسبي قد يكون محدودا، وتغيرت معه كثير من الرؤي لدي جماعة المثقفين، وصدرت العديد من الصحف، تأخذ بنفس الصيغة التي أخذت بها «القاهرة» حين صدرت، وهو أن تكون منبرا للحوار الحرّ بين كل التيارات الفكرية. وربما كانت «القاهرة» هي أول صحيفة عربية، تتبع التقاليد المهنية الصحيحة، فتعقد اتفاقا بين الناشر - وهو وزارة الثقافة المصرية - وبين أسرة التحرير حول شخصية الجريدة المهنية، ورؤاها الفكرية، تكون أساسا لتحديد العلاقة بينهما، بما يحول دون التداخل في الاختصاصات، ويضمن لأسرة التحرير استقلالها الكامل، ويتفرغ الناشر لدوره في تهيئة الإمكانيات التي تضمن للجريدة استمرار الصدور.. ومازلت أتذكر حتي اليوم، اللقاء الذي جمعني في أوائل أبريل من عام 2000 بالوزير الفنان فاروق حسني، وبرئيس مجلس الإدارة فاروق عبدالسلام، لاستعراض بروفة العدد «صفر» من «القاهرة»، وفي خلاله استأذنتهما في أن أتلو عليهما البيان التأسيسي الذي أعددته، وناقشته مع أسرة التحرير التي شاركت في تأسيس «القاهرة»، قائلا، إن الموافقة عليه، شرط لاستمرار قيامي بمهمتي، واستمع الاثنان إلي نص البيان، باهتمام، ولم يعترضا علي كلمة واحدة منه! وفيما بعد كان هذا البيان - ولايزال - الأساس الذي يحدد العلاقة بيننا. ونحن نستقبل عامنا الجديد.. رأينا أن نعيد نشر البيان التأسيسي الذي نشرناه في عددنا الأول، لكي يحاسبنا القراء فيما مضي وفيما سيأتي.. استنادا إليه وكل سنة وأنت ياعزيزي القارئ.. والواطن والأمة بخير! نشرهذا المقال في عدد «القاهرة» الذي صدر في 18 أبريل 2010 في استقبال السنة العاشرة من عمر «القاهرة».