سيظل عام 2011 الميلادي من الأعوام التي لن ينساها التاريخ المصري مابقيت الحياة علي الأرض، حيث شهد أول ثورة شعبية سلمية في التاريخ الإنساني، بكل المقاييس جاءت علي غير مثال، وان شابها بعض العثرات والمعوقات أو السلوكيات السلبية والانحرافات أو فقدت لبعض الوقت جادة الصواب ...مهما يكن من أمر تبقي ثورة 25 يناير رمزا لإرادة الشعب الذي أراد الحياة واستجاب له القدر رغم دماء الشهداء ومكايد الأعداء ومؤامرات الخبثاء.. لكن يبدو كذلك أن هذا العام أيضا كما سعدنا بأحداثه العظيمة، هو نفسه العام الذي شهد رحيل كوكبة من ألمع نجوم الفن عندنا وأسماء لامعة وشخصيات كان لها توهجها وحضورها في الوسط الفني المصري.. قدم كل منهم عصارة جهده وزهرة عمره في الصبا والشباب والشيخوخة، ولم يتراخ أي منهم أو يقصر في بذل النفيس والغالي للفن الذي عشقه ودفع حياته ثمنا لرفعة شأنه والوصول به لمقام عال ورفيع لا في مصر وحدها، بل في الساحة العربية الممتدة من سواحل الأطلنطي حتي شواطيء الخليج العربي، حتي بات الفن المصري هو صاحب القدح المعلي ومالك اليد الطولي علي المستوي العربي، كما كان لهم الفضل في انتشار اللهجة المصرية والتعريف بمصر وتاريخها وتراثها الحضاري، ومساهماتهم في تأسيس مدارس ومعاهد وأنشطة فنية يفخربها كل إنسان عربي شريف غير جاحد أو حقود أو ناكر للجميل، واعترافا بفضلهم وريادتهم لفنون السينما والمسرح والتليفزيون والإذاعة في الكثير من بقاع دولنا العربية، لتنعم هذه الدول بالعديد من الأنشطة الفنية وتعرف معني الفنون. في شهر يناير الماضي فقد الوسط الفني في مصرالفنان القدير "محمد الدفراوي"، ورحل عن عالمنا في مارس فنان الديكور والمناظر المتميز "صلاح مرعي"، وفي مايو فقدنا الفنانة القديرة "نادية عزت"، وبعد ثلاثة شهور رحل عن دنيانا العملاق "كمال الشناوي"، وأول من أمس فقدنا الفنان الشاعر والكاتب المسرحي الدكتور "يسري خميس" صاحب شخصيتي: بوجي وطمطم.. وبالأمس فقط كان رحيل الفنان القدير "عمر الحريري"، الذي تميز بالبعد عن تقديم تفاهات الفن الهابط والمسييء، والبريء من المشاهد الساخنة والجنس الرخيص، والمشهود له بدماثة الخلق والتواضع الجم، فلم يكن يوما ما طرفا في معركة مع زميل أو صاحب خلاف مع مخرج أو متورطا في فضيحة من أي نوع.. عمر الحريري الفنان النقي المعطاء الذي لم ينتظر يوما ما كلمة مدح أو ثناء، لقد أعطي بلا حدود وعمل بكل طاقته ليس للفن في مصر وحدها، بل أمتد عطاؤه خارج مصر، فهو صاحب فضل كبير وجهد وافر في إنشاء "المسرح الوطني" في بنغازي بليبيا وأحد معلميه الكبار طوال مايقرب من عقد من الزمان، مثلما سبقه من قبل "زكي طليمات" في الكويت. جيل العظماء عمر الحريري زميل دفعة الفنان الكبير "شكري سرحان" حيث تخرجا عام 1947 في المعهد العالي للتمثيل العربي، وابن جيل العظماء: كمال الشناوي وصلاح ذوالفقار وأحمد مظهر وغيرهم، وصاحب رحلة عطاء فني امتدت لستين عاما، منذ أن وقف أمام كاميرات السينما في فيلم "الأفوكاتو مديحة" عام 1950 إخراج وبطولة العملاق "يوسف وهبي" والفنانة القديرة "مديحة يسري" وحتي مسرحية الأطفال "حديقة الأذكياء" قبل عدة أيام من رحيله في هذا العام 2011 أي حتي الرمق الأخير من حياته ... عطاء وحضور تميز به الحريري في: الإذاعة والسينما والمسرح والتليفزيون، ليترك لنا ميراثا من الأعمال الفنية التي شكل الكثير منها علامات بارزة في مشوار الفن المصري منذ منتصف القرن الماضي وحتي الآن. قدم "عمر الحريري" للسينما العديد من الأفلام التي يتجاوز عددها المائة وخمسين فيلما، وعمل مع أشهر مخرجي السينما المصرية، ولعل أبرزهم وفق الترتيب الزمني : المخرج "صلاح أبو سيف" في فيلمي "الوسادة الخالية" عام 1957 وفيلم "هذا هو الحب" عام 1958 . ومع المخرج "عز الدين ذو الفقار" فيلم "نهر الحب" عام 1960 . وقدم مع "السيد بدير" عام 1962 فيلم "غصن الزيتون" . وفي عام 1963 قدم مع العملاق "يوسف شاهين" الفيلم الأسطورة «الناصر صلاح الدين» . ومع المخرج "حسن الإمام" قدم فيلم "وبالوالدين احسانا" عام 1976، وعمل في نفس العام فيلم "دائرة الانتقام" مع المخرج "سمير سيف"، الذي قدم معه أيضا فيلم "معالي الوزير" عام 2002 وقدم الحريري مع المخرج "حلمي رفلة" فيلم "سنة أولي حب" عام 1976، وجاء تعاونه مع المخرج "هنري بركات" عام 1979 في فيلم "الشك ياحبيبي" . وفي عام 1981 قدم فيلم "أهل القمة" مع المخرج "علي بدرخان" ...وهذا وأن دل علي شيء فإنما يدل علي قناعة هؤلاء المخرجين الكبار بموهبة هذا الفنان الكبير "عمر الحريري"، الي جانب عشرات الأفلام التي قدمها مع العديد من المخرجين في تنوع للأدوار وأداء يدل علي موهبة هذا الرجل، علي الرغم من أنه لم يقم طوال مشواره السينمائي ببطولة مطلقة، سوي مرة واحدة. في مجال الدراما التليفزيونية قدم "عمر الحريري" عشرات الأعمال وعمل مع كبار مخرجي التليفزيون أمثال: "مجدي أبو عميرة" في مسلسل "الإمام الطبري" عام 1977، ومع المخرج "محمد فاضل" عام 1978 في مسلسل "أحلام الفتي الطائر"، وقدم فوازير رمضان من خلال "ألف ليلة وليلة" مع المخرج "فهمي عبد الحميد" عام 1986 . وفي عام 1995 قدم مسلسل "ساكن قصادي" إخراج "ابراهيم الشقنقيري"، وفي نفس العام قدم مع المخرج "إسماعيل عبد الحافظ" مسلسل "خالتي صفية والدير". وفي العام التالي 1996 مع المخرج "مجدي أبو عميرة" قدم "السيرة الهلالية"، وفي عام 2006 مع المخرج "وفيق وجدي" قدم الحريري مسلسل "الإمام المراغي"، وفي العام الماضي قدم مع المخرج "حسني صالح" مسلسل "شيخ العرب همام" الذي أذيع في رمضان قبل الماضي، ومن مفارقات القدر أن "عمر الحريري" جاء ليؤدي دوره في هذا المسلسل بعد رحيل الفنان "عبد الله فرغلي" بعد أن بدأ تصويره لهذا الدور ولم يمهله القدر لاتمامه فقام به الحريري.. هذا العطاء المتميز للتليفزيون إلي جانب ماقدمه "عمر الحريري" في العديد من المسلسلات التي تشكل أحد أركان الدراما التليفزيونية المتميزة في مصر، والتي كان أخرها في هذا العام مسلسل "سمارة" إخراج "محمد النقلي" خلال شهر رمضان الماضي. اللعب مع الكبار قدم "عمر الحريري" للسينما العديد من الأفلام التي يتجاوز عددها المائة وخمسين فيلما، وعمل مع أشهر مخرجي السينما المصرية.. إنه فنان مسرحي قدير تنوعت أدواره وتميز أداؤه وقدم أدوارا ستظل تؤكد موهبته وحضوره وتوهجه علي خشبة المسرح المصري العريق. لقد قدم "عمر الحريري" للمسرح وبشكل خاص في العقود الأخيرة العديد من المسرحيات التي كتب لها أن تسجل وتنقل تليفزيونيا لكل بيت في مصر والوطن العربي، والتي ستظل من علامات المسرح المصري في مجال الكوميديا بشكل خاص.. قدم الحريري مسرحياته الأخيرة مع كبار نجوم الكوميديا عندنا، نذكر منها: "شاهد ماشفش حاجة" مع فرقة الفنانين المتحدين عام 1978 أمام النجم "عادل إمام"، ومسرحية "منور ياباشا" مع النجم "محمد نجم" عام 1983، ثم عودة مرة أخري مع الفنان "عادل إمام" في مسرحية "الواد سيد الشغال" عام 1993 .. هذه المسرحيات التي يعيد التليفزيون عرضها بين الحين والآخر والتي تعد من كنوز الكوميديا المصرية دائمة الحيوية والغنية بعناصر الجذب الجماهيري. هذا هو "عمر الحريري" الفنان المصري الأصيل الذي قدم الكثير والكثير للفن في مصر طوال مايزيد علي النصف قرن من الزمان.. قدم خلالها كامل طاقته وكل عمره من منطلق حبه لبلده مصر ولشعبها الطيب الذي لن ينسي فضل هذا الفنان مابقيت الحياة علي أرض مصر.. رحم الله "عمر الحريري" وأبقاه نموذجا لعطاء بلا حدود دون انتظار لكلمة شكر أو شهادة تقدير.