القاهرة ليه؟تعودت «القاهرة» أن تعيد في مفتتح كل عام جديد من أعوامها، نص البيان التأسيسي الذي نشرته في عددها الأول الذي صدر في 14 إبريل 2000.. ويتضمن الأهداف التي صدرت من أجلها والتقاليد المهنية التي التزمت بها.. ونحن نعيد نشره في بداية العقد الثاني من عمرها، لكي يحاسبنا القارئ علي أساسه.. ولكي نؤكد من جديد التزامنا به - وهذا هو نصه: نعلم أن كثيرين ما كادوا يسمعون بأن «القاهرة» في الطريق إليهم، حتي قالوا: جريدة جديدة.. لماذا؟ ونعلم أن الذين قالوا ذلك علي حق في دهشتهم، فأرصفة الشوارع علي امتداد خريطة الوطن والأمة، تزدحم بالصحف من كل لون وطعم، وهي صحف تتخصص في كل شيء، من السياسة إلي السيارات، ومن العلم والتكنولوجيا إلي فتح المندل وقراءة الطالع وضرب الرمل ووشوشة الودع، ومن الفكر والفلسفة إلي النصب والشعوذة! وربما لهذا السبب استغرق الإعداد لإصدار «القاهرة» شهورا طويلة حتي خيل لكثيرين أنها مجرد مشروع وهمي.. وبعد أن كانوا يتساءلون: «القاهرة» ليه؟.. أصبحوا يتساءلون: «القاهرة» ليه؟ وفين! وكنا طوال تلك الشهور نبحث عن إجابة للسؤال الأول: «القاهرة» ليه؟ سألنا وزير الثقافة «فاروق حسني» ماذا تريد بالضبط؟ قال: أريد مطبوعة يصدرها المثقفون ليقرأها الشعب.. لا مطبوعة يصدرها مثقفون فلا يقرأها إلا المثقفون... قلنا له: كيف؟ قال: هذه مهنتكم وأنتم أدري بها مني. وبدت لنا الفكرة غريبة: فقد تعود المثقفون أن يصدروا مجلات فصلية أو شهرية أو أسبوعية، يتبادلون كتابتها وقراءتها، وهي مجلات تستجيب لحاجة ملحة لدي قرائها من النخبة المثقفة، لعبت ولا تزال تلعب دورا مهما في حياتنا الثقافية والفكرية، بل والسياسية لكنها لم تعد تكفي وحدها لإشباع الحاجة الثقافية المتسعة لجماهير قراء الصحف في بداية الألفية الثالثة، وفي ظل ثورة الاتصالات التي حولت العالم كله إلي قرية ثقافية تكنولوجية واحدة تتبادل إنتاج واستهلاك الآداب والفنون والأفكار وأشكال التنظيم والقيم والمبادئ وأنماط السلوك، بل وتبادل كذلك الخطايا. وفضلا عن هذا النوع من المطبوعات الثقافية، يتوفر بعدد كاف بل ويزيد أحيانا عن الحاجة فإن سوق الصحافة تكاد تخلو من صحيفة واحدة، يصدرها المثقفون للشعب وليس لأنفسهم مع أن مشكلة النخبة المثقفة العربية كانت ولا تزال هي عجزها عن التواصل مع تلك الكتل العريضة من الناس، مع أنهم يتمنون ذلك، بل ويتوهمونه أحيانا! وإذا كانت إجابة «فاروق حسني» علي سؤال: «القاهرة ليه» قد حلت لنا مشكلة فقد خلقت أمامنا مشاكل إذ كان علينا أن نعد لإصدار مطبوعة لم يسبق لها مثيل نستوحي منها أو نضيف إليه، أو حتي نبني علي أنقاضها. وكان علينا لكي نحدد ل«القاهرة» شخصيتها الصحفية أن نقلب في مجلدات الصحف المصرية القديمة والمعاصرة وأن نستعرض عشرات الصحف العربية والعالمية، وأن نقرأها جميعا بعيون القارئ العام بعيون شاب أو شابة في العشرين، يهوي أحد فروع الثقافة كالسينما أو الغناء أو التليفزيون ويبحث عن مطبوعة يقرأ فيها عن هوايته فإذا وقع بين يديه عدد من «القاهرة» جذبته صفحة ما إلي بقية الصفحات وبقية الأعداد ثم إلي عالم الثقافة الرحيب!. وبعد مناقشات مطولة وتجارب عديدة، انتهينا إلي تحديد الشخصية الصحفية ل«القاهرة» علي النحو الذي تجده بين يديك في هذا العدد وفي الأعداد التالية فهي ليست جريدة للنخبة، أو للمتخصصين، ولكنها جريدة ثقافية عامة، تخاطب قارئ الصحيفة اليومية والأسبوعية بمختلف مستوياته. وهي تستخدم كل فنون الصحافة من الخبر إلي التقرير ومن التحقيق الإخباري إلي العمود القصير الكاريكاتير، وتجمع بين الصورة الفوتوغرافية والرسوم ولوحات التصوير الضوئي وتعتمد علي العنوان الجذاب والعرض الرشيق، ولا تنظر للرصانة باعتبارها نقيض الجاذبية، ولا إلي الفكر باعتباره نقيض الفرجة!. وهي تفهم الثقافة بمعناها الاجتماعي الشامل، ولا تقصر اهتمامها علي الأدب كالقصة والرواية والشعر والنقد بل تتسع لتشمل الاهتمام بالمسرح والسينما والموسيقي والغناء والفنون التشكيلية والإذاعة والتليفزيون والفضائيات والصحافة وشبكات تبادل المعلومات والتقاليد الاجتماعية والتعليم وتيارات الفكر السياسي والاجتماعي. وكان علينا بعد ذلك أن نحدد الرؤية التي تصدر «القاهرة» استنادا إليها والدور الذي تطمح للقيام به لكي تسد الحاجات الثقافية التي يطرحها الواقع السياسي والثقافي الذي يعيشه العالم والوطن والأمة فالصحف لا تصدر فقط لإعلام قرائها بما يجري، أو لمجرد تسليتهم، و لكنها تصدر كذلك لأنها لها رسالة تطمح لأن تؤديها، ودورا تنتدب نفسها للقيام به. ولم نتردد لحظة في تحديد موقفنا الفكري.. فنحن جريدة تحررية إلي أوسع مدي، ندعو لحرية الثقافة وندافع عن حريات الإبداع الأدبي والفني وحرية البحث العلمي، ونسعي لتغيير القوانين والأعراف التي تنتقص من هذه الحقوق التي كفلتها كل الدساتير المصرية للمواطنين، ونواجه بشجاعة التيارات التي تسعي لوضع أية قيود عليها، نحن منبر ديمقراطي لإدارة الحوار بين تيارات الأدب والفن والثقافة، وبين أجيال المثقفين العرب لأننا نؤمن بأن الثقافة العربية، ثقافة واحدة متعددة الروافد، ونحن ساحة لإدارة الحوار بين المثقفين المصريين والعرب وبين هؤلاء وأولئك وبين تيارات الفكر والثقافة في العالم كله فنحن نؤمن بالقيم العليا للفكر الإنساني ولا نري مبررا لأن تعزلنا عنه عقد نقص وتدفعنا للتقوقع علي أنفسنا، لأن ذلك يضر في اعتقادنا بمصالح الوطن والأمة التي لن تتقدم إلا بقدر تفاعلها مع ما يجري حولها بعقل مفتوح وثقة بالنفس وبقدرة علي الصمود والتحدي. ونحن جريدة تعترف بالجميع وتقر بحق الجميع في إبداء آرائهم وتسعي لتشجيع الجميع علي الاعتراف المتبادل بحق كل منهم في أن يكون له رأيه، ونسعي لتشجيعهم عبر الحوار للبحث عن مشتركات وطنية وقومية بين تيارات الفكر والثقافة ومدارس الإبداع في كل المجالات ونؤمن بأن الوحدة لا تتحقق إلا عن طريق التنوع ونقدس حق التمايز والاختلاف وشعارنا الثابت هو: دع مائة زهرة تتفتح ولو أدمتك أشواكها. ونحن ندرك أن محاولات محو الذاكرة الوطنية والقومية، تستهدف إفقاد الوطن هويته، وحرمان الأمة من مقومات تستطيع بها أن تحافظ علي كيانها لذلك نعتبر أن من واجبنا الدفاع عن الذاكرة القومية والوطنية، والسعي لإحياء روح الانتماء للوطن وللأمة لدي الجيل الشاب، بإعادة تخليق التاريخ القومي والوطني وعرضه بشكل يؤكد أن في الوطن تاريخا وحاضرا من موجبات الحب والفخر ما يستحق أن يدافع الإنسان عنه، ويستشهد في سبيله!. و«القاهرة» جريدة تنويرية، تهدف إلي تقليب تربة الثقافة الوطنية والقومية لشمس القرن الحادي والعشرين، وهي تعتز بالتراث الوطني والقومي والروحي للوطن وللأمة وتسعي لتخليصه من الشوائب التي علقت به في فترات التدهور والانحطاط وتقاوم التعصب والتزمت والجمود والإرهاب الفكري استنادا إلي القيم العقلانية والمستنيرة التي يعتز بها تراثنا الديني. وتسعي القاهرة فيما تسعي لتعريف قارئها بكل أشكال الخدمات والأنشطة الثقافية المتوفرة في المجتمع سواء كانت تقدمها وزارة الثقافة أو يقدمها غيرها من وزارات وهيئات الدولة أو هيئات المجتمع المدني، كما تسعي لإحياء العمل الجمعي بين النخبة المثقفة في مصر وتحفزها علي إنشاء منظماتها المستقلة، وتهتم اهتماما خاصا بالأقاليم المعزولة ثقافيا، لأنها تؤمن أن العزلة الثقافية هي التي تشيع التعصب والجمود والتخلف والإرهاب. ولعل هناك ضرورة لأن تؤكد «القاهرة» أنها تلتزم بالموقف الثابت للمثقفين المصريين.. برفض كل أشكال التطبيع الثقافي مع إسرائيل. حين عرضنا ذلك كله علي وزير الثقافة «فاروق حسني»، كانت دهشتنا بالغة، لأنه لم يعترض علي كلمة واحدة منه، بل تحمس له، وطلب إلينا أن نبدأ بتنفيذه فورا، ومع ذلك فقد ترددنا، كان علينا أن نتأكد من شيء أخير مهم. فالشكل التقليدي للصحيفة التي تصدر عن أي هيئة حكومية، يفرض عليها أن تنشر صورة المسئولظ عن الهيئة التي تصدر عنها بمناسبة وبدون مناسبة، وفي الصفحة الأولي والصفحة الأخيرة، وأن تجري معه أحاديث في الفاضية والمليانة، وأن تمدحه بالحق والباطل، وكان ذلك يقلقنا بعض الشيء، فنحن صحفيون ومثقفون ولسنا مندوبي إعلانات ونحن نعتز باستقلالنا ونصر ألا نفرط فيه، لذلك قلنا لفاروق حسني: ليس في نيتنا أن نجعل من «القاهرة» صورة من الصحف الرسمية، أو لسان حال لك أو لوزارة الثقافة، وما سوف ننشره يعبر عن آراء الذين يكتبونه، و«القاهرة» هي المسئولة وحدها عنه أمام الرأي العام وأمام القانون العام، وليس أنت، ونحن نحتفظ بحقنا في أن ننقدك وأن ننقد معاونيك، وكل ما نلتزم به تجاهك وتجاه الجميع، هو أن نحرص علي التقاليد والآداب المستقرة للمهنة التي نشرف بالانتساب إليها ونرفض الابتزاز والسوفية وتغليف الأغراض الخاصة بالأردية السياسية أو بادعاء الدفاع عن قضايا عامة، كما نلتزم بضرورة عرض كل وجهات النظر في القضايا المختلفة عليها، وصيانة تقاليد الحوار وآدابه، وقال فاروق حسني: هذه أمور بديهية لا حاجة لأن أؤكدها لكم، فأنا أعرف مع من أتعامل، أما وقد أجبنا علي سؤال: «القاهرة»؟.. فقد كان طبيعيا أن تجد يا عزيزي القارئ إجابة لسؤال «القاهرة فين».. وأن تجد أخيرا «القاهرة» بين يديك! والله من وراء القصد.