Photo: Martine Franck كيف يمكن للمثقف أن يشارك في الثورة والتغيير وبناء المستقبل، قبل أن يرسي لنفسه قاعدة فكرية ومنهجية يتوافق مع زملائه ورفاقه علي مبادئها؟ لقد ضحي المثقفون المصريون كثيراً ودفعوا غالياً منذ أجيال متصلة ثمناً لما اعتقدوه من أجل التغيير، ويمكن القول أن صلب الحركة الثقافية كان دائماً معارضاً للنظم الحاكمة، لكن موجاتهم كانت تنكسر وتضعف قبل أن تصل إلي الشاطئ لغياب قوة الدفع التي تشكلها العروة الوثقي بين الفكر والمنهج وحركة المجتمع.. إننا- كمثقفين- إذا لم نبدأ بإنجاز هذه القاعدة التوافقية لن نكون أحسن حالاً من الجماعات السياسية التي نشهدها الآن علي الساحة، وهي تتخبط بعيداً عن الرؤي المشتركة. نعم.. لم يكن قيام الثورة في 52 يناير 1102 هو بداية اشتعال حماس المثقفين المصريين نحو التغيير، ونحو تجميع إرادتهم للوقوف في مواجهة الانهيار المتسارع للأوضاع في الحياة الثقافية، في ظل وزارة الوزير السابق فاروق حسني ومعاونيه، ومن ورائهم النظام الحاكم بكل مساوئه، بل سبقت قيام الثورة مواجهات متعاقبة من جانب قطاع كبير من المثقفين ضد ذلك النظام وآلته الثقافية، وكانت تطالب بتنحية أو استقالة وزير الثقافة وحاشيته، لكن سياسة استقطاب أو تدجين المثقفين فيما سمي ب»الحظيرة« بجزرة أن يكونوا من أصحاب الحظوة والمنفعة لدي الوزير وأجهزته، أضعفت إلي حد كبير قوة الدفع وتصاعد الإرادة الجمعية في مواجهة النظام ودعم اتجاه الاستقلال عنه، وكانت آخر تلك المواجهات قبل الثورة بأسابيع عندما حاولت وزارة الثقافة- عبر كتيبة المثقفين المناصرين للوزير- إقامة مؤتمر عام للمثقفين المصريين، بنفس أسلوب الاستقطاب الذي يؤدي إلي تفتيت وحدتهم وإقصاء المعارضين منهم لسياسة »الحظيرة«، وقد أصدر هؤلاء بياناً شديد اللهجة ضد الوزير ومجمل سياساته، وقرروا عقد مؤتمر آخر تحت اسم »مؤتمر المثقفين المستقلين«، ومضوا خطوات في الإعداد له، حتي فاجأهم زلزال الثورة. لم يشحب- إذن- لدي المثقفين المصريين وعيهم التاريخي بأنهم ضمير الأمة ومشعل التنوير، ولم تكن فترة الاستقطاب في حظيرة النظام إلا استثناء لقلة محدودة قبلت القيام بدور التبرير والتجميل لشكل ذلك النظام، أو دور الإلهاء والتغييب لوعي الشعب عبر المهرجانات ومظاهرات المشاريع الوهمية باسم الثقافة والفن، حتي ولو تذرع أصحابها أحياناً بمواجهة التيارات الدينية المتعصبة.. وبرغم امتداد ذلك عقوداً، فإنه لم يفرز إلا نشرة سطحية من الانتهازية واللامبالاة بمستقبل الثقافة والوطن، وسرعان ما سقطت هذه النشرة فور قيام الثورة، ليظهر المعدن الحقيقي للمثقف المصري، الذي كان- علي مدار التاريخ الحديث- مناضلاً من أجل التحرر والاستقلال والعدل والتقدم، وضد كل أشكال القهر والاستبداد التي تعرضوا لها بين المعتقلات والسجون والهجرة خارج الوطن وحرب الأرزاق، وكان أقساها علي نفوسهم الاستهانة بهم وإقصاؤهم تماماً بعيداً عن المشاركة بأي دور في صنع مصير الوطن. لكن المشكلة التي لازمت مسيرة المثقفين عبر الأجيال هي اكتفاؤهم بمساحة النخبة التي أتيحت لهم لممارسة دورهم، واستغراق كل فئة بتخصصها المهني في همومها النوعية بمعزل عن الجماعة الثقافية بكل ألوانها، وعدم ضبط إيقاعهم مع إيقاع الواقع والمجتمع ليكونوا معاً علي أرض مشتركة، ومع التسليم بصدق نواياهم فلم تكن لديهم نظرية أو مدونة توافقية تبلور أهدافهم وتضبط علاقاتهم مع السلطة والمجتمع والمؤسسات الثقافية والسياسية.. فمنهم من كان ينادي بالمقاطعة الكاملة لتلك المؤسسات وبالاعتماد علي القنوات البديلة حتي لو كانت لها أجندات خارجية، ومنهم من كان يشجع عملية التغيير من داخل المؤسسات الرسمية، باعتبارها من مكتسبات الشعب لا من أملاك النظام الحاكم.. بل لم يتوافقوا حول إجابات واضحة لأسئلة بديهية لكنها محورية مثل: ما الثقافة؟ ومن المثقف؟ وما هوية المصريين ومكوناتهم الحضارية؟ وما حدود الانتماء إلي هذه المكونات؟ (لاحظ أن بيننا من يعتقد أن هوية مصر لا تعدو الهوية الإسلامية!).. وما العلاقة بين الإبداع والمسئولية؟ وما دور المثقف وعلاقته بالعمل العام وبالتغيير الاجتماعي والسياسي؟ وما معني استقلال المثقف بالنسبة للدولة أو النظام وحدود مشاركته في المؤسسات الرسمية؟ وإلي أي حد يمكن للمثقف أن يتولي إدارتها بدون أن يفقد استقلاله؟ وقد شهدت الأسابيع الثمانية الأخيرة حالة متصاعدة من الحراك التفاعلي بين المثقفين بحثاً عن إجابات لتلك الأسئلة وغيرها، واختلطت أحياناً المبادئ العامة بالحسابات الخاصة، وتصاعدت المطالبة بإقصاء كل القيادات ذات الصلة بالنظام السابق، في اتساق مع المناخ السياسي الذي تشهده البلاد منذ قيام الثورة، وبلغت الرغبة في التغيير لدي البعض حد المطالبة بإلغاء المجلس الأعلي للثقافة، بل بإلغاء وزارة الثقافة ذاتها، وأقيمت ورش عمل فكرية بالمجلس ضمن مثقفين من جميع المشارب والاتجاهات فيما يشبه العصف الذهني بلا حدود، وطرحت مشاريع متكاملة أو أوراق عمل حول موضوعات جزئية، والتحمت مجموعات أخري بعيداً عن المجلس، بعضها يسعي لتشكيل ما يسمي جبهة الثقافة الوطنية، وبعضها يذهب لإحياء جماعة المثقفين من أجل التغيير، ومضي كل فريق نحو إصدار بيانات تحمل أفكاره ورؤاه ومطالبه داعياً إلي جمع التوقيعات عليها، أو نحو التحضير لإقامة مؤتمر عام، ولم يسفر كل ذلك حتي الآن عن بلورة مشروع علي أرض الواقع، بل إن اختلاط الأوراق وتبادل المواقف بات السمة الغالبة، فنري رموز الدعوة للاستغلال يتخلون عنها ويتهمون دعاتها بالفهم الخاطئ لمعني الاستقلال بل ولمعني الثقافة، وبعدم إدراك التغيير بعد الثورة لطبيعة الدولة التي يريدون الاستقلال عنها، فيما نري أمين عام المجلس الأعلي للثقافة يطالب بإعادة تشكيله واختيار كوادره من جانب الجماعة الثقافية! وفي خلفية هذا المشهد نري الصراع محتدماً بين القوي السياسية الجديدة والقديمة جميعاً حول قضية: الدستور أولاً أم إجراء الانتخابات البرلمانية أولاً؟! ولم ينتبه المثقفون المنغمسون في بحث مستقبل الثقافة ومؤسساتها الرسمية، إلي أن أغلب القوي السياسية من حركات وائتلافات وأحزاب جديدة وقديمة لم تتضمن أجنداتها وبرامجها كلمة الثقافة، ولم ينشغل السياسيون بما ينشغل به المثقفون.. وإذا كان ذلك خطأ تاريخياً استمر حدوثه في الماضي، فإن استمراره بعد الثورة خطيئة كاملة، لأن الثقافة هي »النخاع الشوكي« للسياسة، الذي يعصمها من مفاسد »المكيافيلية« ولأن الحلم الأبدي بالتغيير لدي المثقف لابد في النهاية أن يصب في أوعية سياسية علي الأرض. لكن من الذي يبدأ بالخطوة الأولي نحو الآخر: المثقف أم السياسي؟ أظن أن صاحب الحلم الأكبر والأصدق هو المثقف، ومن ثم فإن عليه أن يكون صاحب المبادرة نحو التفاعل مع السياسي، وعندما أقول »المثقف« لا أعني فقط المبدع أدباً أو فناً أو مشتغلاً بأمورهما، بل أعني بذلك كل المشتغلين علي المكونات الثقافية للأمة بالمفهوم الأنثروبولوجي، وكل المشتغلين علي بناء وعي الإنسان وتقدم الحياة.. وعندما أقول »التفاعل« لا أعني الانخراط في العمل الحزبي، بل أعني الحوار والإلحاح علي تعميق الثوابت والقيم العليا، كالحرية والعدالة والهوية والتفكير العلمي وسيادة القانون والعقل، وتحقيق أهداف الإنسانية من وراء ذلك كله: الحق والخير والجمال. بهذه القناعة الأولية اجتمعت إرادة أربعة من المثقفين، يمثلون- بغير قصد مسبق- أربعة مجالات إبداعية مختلفة.. أحدهم الشاعر رفعت سلام، والثاني المخرج المسرحي أحمد إسماعيل، والثالث الكاتب الروائي حمدي الجزار، وآخرهم كاتب هذه السطور.. وعلي مدي عدة لقاءات مكثفة بزغت كلمة »دستور المثقفين« عنواناً للمدونة التي أردنا كتابتها، لتكون الوعاء الذي يحتوي كل ما رأيناه وتدارسناه من أفكار ورؤي.. وقد حاول بعضنا الفكاك من كلمة »الدستور« لما تمثله صورته الذهنية من حاكمية قد تتناقض مع حرية المبدع وحقه في الانفلات والتمرد في إبداعه أحياناً، لكننا كنا نعود بعد كل مناقشة إلي نفس الكلمة، لأنها الأكثر تعبيراً عن معني الوثيقة الجماعية الهادية، والمؤسسة- في ذات الوقت- لقيمة الالتزام الذاتي من جانب المبدع والمثقف تجاه أمته. إنها- في النهاية- مدونة أولية نطرحها للنقاش علي المثقفين بالرأي العام، كمسودة قابلة للإضافة والحذف والضبط والتغيير، حتي ننتهي إلي التوافق عليها دون أن يدعي ملكيتها أحد بعينه، كميثاق شرف أو عقد نرتضيه ونضبط به خطانا في تعاملنا مع بعضنا البعض ومع ثوابتنا الثقافية وقضايانا الوطنية بدون نزوع لفرضها علي أحد. لهذا فهي دعوة مفتوحة للتواصل مع هذه الوثيقة عبر موقعها علي الإنترنت، وقد لا نكون قد حققنا فيها طموحات جميع أفراد الجماعة الثقافية، لكن حسبنا شرف المحاولة وفتح الطريق نحو تلاقي كل الجهود والمحاولات الأخري، حتي يصبح لنا مكاننا اللائق بنا علي ساحة الوطن وميدان العمل من أجل التنوير والنهضة.