«صنع الله إبراهيم».. اسم يعبر عن الثورة في كل شيء في الحياة وفي القلم في الفكر والتناول، «صنع الله» من الروائيين الكبار بشهادة النقاد والباحثين العرب، ولد في القاهرة عام 1937 درس القانون وعمل بالصحافة ثم درس فن الإخراج السينمائي، قام بترجمة عدة روايات منها «العدو» لجيمس دروت و«حمار بوريدان» للألماني جونتر دي برون، كذلك ترجم مجموعة من النصوص لكاتبات غربيات صدرت بعنوان «التجربة الأنثوية» عام 1994، أهم رواياته التي تميزت عن غيرها من الأدب المصري بل والعربي هي «اللجنة» 1981 والتي تعرضت لموضوع الشركات العالمية العابرة للقارات لأول مرة في الأدب العربي «بيروت بيروت» 1984، والتي تناولت الحرب الأهلية اللبنانية، «ذات» 1992، و«شرف» 1997 اللتان تناولتا واقع الأسرة المصرية بعد الانفتاح، ثم «وردة» 2000 وتدور أحداثها حول تجربة جبهة تحرير ظفار في عمان، وفي نفس العام تصدر له رواية «أمريكانلي» والتي يمكن قراءتها «أمري كان لي» وتسجل تجربة أستاذ تاريخ مصري في جامعة أمريكية وتعرض لتاريخ البلدين. صنع الله إبراهيم أحد القلائل الذين يعكس مشروعهم الروائي توثيقا للحياة المصرية، حيث يعتمد في كثير من رواياته علي التوثيق بداية من رواية «ذات» التي استخدم فيها قصاصات الصحف وانتهاء برواية «القانون الفرنسي» التي استخدم فيها العديد من المراجع التاريخية لتوثيق فترة الحملة الفرنسية علي مصر. ومنذ وقت قصير تخيرت السيناريست مريم نعوم رواية «ذات» لكتابة سيناريو وحوار عنها في مسلسل جديد بنفس العنوان تقوم بإخراجه كاملة أبوذكري، وفي السطور المقبلة نستعرض رواية «ذات» ربما استطعنا أن نقدم بعض الإجابات عن عشرات علامات الاستفهام التي طرحتها الرواية. اعتزال المجتمع في هذا الوقت كنت أبحث عن الشكل الذي يساعدني علي التعبير ووجدته في الصحف، فمنذ أيام المراهقة كنت أهوي تقطيع صور الجرائد وكان يحدث أنه في خلف هذه الصور توجد موضوعات سياسية ومع تطور وعيي بدأت أهتم بالموضوعات السياسية وشعرت أنه من الممكن عمل خريطة فنية من موضوعات الجرائد بحيث تعبر عن الواقع الموجود، وجاء هذا في رواية «ذات» وكانت فكرتها في البداية أننا ليس لدينا بطلات في الأدب، وفكرت أنه ممكن أن يكون هناك امرأة تقود منظمة وتعمل مداخلة في التليفزيون بحيث يمكن للرئيس أن يتحدث فتقول له أنت كاذب مثلا، لكنني لم أستطع أن أعمل هذا، هكذا تحدث صنع الله عن روايته «ذات». الرواية صدرت عام 1992 وهي تصور حياة امرأة مصرية من الطبقة الوسطي خلال حكم الرؤساء الثلاثة ناصر والسادات ومبارك، وما رافقها من تدهور للظروف المعيشية وانحلال في الأخلاق العامة وصعود للتعصب الديني، وفي هذه الرواية كما في أعماله الروائية الأخري لجأ صنع الله إبراهيم إلي "التناص"، وذلك بأن وضع قصاصات من صحف ونصوص علمية وحولها إلي "كولاجات" تكمل القصة من ناحية وتسخر منها من ناحية أخري، وبذلك يواجه القارئ بالأوضاع العبثية، وبالتيارات والنقاشات الفكرية المعاصرة، ويدعو إلي مستوي رفيع من التأهل وإلي محاورتها واتخاذ موقف منها.. وهذا إن دل علي شيء إنما يدل علي تفرد صنع الله بهذا النوع من السرد الروائي، لقد حمل إلينا صنع الله طريقة جديدة في السرد والكتابة عبر رواياته وخاصة «ذات» دون الخوف من التجريب. نحن أمام كاتب لم يغير مهنته الشخصية المركزية فحسب، بل جنسها وحلت محلها الرجل الصحفي المحترف الذي أهدانا اسم امرأة عادية تسمي باسم غريب «ذات» هي أولا زوجة وأم وربة بيت وإن كانت تعمل في أرشيف جريدة ما، حيث تقضي هي وزميلاتها معظم أوقات العمل في الأحاديث والثرثرة. يشير اسم البطلة ذو الدلالة إلي أن صنع الله إبراهيم لم يقصد بها شخصية فردية وإنما قصد شخصية نموذجية. يحكي الكاتب سيرة بطلته ويتحدث عن طفولتها وصباها وزواجها وأسرتها وحياتها اليومية حتي عن أحلامها الليلية.. فنجده في بداية الرواية يكتب قائلا: «نستطيع أن نبدأ قصة «ذات» من البداية الطبيعية، أي من اللحظة التي انزلقت فيها إلي عالمنا ملوثة بالدماء، وما تلي ذلك من أول صدمة تعرضت لها، عندما رفعت في الهواء وقلبت رأسا علي عقب، ثم صفعت علي أليتها» ص9 من الرواية. خلف الوسادة وفي موضع آخر في الرواية نجد صنع الله ينقلنا إلي المكان بكل تفاصيله فيقول: «كانا يجلسان ذات وزوج المستقبل أمام الجهاز بالساعات، تحت عيني الأم الساهرة، واهتمامها موزع بين تمثيل عبدالغني قمر في المسلسل، والمحافظة علي الوسائد في أماكنها.. فبوضع واحدة صغيرة فوق الركبتين صار بوسع «ذات» أن تسترخي في جلستها كما تشاء، دون أن تكشف ما لم يحن الوقت بعد لكشفه، وأمكن للأم أن تتفرغ لمتابعة أحداث المسلسل، مكتفية بنظرة جانبية بين الحين والآخر تطمئن بها علي ثبات الوسادة في موضوعها إلي فخذي العريس المرتقب والوسادة المماثلة التي استقرت فوق حجرة، إذ تحار في معرفة الغرض منها طالما أن عبدالمجيد يملك ساترا طبيعيا في بنطلون بذلته الأنيقة» ص1 من الرواية. بهذه التفاصيل نعرف أن صنع الله يستخدم نوع «الرحلة» بمثابة الخيط الذي تنتظم فيه سلسلة مشاهد تتألف منها الصورة العامة للمجتمع المصري الحديث. يتتبع قارئ «ذات» خطي بطلة الرواية في زيارتها للمحلات التجارية والمدرستين العربية والإنجليزية والمستشفي وقسم الشرطة ومكتب الصحة وميناء الإسكندرية ومدينة زفتي.. إلخ. ينظر القارئ إلي ما يجري في هذه الأماكن بعين البطلة. التغذية لموضوع "التغذية" مثلا مكان الصدارة في الرواية، فالنص يحتوي علي أخبار كثيرة تخص استيراد أغذية من الخارج وإنتاجها المحلي والأغذية الملوث وحالات التسمم فتقرأ في الصفحة رقم 107 من الرواية وثائق صحفية استخدمها صنع الله في صيغة «الكولاج» وهي: «تسمم 28 مواطنا أثناء تناولهم وجبة غذاء» وفي نفس الصفحة نجد خبرا آخر هو «مهندس بشركة ميفلاند: الشركة حصلت علي موافقة وزارة الصحة ومعهد صحة الحيوان التابع لوزارة الزراعة علي تصنيع لحوم مجمدة انتهت مدة صلاحيتها ثم طرحت للبيع بمدة صلاحية جديدة». استخدم صنع الله في نصه الروائي الخبر الصحفي والوثيقة والإعلان والتحليل الخبري والبحث والدراسة العلمية واليوميات والمذكرات الشخصية وغيرها من المعطيات الأخري التي خلفت بحق نصا كولاجيا يقترب كثيرا من اللوحة الكولاجية المعاصرة التي تحاول أن تحتمي خلف أكبر قدر ممكن من المعلومات والأفكار ووجهات النظر المتعددة، ولا يزال صنع الله متربعا علي عرش النص الكولاجي دون منازع وهذه سابقة لم يألفها الأدب العربي من قبل، وقد أصر صنع الله إبراهيم علي مواصلة هذا المشروع في الجزء الأكبر من نتاجاته الأدبية.. ولكي نكون منصفين أمام القارئ لابد وأن نقول إن صنع الله لم يكن يريد تأكيد صحة هذه الأخبار والوقائع المأخوذة من الصحف أو تفنيدها، وإنما أراد فقط أن يعكس الجو الإعلامي الذي كان سائدا وقت نشر هذه الأخبار، كما أراد أن يحيط القارئ علما بمصائر شخصياته والظروف والملابسات التي أثرت فيهم. الجو الإعلامي ولكننا لو قرأنا روايات صنع الله إبراهيم بشكل متعمق لاكتشفنا أنه يذهب أبعد من ذلك بكثير حتي ليغدو الجو الإعلامي الذي يتحدث عنه شيئا ثانويا قياسا بمجمل أحداث التاريخ المصري الذي يعكسه الكاتب.. ومن خلال هذه الأطروحات يتجلي البعد الفكري لصنع الله إبراهيم الذي ينتصر دائما للفقراء والمسحوقين في كل مكان.. ففي رواية «ذات» يعري الكاتب الطبقة الحاكمة في مصر، ويكشف عن تورطها في عمليات سلب ثروات الشعب المصري سواء عن طريق المسئولين الكبار أو عن طريق المؤسسات التي تلاعبت بمصائر الناس البسطاء. ويكفينا أن ندلل علي ذلك بتوظيف الكاتب القصاصات الصحفية في روايته ليستعيض عن مشكلة الواقع بفتح عالمه الروائي علي واقع حقيقي تميز بالمقامرة والخداع، بحثا منه عن طريقة جديدة لإبراز موقفه من الواقع العربي وشوقا إلي إقامة علاقة طريفة بين الجنس الروائي الناهض علي التخييل والواقع المعيش. ولتلك الظاهرة صلة واضحة بتقنية الإلصاق أو الكولاج «Collge» التي وظفها الفنانون التكعيبيون في الرسم والنحت وعمقتها الحركة الدادائية التي اعتبرت حركة مضادة للفن Anti-Art فقد توصل كل من بيكاسو وبراك بالكولاج لإلصاق أوراق ملونة وشرائط من القماش وقطع معدنية وغيرها من المواد المتنافرة إلي إنشاء لوحات زيتية ونحوت مخصوصة تبرز الوحدة القوية بين الجانب الفني والجانب الواقعي.. وهو ما فعله صنع الله في «ذات»!