الدكتور أحمد زكريا الشلق، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، يقول في آخر كتبه، وهو عن طه حسين، بعنوان «طه حسين، جدل الفكر والسياسة»، الذي صدر عن «مكتبة الأسرة». «في يقيني أن أحدا لا يستطيع أن يكتب شيئا عن عميد الأدب العربي، إلا أن يكون قد قرأ كل ما كتبه وتمثله، في أناة وصبر، وتأثر به بدرجة أو أخري». وبعد أن تنتهي من قراءة الكتاب، ستري أنه محق في هذا القول، وأنه ما كان له أن يكتب هذا الكتاب، بهذا الوضوح والإلمام ودقة التفسير ولماحية التقييم، دون أن يكون قد أخذ بهذه النصيحة، «حيث قضيت في صحبة ما كتبه العميد طوال عشرين عاما»، كما يقول. ويعجب قارئ الكتاب، لحجم الإنجاز والإسهام الذي كان يتفجر من ينبوع المعلم العظيم، وكما قالت زوجته عنه فيما بعد، وهي تتذكر مرحلة من حياتهما، كان يعمل كأنه محكوم عليه بالأشغال الشاقة». ومجايلو طه حسين وقريبو العهد به والذين قرأوا له أو عرفوا قدره من الأجيال التالية، يتصورون دائما أن الميدان الذي صال فيه وجال هو الأدب والفكر. وهذا هو ميدانه بالفعل. ولكن نشاطه أو دوره في المجال السياسي، بالكلمة والموقف والفعل والمواجهة والتضحيات لم تكن أقل خطرا. علي ذكر كلمة التضحيات، فإن معركته المدوية من أجل استقلال الجامعة في الثلاثينيات من القرن الماضي معروفة، ولكن من كتاب الدكتور الشلق، نعرف أنه من توابع هذه المعركة، قضي ثلاث سنوات محالا إلي المعاش، يعاني من ضيق ذات اليد، إلي الحد الذي تقول زوجته عن تلك السنوات «كنا في مجاعة» ومحمد محمود رئيس حزب الأحرار الدستوريين، حزب طه حسين - بشكل ما - يقول له، إننا نعاني من ضغوط الأزمة الاقتصادية العالمية، وعليك أن تعمل وتكتب في صحيفة الحزب مجانا. ويعلق طه حسين فيما بعد، علي هذا الكلام «يقول لي هذا وهو من أغني أغنياء مصر». ويفصل الكتاب كيف أن دور طه حسين السياسي امتداد لدوره في مجال الفكر واستكمال له، إرساء ركائز الحرية والعقلانية، وبناء وطن مستقل ومعاصر. ويلقي الباحث أضواء كاشفة علي بدايات التكوين لديه في العقد الأول من القرن العشرين، حيث يتشكل جناحا الحركة الوطنية من الحزب الوطني وحزب الأمة، ويبقي فترة علي مسافة متساوية في التيارين. وشيئا فشيئا يميل إلي دعوات لطفي السيد. وحين تندلع ثورة 1919، يكون قد استوي عوده، ونضجت مواقفه، وعلي وشك الانتهاء من دراسته في فرنسا (أنهي الدكتوراه في السوربون في 1919)، ورغم انشغاله بالانتهاء من رسالته الجامعية، إلا أنه يتابع أحداث الثورة يوما بيوم، ويذهب إلي لقاء سعد زغلول وزملائه، عندما جاءوا إلي باريس، لعرض القضية المصرية. ويتوقف الكتاب عند وقوفه مع الأحرار الدستوريين، بل إنه يهتف في إحدي المناسبات أمام عدلي يكن «يحيا عدلي». ويعود هذا الموقف من الأحرار الدستوريين إلي بدايات الثورة، عندما وافق أستاذه لطفي السيد، علي أن التركيز الأكبر يجب أن يكون علي مسار التطور بعد الاستقلال، وإرساء الديمقراطية. وأنه لابد من الانتباه للحد من طغيان الزعيم والأغلبية الوفدية. هذا ما ربطه بالأحرار الدستوريين والأهم دفاعهم عن التنوير ونشر الثقافة وبناء النخبة، وكان المنهج الذي ألقاه علي طلبته في تلك السنوات حول النظم الديمقراطية والكتاب الذي ترجمه آنذاك هو نظام الأثينيين. ولكنه منذ منتصف الثلاثينيات بدأ يميل إلي حزب الوفد وبرنامجه وجماهيره الواسعة، وتصاعد هذا الارتباط، حتي تولي وزارة المعارف في آخر حكومة للوفد قبل ثورة 52. والتفسير الذي يزكيه الشلق هو التفسير المنسوب إلي لويس عوض، الذي يري أن خبرات طه حسين ومسار مشروعه أملي عليه أن يكتشف أن الضمان الأكبر للحرية أن تظل مطلبا للنخبة، ولكن أن يتبناها المجتمع وأوسع دائرة في الجماهير. أما الفصل الخاص بموقفه من ثورة يوليو وعصرها، فهو نموذج لعلاقة المثقف الحقيقي ودوره، بهذه المرحلة في تاريخ مصر. وجوهره نجاح الحاكمين خلالها، من تقييد أيدي النخبة، وحرمانها في المشاركة، إلا في حدود ما يرسمه قادة النظام. فهؤلاء الذين مهدوا للثورة وحلموا بها وحضوا عليها، تم إبعادهم بطرق وأشكال مختلفة. هل تعرف أن طه حسين أول من هتف إنها ثورة، عندما أخبره سفير مصر في إيطاليا، حيث كان العميد في إجازة، صباح يوم الثورة، ثم وقع مغشيا عليه، من شدة الانفعال. ورغم أن طه حسين كان موضع تقدير واحترام جمال عبدالناصر دائما إلا أن وضعه لم يختلف عن غيره من كبار المثقفين الذين احترموا أنفسهم ودورهم وتاريخهم ولم يسايروا، وعندما فصل من جريدة الجمهورية يوما، قال بمرارة: «لقد أحالوني إلي المعاش مع عدد من المحررين». ولأول مرة أعرف من هذه الدراسة الرصينة والممتعة أن طه حسين لم يكتب كلمة واحدة عن كتاب «فلسفة الثورة»، ولم يعلق بحرف واحد علي دستور 1956 وما تلاه، وهو الفارس المشهود له في نشر قيم الديمقراطية. وهو صمت أبلغ من أي كلام. «روح التربية» وبمصادفة غير مقصودة، صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في نفس الوقت، كتاب «روح التربية» تأليف المفكر الفرنسي جوستاف لوبون، وترجمة طه حسين. ولابد أنهم قليلون جدا، الذين يعرفون أن كتابا كهذا، قد صدر يوما، مترجما بقلم العميد. فالكتاب صدر سنة 1921 عن دار الهلال، أي وطه حسين في الثلاثين من عمره، وقادم لتوه من بعثته العلمية من فرنسا. واهتمامه بترجمة هذا الكتاب يكشف عن اهتمامه المبكر بقضية إصلاح التعليم وقضية النهضة عموما. فمن أول سطور المقدمة يكتب: «الشرق العربي كله ناهض هذه الأيام، وليست نهضة سياسية محضة، وإنما تجمع إلي السياسة العلم والأدب والاقتصاد والنظم الاجتماعية علي اختلافها، ومن الإطالة ولغو القول أن نحاول إثبات ما فرغ الناس من إثباته، من أن كل نهضة فيه رهينة بشيء واحد هو صلاح التعليم». وقد نشر هذا الكتاب في فرنسا ربما قبل وقت قليل من ترجمته إلي العربية، فهناك إشارات تنبه إلي ما كشفت عنه الحرب العالمية الأولي من عيوب أدت إلي هزيمة فرنسا، تبدأ من تكوين التلاميذ في المدارس. ولكن الذي دفع طه حسين إلي الاهتمام بالكتاب، لا يتعلق بفرنسا، ولكن بسبب الموضوع الذي يدور حول مثالب النظام التعليمي في فرنسا، وكيف نقرأ هذا في مصر. وإصلاح التعليم، كان يؤرق قادة النخبة الفرنسية، وكانت لجنة برلمانية قد أصدرت تقريرا حول أوضاع التعليم في ستة مجلدات. وهذا التقرير وغيره، كان المدخل الذي اعتمد عليه المؤلف في كتابه، الذي يشرح بتفصيل وإطناب عيوب المدرسة الفرنسية، وكيفية الإصلاح وفلسفته. ومن بين ما جاء في ثنايا التقرير البرلماني: «الطلبة الفرنسيون لا يعرفون أن يفكروا بأنفسهم، لأنهم طوال حياتهم حقائب بولغ في حشوها، فأصبحوا عاجزين عن التفكير، ثم إن هذه الطريقة تبغض لهم القراءة، فهم لا يظهرون أي ميل إلي ما نعلمهم، وهم كالأطفال الذين أسرف أهلهم في تغذيتهم». ويتسم كتاب لوبون بنبرة حادة ناقمة، علي نظام التعليم من كل جوانبه: المدرسون والنظار والبرامج والأسلوب والامتحانات، نبرة تحس معها أنه لا يتحدث عن بلد عظيم في طليعة الدول المتقدمة، ولكنه يتحدث عن دولة فاشلة. ولعل هذا واحد من أسرار التقدم هناك، مراجعة النفس بقسوة وحسم. وروشتة الإصلاح تتمثل عنده في تغيير المنهج، المنهج الذي يعتمد علي الذاكرة والحفظ، وليس علي تكوين ملكات التفكير والابتكار وبناء المواطن المستقل قوي الإرادة. ويطنب في الإشادة بنظم التعليم في دول معينة، وبالذات أمريكا، ومن بين ما يقوله في هذا الصدد: «في أوروبا يبعث الأوروبي ابنه إلي المدرسة، ليتعلم فيها شيئا ما، أما الأمريكي فيريد من المدرسة أن تضمن التربية الكاملة لابنه، التربية العملية والعقلية والخلقية. لا للكتاب والحفظ في مراحل التعليم كلها.. وإنما أساس التربية والتعليم القدرة علي التجديد والابتكار والفهم». وطبعا طه حسين لم يترجمه للفرنسيين، ولكن للمصريين ويقول للمصري: «وأنا أرجو أن تقرأ هذا الكتاب، لتصل منه إلي الشعور بالعيوب الكبيرة التي تفسد التعليم في مصر، وأن تعلم القواعد الأساسية التي يتخذها المصلحون المحدثون لتغيير النظم التعليمية». ولا تنس أنه ترجم هذا لنا منذ تسعين سنة.. فتأمل! فخري كريم المثقف العراقي الكبير فخري كريم، أسس سنة 1994 - أي منذ ما يقرب من خمسة عشر عاما - دار المدي للثقافة والنشر والتوزيع، في العاصمة السورية دمشق. وخلال هذه السنوات رسخت الدار وأثبتت نجاحها وتأثيرها وقيامها بدور تنويري بارز. ليس فقط بالكتب التي تنشرها مؤلفة ومترجمة، ولكن بالحرص علي توزيعها في أرجاء الوطن العربي. وتحرص الدارالشابة أن يتضمن واجبها: تبادل الكتب بين مؤسسات النشر والثقافة في البلدان العربية. حفز الطباعة المشتركة وإعادة الطبع في أكثر من بلد عربي. تأسيس مراكز بيع مباشرة للكتاب في أكثر من مدينة عربية «مركز القاهرة - 13 شارع طلعت حرب». تنشيط حركة التعريف بالفن التشكيلي، وتسعي الدار إلي إقامة قاعة عرض دائمة في مركز المؤسسة، للفنانين التشكيليين، ذات برنامج منتظم يطبع ألبومات وملصقات فنية عالية المستوي، وتتيح للفنانين المغتربين إمكانية عرض أعمالهم في ثلاثة بلدان عربية كمرحلة أولي. وقد يكون مفيدا لكي تتعرف علي طابع هذا المشروع الثقافي، أن أنقل لك من قائمة إصدارات المؤسسة نماذج مما نشرته: من سلسلة الدراسات: المعجم العربي الجديد لهادي العلوي - نقد المسكوت عنه في خطاب المرأة والجسد والثقافي لأمينة غصن - نداء البذاءة لجاك لندن - إشكالية النهضة من التوابل للنفط لعدنان عويد - ما بعد الماركسية لفالح عبدالجبار - مستقبل الرأسمالية لثورو - ما بعد ذهنية التحريم لصادق العظم. سلسلة الأعمال الخالدة: من مؤلفات بوكاشيو وفرجينيا وولف وفولتير وفلوبير وجيمس جويس وبايرون وتوماس مان وثربانتس ولورانس. سلسلة نوبل: من أعمال أناتول فرانس وهيسه وجون بيرس وساراما جو وبيراندللو وشتاينبك ونيرودا وبرتراند راسل. سلسلة التراث: من مؤلفات ابن عربي والنفري وإخوان الصفا والحلاج والبسطامي. سلسلة الشعر: دواوين لمحمد الماغوط وسعدي يوسف ووالت ويتمان والبياتي وأدونيس وعبدالمنعم رمضان. سلسلة الروايات: روايات لماركيز وفؤاد التكرلي وهنري ميلر وجان جينيه وتنيسي ويليامز وعزيز نيسين وأورويل. وربما تكون لك ملاحظات وإضافات علي القائمة الكاملة إذا قرأتها، ولكن قد لا تنكر الجهد المبذول في نشر النور والثقافة والإبداع القادم من أركان الأرض. محسن شعلان هل يمكن القول أن لدينا نهضة في الفنون التشكيلية؟ وأنه يمكن التدليل علي هذا بأكثر من مظهر؟! يستحق هذا السؤال أن يتوفر لإجابته أي من نقاد الفن الموثوق في تقديرهم وأحكامهم. فمن الحق أن ما تعرضه الجاليريهات الخاصة أو التابعة للدولة علي مدار العام يوحي بإنجاز ملموس كما وكيفا ومن أجيال مختلفة من الفنانين. بل إننا لو استعرضنا ما قدمته هذه الجاليريهات خلال العام الماضي فقط، لهالنا حجم هذا الإبداع، وتفرد وروعة بعضه. وإن كانت أعمال الكبار في الأجيال السابقة التي كثيرا ما يتم تقديم كثير منها، لاتزال تشع بالسحر والتفرد والموهبة الساطعة. في الشهر الماضي فقط كانت هناك معارض لأحمد صبري وسمير رافع ونبيل درويش. وفي المؤتمر الصحفي الذي تحدث فيه محسن شعلان ومحمد طلعت الأسبوع الماضي، تمهيدا لافتتاح معرض جماعي بعنوان «لم لا»، أجاب محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية عن السؤال المطروح في بداية هذا الكلام، في معرض تقديمه وشرحه لفكرة المعرض والمشاركين فيه. فقد أشار إلي صحوة فنية لا يمكن إنكارها ومواهب جديدة تعلن عن نفسها في كل وقت.. وإبداعات الكبار لا تتوقف، ورعاية لا يمكن تجاهلها من جانب الدولة، واهتمام مؤثر من جانب وزير الثقافة. واستشهد ببينالي الإسكندرية، في دورته الأخيرة، منذ أسابيع، وكيف كانت متميزة بأكثر من مقياس، نفضت ترابا تراكم علي هذا الحدث الثقافي الذي كان يوما من ملامح الثغر، وحتي الهجوم الذي كاله للدورة فنانون ونقاد مسموعو الكلمة، هو علامة صحة، لأنه انصب علي الاهتمام بالجديد، الذي يثير الخلاف دائما. وركز الفنان شعلان علي صالون الشباب، وكيف أنه مختبر للواعدين، وأن محمد زيان الفائز الأول بجائزة الصالون الأخير، وأيمن لطفي الفائز في مهرجان دولي بالصين، إشارة إلي ما يمكن أن تتمخض عنه هذه الحيوية. وإذا كانت الحقيقة التي لا يمكن إنكارها - كما يقول - أن هذا الحصاد، لا يجد احتضانا وحفاوة وتذوقا من جانب الجمهور وقطاعات المجتمع الواسعة. وهذا الكلام قد يلقي ضوءا علي وضع الفنون، ولكن السؤال لايزال ينتظر إجابة تقيم وتقدر وتشير إلي ما يمكث في الأرض ويمتع الناس. والمعرض المشار إليه - لم لا - من آيات الانبعاث الذي نتحدث عنه، حيث يشارك فيه ثلاثة وأربعون فنانا من مختلف الأجيال والوسائط والأفكار، وصاحب الفكرة - وهو رئيس قطاع الفنون - يريد منها أن ينطلق الفنان المشارك من نقطة يهدف منها إلي تحقيق حلم يدور في داخله ويتمني تجسيده، حلم هاجع يهفو إلي التحقق، وبتعبير الفنان عادل السيوي «شاركت منذ فترة في ملتقي الفخار، في واحة الخارجة، حيث تعرفت علي مجموعة من فناني الخزف، ومشاركتي في هذا المعرض تمثل أول محاولة لي للتعامل مع الفخار كمصور». وهكذا لكل فنان قصته ورؤاه وحلمه. ولا يمكنك الحكم إلا إذا شاهدت المعرض في أبهاء قصر الفنون.