غاز الدموع «CS» فيه شيء قاتل كنت خلال سنوات تجنيدي بالقوات المسلحة المصرية، من 1970 إلي 1974، حكمداراً لفصيلة سطع كيما (إستطلاع كيماوي)، مهمتها تأمين قيادة إحدي فرق المجهود الحربي الرئيسية ضد (ضربات الغاز)؛ وكنا نعلم أن لدي العدو الإسرائيلي مخزوناً ضخماً من الغازات الحربية (غازات أعصاب، ودم، وكاوية، ومهلوسة)، وأنه مستعد لاستخدامها في أي وقت، إن تأزم موقفه. وكنا ندرب جنود الفرقة علي التأهب لهذه الضربات، بالاتفاق علي صوت (رتَّالة) حاد جداً، ما إن يسمعوه - أينما كانوا - حتي يسارعوا بارتداء الأقنعة الواقية؛ وكان كل همنا هو تقليل زمن الاستجابة إلي أدني حد ممكن. وقد فوجئتُ بذاكرتي المدهشة تستقدم صوت (الرتالة)، يتردد في أذنىَّ، وأنا أتابع - أمام شاشة التليفزيون في بيتي بالإسكندرية - ضربة الغاز التي وجهها أفرادٌ من قوات الأمن المصرية، بكثافة غير مبررة، إلي (أبناء جلدتهم) من شباب ثورة 25 يناير. وقد نالت هذه (الحرب الكيماوية)، التي شهد ميدانُ التحرير في قلب القاهرة وقائعها، من مئات من هؤلاء الشباب، تأذوا بالغازات بدرجات متفاوتة، فحرّقت أجفان عيونهم، وأهاجت مسالك الهواء في صدورهم. ولم تكن هناك (رتالة) تحذرهم، ولا أقنعة واقية تحميهم. ولكني أطلق (رتالتي) الآن، وأخاطب ضمير المجتمع الدولي بأن يسعي لإضافة غازات الدموع وشبيهاتها إلي قائمة الأسلحة الكيماوية والبيولوجية التي تحظرها معاهدة جنيف؛ وأدعو جمعيات حقوق الإنسان إلي مطاردة مستخدمي هذه الغازات داخل المدن، وملاحقتهم في الساحات العدلية، واستهجان هذا الأسلوب المتوحش في مواجهة آدميين عزل، تعاملهم قوات الأمن كالحشرات. فكيف تدعي دول أنها تكفل حريات الأفراد وحقوقهم الأصيلة، وبينها حق الاعتراض والتظاهر، ثم تغتال آدميتهم وتواجههم بهذه الدرجة من البطش ؟. وليس في تاريخ البشرية حقبة خلت من جماعات أو أفراد لهم أسبابُهم في الخروج علي النظام العام، وتتعدد صفاتُهم بحسب رُقي أو دناءة الغرض من العصيان والتمرد، وفقاً لرؤية القائمين علي الإدارات الأمنية، الذين لا يهتمون بغير تطبيق القانون ليستتبَ الأمنُ العام؛ ولهم سُبُلُهم في تنفيذ هذه المهمة، وأدوات اعتادوا أن يستخدموها، يفترض فيها توفُّرُ حدٍّ أدني من الأداء العنيف، الذي ينتهي باستسلام وخضوع المتمرد العاصي، ليسهل قيادُه إلي محبسه، إن كان مقترفاً جُرْماً، أو لينصرفَ لحال سبيله، إن كان متجمهراً أو متظاهرا. ومن تلك الأدوات، الغازات المهيجة للأغشية المخاطية والمسيلة للدموع، التي استخدمتها قوات مواجهة أعمال الشغب وتفريق المظاهرات داخل المدن، في دول كثيرة، علي مدي ما يقرب من نصف قرن؛ إلا أنها كانت معروفة قبل الحرب العالمية الأولي، واستخدمت فيها، قبل استخدام الغازات الحربية المعروفة، مثل الكلور والفوسيجين والخردل. وكانت الولاياتالمتحدةالأمريكية قد عملت جاهدة علي استبعاد الغازات المسيلة للدموع من اتفاقية جنيف لعام 1925، التي تحظر استخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، ونجحت في ذلك، كأنها كانت تتحسب، وتمهد لما اقترفته من آثام بحق الشعب الفيتنامي، إذ استخدمت هذه الغازات علي نطاق واسع في مطاردة عناصر المقاومة الفيتنامية في الأنفاق الأرضية التي كانوا يلجأون إليها بعد توجيه ضرباتهم للقوات الأمريكية؛ كما استخدم الأمريكيون مبيد الأعشاب سيئ السمعة، المعروف باسم (العامل البرتقالي)، في تدمير مساحات شاسعة من الغابات والزراعات الفيتنامية. ويبدو أن بشاعة التاريخ الأمريكي في هذا المجال كانت الدافع وراء أن يقتصر استخدامُ الجيش الأمريكي لهذه الغازات علي عمليات محددة، يصدر بشأنها أمر رئاسي. غاز ال "سي إس" وغاز الدموع (CS) هو الأشهر والأوسع استخداما بين مجموعة من الغازات المهيجة للعين والجلد والأغشية المخاطية في الجهاز التنفسي، يشار إليها بحروف مختصرة، مثل (CN) و(CNC) و(CA) و(CR) و(CNB) و(PS)أما ال (سي إس)، فهو مركب كيميائي، إسمه (أورثو-كلوروبنزايليدين مالونونيترايل)، وكان أول من خلَّقَه بالمختبر إثنان من الكيميائيين الأمريكيين، هما قورصون (Corson) وستوطون (Stoughton)، وقد أخذ اسمه المختصر من أول حرفين في إسميهما؛ وهو عبارة عن مادة صلبة متبللرة، ذات ضغط بخاري منخفض، شحيحة الذوبان في الماء، ولها رائحة طحين الفلفل الحار النفاذة، التي تسبب أعراض التهيج. والحقيقة هي أن مادة الكلوروأسيتوفينون، او ال (CN)، كانت قد سبقت السي إس كمهيج غازي للجهاز التنفسي، حتي أزاحتها الأخيرة، التي تفوقها تأثيراً بمقدار عشرة أضعاف، كما أنها أقل سمية منها؛ واختفت ال (سي إن) تقريباً في بداية ستينيات القرن العشرين، وخلت ساحات المعارك الحربية، وميادين وشوارع الشغب والمظاهرات الجماهيرية، لل (سي إس)؛ أما ال (سي إن)، فيجري تداولها بدون قيود في صورة عبوات رذاذ للدفاع عن الذات. وقد شهد العام 1962 تخليق مركب جديد، هو (داي بنز-1-4-أوكسازيباين) المعروف بالحرفين (سي آر)، واستخدامه كغاز مسيل للدموع، وهو أكثر فعالية من السي إس، وأقل سمية، إذ لا يلحق ضرراً شديدا بالجهاز التنفسي، وذلك لانخفاض خاصية تطايره. أما المركب الذي شاع باسم رذاذ الفلفل، واسمه المختصر هو (OC) فمتوفر في السوق كمحلول بتركيز 1%، أما تركيز 10% منه، فيعمل علي زيادة إفراز أحد المركبات المكونة من بعض الأحماض الأمينية، في الجهاز العصبي، مسببا آلاماً والتهابات. ولم يستقر العلماء حتي الآن علي تصور للكيفية التي ىُلحقُ بها غاز سي إس الأذي بمن يتعرض له، وإن كان ىُظن أنه يعمل علي تعطيل بعض الإنزيمات المهمة في الجسم. وقد ظهرت مؤخراً نتائجُ أبحاثٍ تقولُ بأن هذه الغازات تُنشِّطُ بدرجة كبيرة مستقبلات الإحساس بالضغوط العصبية. ويشبِّهُ بعضُ الخبراء حالَ من يحيط به هذا الغاز كأنه في (حمَّام مغربي) من دقائق مجهرية من مادة السي إس، معلقة في الهواء (أيروسول)، تشتبك بالأغشية المخاطية الرطبة والجلد المبلل. والعين هي أكثر أعضاء الجسم حساسية للسي إس، إذ يصيبها بالإدماع، ويلهب جفنيها، ويسبب مشاكل في الإبصار. ويصاب من يدخل هذا الحمام الخانق بالسعال، والصداع الحاد، والدوار، وضيق التنفس، مع زيادة في إفراز اللعاب والإفرازات المخاطية. وتبدأ هذه الأعراضُ في الظهور في مدي 5 إلي 60 ثانية؛ فإن كان التعرض للغاز قد وقع في الهواء الطلق، زالت الأعراض - في معظمها - في مدي 10 إلي 30 دقيقة من الإصابة، مع تخليص المصاب من ملابسه التي لوثها الغاز. فإن بقي المصابُ في المنطقة الملوثة بالسي إس لزمن أطول، اشتدت حدة التهيج. وقد ثبت من التجارب أن الضرر البين يحدث للأفراد العاديين عند التعرض لتركيزات من السي إس تتراوح بين 3 إلي 5 ملليجرام في المتر المكعب من الهواء، قبل أن يسارعوا بمغادرة المنطقة المضروبة بالغاز. ويرد نفرٌ من علماء الكيمياء الحيوية تأثير السي إس إلي تسببه في إطلاق مركبات تسمي (براديكينينات) في أنسجة الجسم المعرضة له، فينتج عن ذلك الشعور بالألم، وتورمُ هذه الأنسجة (ارتشاح خلوي)، مع تسرب سوائل عبر جدران الأوعية الدموية الصغيرة. وقد لوحظ أن المعتادين علي تعاطي الكحوليات والعقاقير المخدرة لا يتأثرون بالسي إس، لقدرتهم علي عدم الإحساس بالألم !. كما أثبتت التجارب إمكانية أن يكتسب أفرادٌ عاديون قدرة أعلي علي تحمل السي إس، فقد تم تعريض عدد من المتطوعين لتركيزات بدأت ب 0.43 ملليجرام في المتر المكعب، ثم تزايدت ببطء، وعلي مدي ساعة، إلي 2 ملليجرام/متر مكعب. وقد تمكن المتطوعون، الذين نجحوا في تحمل التأثيرات الابتدائية، من الصمود في مواجهة التركيزات الأعلي، وكان بعضهم يتسلي بلعب الورق أثناء إجراء التجربة، وحاول اثنان منهم ممارسة القراءة !. الغاز يسبب الوفاة وقد يتصاعد تأثير التعرض للغازات المسيلة للدموع إلي (الوفاة)؛ وثمة خمس حالات وفاة مسجلة نتيجة للتعرض لغاز سي إن، ترتبت علي مضاعفات لحقت بالرئتين، ونتيجة للاختناق(حدثت حالات وفاة نتيجة التعرض لغازات في أحداث نوفمبر 2011 بميدان التحرير بالقاهرة، بينها حالة لطبيبة أصيبت بالاختناق اثناء قيامها بالعمل علي إنقاذ المصابين في المستشفي الميداني)؛ كما أن ثمة حالة لطفل رضيع، أشرف علي الموت عندما تعرض عن طريق الخطأ لرذاذ الفلفل (OC)، فأصيب بتوقف التنفس، وتم إسعافه بإجراءات عاجلة مكثفة. علي أي حال، وبالرغم من عدم خضوع هذه الغازات لمعاهدة جنيف، واتساع نطاق القبول بها كأداة أمنية، فليس ثمة اتفاق علي وسائل إطلاقها، كما تختلف الجهات الأمنية فيما بينها حول كيفية تقدير تركيزات المادة الكيماوية الفعالة، فيستخدم البعض معادلات وصيغاً حسابية، بينما يعتمد البعض الآخر علي التقدير التقريبي، الذي يأخذ في اعتباره الملابسات العامة للواقعة التي يجري التعامل معها. وتعود تلك الجهات الأمنية التي تقوم بتنفيذ (ضربات الغاز) لتختلف حول أسلوب توجيه الضربة، فيتبع بعضها أسلوب (أطلق بقسوة وكثافة)، وفيه يتم إطلاق الغاز بسرعة، وبتركيز يكفي لتلويث موقع لاعتصام أو تجمع، لضمان إلحاق حالة من الارتباك والعجز بالمتجمهرين. ويوفر هذا الأسلوب لعناصر الأمن ميزة الحد من قدرة العنصر المتمرد علي استرداد حالته الطبيعية أو الإتيان بأي تصرف أو اتخاذ أي موقف دفاعي، كما يتميز هذا الأسلوب بعدم الحاجة للعودة إلي مزيد من عمليات الإطلاق. وعيب هذا الأسلوب هو تلويث الملكيات الخاصة بالغاز الكثيف، وقد يدخل في نطاق تأثيره أفراد غير مقصودين؛ وهذه أمور قد تجرُّ إلي مساءلات قضائية. أما الأسلوب الثاني في توجيه ضربات الغاز، فهو (الضرب المفرط)، حيث تطلق مقذوفات الغاز بلا حساب، وطول الوقت، بلا توقف، علي نحو ما رأينا في (موقعة محمد محمود)، في نوفمبر 2011، فلا يكون ثمة مفر أمام من يتعرض للغاز إلا أن يستسلم، قبل أن يجد نفسه غارقا في مستويات أعلي من ال (سي إس).