سعر الدولار اليوم يقفز عالميًا بعد الهجوم الإيراني الجديد (قائمة أسعاره الجديدة)    أسعار الخضروات والأسماك والدواجن اليوم 16 يونيو بسوق العبور للجملة    بعد عمله اليومى.. محافظ قنا يتجول بدراجة فى شوارع المحافظة    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الاثنين 16-6-2025.. هبوط كبير تجاوز 900 جنيه    رئيس جهاز حماية المستهلك يلتقي وزير الطيران المدني لبحث سُبل التعاون بين الجانبين    إعلام عبري: مقتل 4 إسرائيليين جراء إصابة مباشرة بصاروخ إيراني في بيتح تكفا    وصول بعثة الأهلى لفندق الإقامة فى نيوجيرسى.. صور    ليس تريزيجيه.. ميدو يحمل هذا اللاعب مسؤولية إهدار ركلة جزاء الأهلي ضد إنتر ميامي    وزير الثقافة يشهد العرض المسرحي «كارمن» بمسرح الطليعة ويشيد بصناعه | بالصور    منتخب السعودية يستهل مشواره في الكأس الذهبية بالفوز على هاييتي بهدف    ميدو يتحدث عن أمنيته ل الأهلي في كأس العالم.. ويوجه رسالة بشأن زيزو (فيديو)    مدرب بالميراس: مباراة بورتو ستساعدنا على التحضير لمواجهة الأهلي    قوات الحرس الثورى الإيرانى تُسقط 3 طائرات إسرائيلية فى زنجان وسنندج    ترامب: بوتين مستعد للوساطة.. واتفقنا على إنهاء التصعيد في الشرق الأوسط    الضربة الاستباقية الإسرائيلية ضد إيران بين الفشل والنجاح    عادل عقل: تعادل بالميراس وبورتو يشعل مجموعة الأهلى.. وفوز كبير للبايرن بمونديال الأندية    وسائل إعلام إسرائيلية: عدة مواقع في تل أبيب تعرضت لدمار كبير    إيران تشن أوسع هجوم صاروخي على إسرائيل حتى الآن    أحمد السقا يرد على تهنئة نجله بعيد الأب.. ماذا قال؟    ارتفاع قتلى الهجوم الإيراني على إسرائيل إلى 16 قتيلا    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    مراجعة اللغة الفرنسية الصف الثالث الثانوي 2025 الجزء الثاني «PDF»    انكسار حدة الموجة شديدة الحرارة.. الأرصاد تعلن مفاجأة بشأن طقس الساعات المقبلة    فيديو.. الأمن الإيراني يطارد شاحنة تابعة للموساد    مجموعة الأهلي.. نتيجة مباراة بالميراس وبورتو في كأس العالم للأندية    نجوى كرم تطلق ألبوم «حالة طوارئ» وسط تفاعل واسع وجمهور مترقب    بعد تعرضها لوعكة صحية.. كريم الحسيني يطلب الدعاء لزوجته    أحمد سعد يشعل حفل الجامعة الأمريكية، ويحيي الأوائل    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأثنين 16 يونيو 2025    إمام عاشور: أشكر الخطيب.. ما فعله ليس غريبا على الأهلي    وفاة تلميذ متأثرًا بإصابته بلدغة ثعبان في قنا    صرف الخبز البلدي المدعم للمصطافين في عدد من المحافظات    حريق داخل مدينة البعوث الإسلامية بالدراسة    مصرع طفلتين في حريق بمنزل أسرتهما بالزقازيق    ضبط موظف تحرش براقصة أرجنتينية في العجوزة والأمن يفحص    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل الدراسة في فارم دي صيدلة إكلينيكية حلوان    شركة مياه الشرب بكفر الشيخ تُصلح كسرين في خط مياه الشرب    ختام فعاليات اليوم الأول من برنامج "المرأة تقود" بكفر الشيخ    بى إس جى ضد أتلتيكو مدريد.. إنريكى: نسير على الطريق الصحيح    ليلى عز العرب: كل عائلتى وأصحابهم واللى بعرفهم أشادوا بحلقات "نوستالجيا"    لا تسمح لطرف خارجي بالتأثير عليك سلبًا.. توقعات برج الجدي اليوم 16 يونيو    حدث بالفن | وفاة نجل صلاح الشرنوبي وموقف محرج ل باسكال مشعلاني والفنانين في مباراة الأهلي    رصاص في قلب الليل.. أسرار مأمورية أمنية تحولت لمعركة في أطفيح    أمين الفتوى: الله يغفر الذنوب شرط الاخلاص في التوبة وعدم الشرك    هل الزيادة في البيع بالتقسيط ربا؟.. أمين الفتوى يرد (فيديو)    عانى من أضرار صحية وتسبب في تغيير سياسة «جينيس».. قصة مراهق ظل 11 يوما دون نوم    سبب رئيسي في آلام الظهر والرقبة.. أبرز علامات الانزلاق الغضروفي    لدغة نحلة تُنهي حياة ملياردير هندي خلال مباراة "بولو"    صحة الفيوم تعلن إجراء 4،441 جلسة غسيل كلوي خلال أيام عيد الأضحى المبارك    الثلاثاء.. تشييع جثمان شقيق الفنانة لطيفة    عميدة إعلام عين شمس: النماذج العربية الداعمة لتطوير التعليم تجارب ملهمة    "نقل النواب" تناقش طلبات إحاطة بشأن تأخر مشروعات بالمحافظات    3 طرق شهيرة لإعداد صوص الشيكولاتة في المنزل    وزير الشئون النيابية يحضر جلسة النواب بشأن قانون تنظيم بعض الأحكام المتعلقة بملكية الدولة في الشركات المملوكة لها    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    تنسيقية شباب الأحزاب تحتفل بمرور 7 سنوات على تأسيسها.. وتؤكد: مستمرين كركيزة سياسية في الجمهورية الجديدة    جبل القلالي يحتفل بتجليس الأنبا باخوميوس أسقفًا ورئيسًا للدير (صور)    بمناسبة العام الهجري الجديد 1447.. عبارات تعليمية وإيمانية بسيطة للأطفال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة النيل‏..‏ تباريح الأمل والخوف والحرية
نشر في الأهرام اليومي يوم 18 - 02 - 2011

إذا كان السكون قرينة من قرائن الموت‏,‏ فإن الحركة علامة بارزة من علامات الحياة التي لا يعدو التاريخ أن يكون تجسيدا واعيا لمقاصدها وغاياتها‏.‏ وإذا كان المصلحون والعباقرة يستطيعون أن يتركوا بصمتهم علي التاريخ إلهاما وتوجيها‏,‏ وعلي مجتمعاتهم حفزا وتحريكا‏,‏ فإن الثوار هم أبطال التاريخ ولا شك‏;‏ القادرون علي تجسيد أفضل قيمه‏,‏ وانتزاع شتي مظاهر التخلف والركود منه‏,‏ ولذا تبقي الثورة أحد أجل الأحداث التي تصنع التاريخ وتصوغ المجتمعات‏.‏
في الثورة يصبح الكل في واحد وتصير اللحظة هي الأكثر مثالية لتغيير ما لا يمكن تغييره في التاريخ‏,‏ فعندها يكون الوعي عميقا‏,‏ والإرادة مكتملة‏,‏ والأحلام مشرقة رغم كل التحديات التي قد تجابه أمة‏,‏ ولكن استمرارية هذه اللحظة تتوقف دوما علي كيفية بنائها‏,‏ فإما أنها ومضة خاطفة في عمر الزمن أوحي بها فرد ولو كان ملهما نيابة عن أمة‏,‏ فالكل هنا ليس سوي هذا الفرد‏,‏ ومن ثم فاللحظة إلي زوال لأن الفرد كذلك‏.‏ وإما أنها إبداع أمة واختيارها‏,‏ فالكل هنا هو تلك الأمة‏,‏ واللحظة عندها إلي دوام لأن الأمة أيضا كذلك‏.‏ ولقد عرفت مصر في تاريخها المديد بعضا من لحظات مبدعة كانت فيها واحدا‏,‏ ولكن واحدها كان دائما فردا ملهما‏,‏ ولم يكن أبدا مجتمعا مريدا‏,‏ ولذا بقيت إبداعاتها متناثرة‏,‏ وإنجازاتها متكسرة فراوحت بين صعود وهبوط طيلة التاريخ‏.‏ وربما كان أروع ما في ثورة النيل أن لا قائد لها‏,‏ ولا إيديولوجيا تحكمها‏..‏ إنها ثورة الروح علي نفسها‏,‏ وانتفاضة الكرامة علي نقيضها‏..‏ قيادتها الحق تكمن داخلها‏,‏ في مثلها الإنسانية عن العدل والحرية‏,‏ التي أبقتها ثورة بيضاء اكتست بحكمة النهر الخالد وهدوئه‏,‏ وإن تحلت بعناده وصموده‏.‏
عند هذا الحدث الجلل في حاضر مصر‏,‏ وذاك الانعطاف في تاريخها تتوقف فكر اليوم وقفة استثنائية‏,‏ في نظمها وفي تحريرها‏,‏ يلقي من خلالها المحرر ضوءا كاشفا علي عدة مشاهد أو ملامح عاشها خلال أيامها المجيدة في رفقة الأمل والخوف والحرية‏..‏ مأخوذا بالأمل‏,‏ مراقبا في خوف‏,‏ ومنتشيا‏,‏ أخيرا‏,‏ بالحرية‏..‏
مشهد الأمل‏..‏
معركة أخيرة
بين الفرعون والفلاح الفصيح
ثمة فهم عام ينسب إلي الشخصية المصرية في تاريخها الممتد ثقافة الخنوع‏,‏ وهو النمط العام المهيمن علي الثقافة العربية‏,‏ ولكن تنبع الخصوصية المصرية فيه من مفهوم الأبوية الذي يستند إلي الأدبيات النظرية الشائعة في الغرب ويجد له أصداء مصرية حول نمط الإنتاج الآسيوي أو المجتمع الهيدروليكي و الدولة النهرية وجميعها تعني تقريبا فرض الطبيعة الجغرافية لنوع من الحكومات متطرف في مركزيته‏,‏ ونوع من المجتمعات متطرف في خضوعه‏.‏
هذا السياق تبرره إحدي روائع الأدب المصري القديم‏,‏ إذ تحكي البردية الفرعونية العتيقة عن ذلك الفلاح الذي هاجمه اللصوص وسرقوا حماره‏,‏ وكيف أنه شعر بظلم لم يرد السكوت عليه فكتب مظلمته الي الفرعون الذي أعجبته فصاحة الفلاح فانشغل بها عن مرارة شكواه‏,‏ ولم يهم برفع مظلمته حتي يعيد الفلاح الشكوي ويستزيد الفرعون من بلاغته‏.‏ ولقد بقيت هذه الرواية‏,‏ بافتراض صدقها التاريخي‏,‏ كاشفة عن عقد اجتماعي بالغ الخصوصية بين المصريين وحكامهم أو بالأحري لعلاقة الحضارة بالسياسة وهي عجيبة أخري من عجائب التاريخ المصري تكاد تضاهي الأهرامات‏.‏
لقد ظل فلاح مصر رمزا الي سبقها في الحضارة‏,‏ فالزراعة هي أول نمط إنتاج يحقق الاستقرار‏,‏ ومدنية مصر الأولي تدين للفلاح بعرقه علي الأرض وجهاده ضد تهور النهر العظيم الذي ارتبطت به أغلب عقائد المصريين الدينية وطقوسهم السحرية ونزوعهم الي البحث عن معني لما بعد الوجود‏.‏ هكذا صنع الفلاح المصري‏,‏ حسب تعبير فيلسوف المؤرخين الفرنسيين فرناند بروديل‏,‏ ذلك الدوام الطويل للحضارة المصرية منذ بدء التاريخ المكتوب وحتي بداية العصر الحديث‏.‏ فلم تكن مصر إذن سوي فلاحة طيلة عصر الحضارة‏,‏ وعندما ذهب عصر الزراعة فقدت مصر موقعها في الصف الأول بين الدول ولم تبلغ أبدا قامتها الأولي الفارعة‏.‏
وفي المقابل ظل الفرعون رمزا لسبق مصر في السياسة حيث الدولة المركزية الأولي التي يعرفها التاريخ بهذا التماسك وتلك الاستمرارية التي لا تدانيها سوي الصين في الشرق الأقصي‏..‏ لم يكن الفرعون شيئا منكورا في ذاته كما تدعي أدبيات حديثة هائمة‏,‏ وبأثر رجعي‏,‏ تري في حضوره دليلا علي التخلف‏,‏ فمقام الفرعون في مصر مقام ريادة‏,‏ وان لم يكن بالقطع مقام تحرر في تاريخ بكر لم يكن قد عرف للحرية معني في أي مكان آخر بالأرض الواسعة التي عرفها المصريون آنذاك أو لم يعرفوها‏.‏
وبين الفرعون والفلاح قامت علاقة في اتجاه واحد دائما من أعلي الي أسفل‏,‏ وكان أقصي ما يفعله الفرعون أن يسمع شكوي الفلاح ولكن من دون إجابة في أغلب الأحوال‏,‏ حيث خضعت حضارة الفلاح لسياسة الفرعون مالك التدبير ضد الفوضي في الداخل‏,‏ والأعداء علي الحدود‏.‏ وعلي هذا النحو سار تاريخ مديد يتدفق حينا ويتعثر أحيانا‏,‏ حتي اختفي الفرعون نفسه وجاء بعده محتلون فرس وإغريق ورومان لم يكونوا يستمعون حتي الي الشكوي فلاذ الفلاح بالصمت‏,‏ وبلع شكواه مع ريقه إيثارا للسلامة‏,‏ وندما علي عصر الفرعون‏,‏ ثم جاء العرب فاتحون بدين عزيز‏,‏ ولغة وثقافة أحسن المصريون من أبناء الفلاح الفصيح استقبالها جميعا وتفاعلوا معها‏,‏ وأضافوا في ظلها الي حضارتهم والي الإسلام أبعادا جديدة‏.‏ غير أن أبناء الفلاح ظللوا صامتين لا يجأرون بشكوي بعد عصر الفاروق عمر الذي لم ينتصر لهم أحد بعده عندما أمر والي مصر عمر بن العاص رضي الله عنهما بالقصاص من ولده لأنه ظلم أحد أبناء الفلاح الفصيح‏.‏ وتوالت العصور وذهب الوالي الأموي وجاء العباسي والطولوني‏,‏ والإخشيدي‏,‏ والفاطمي‏,‏ والأيوبي‏,‏ والمملوكي‏,‏ والعثماني‏,‏ والكردي‏:‏ واليا‏,‏ وأميرا‏,‏ وسلطانا‏,‏ وملكا‏.‏ كما جاء الفرنسي ثم الإنجليزي‏,‏ غاصبا ومحتلا‏,‏ وأبناء الفلاح الفصيح علي صمتهم مهما نهبت بيوتهم أو سلبت زراعاتهم لا يجأرون بشكوي قد تقود الي سوء العاقبة‏.‏
هكذا عاشت الحضارة في مصر تئن تحت رحمة السياسة مثل جسد عملاق يلهو به رأس عصفور صغير‏.‏ وقد زاد من المشكلة تراجع قدرة الفلاح نفسه علي صناعة الحضارة فمصر الفلاحة صارت الي وهن عبر الزمن‏,‏ تراجعت إلي الصف الثاني بين الدول داخل التاريخ التي كانت قد كتبت أول سطر فيه‏.‏ ومنذ القرنين‏,‏ حيث صار للفلاح الفصيح أحفاد‏,‏ أخذت مصر تنمو وتنهض‏..‏ لم تعد فلاحة فقط بل صارت عاملة وعالمة ومبدعة‏,‏ في المصنع وخلف السلاح‏,‏ وأمام المطبعة‏..‏ لقد تنوع أحفاد الفلاح الفصيح وتعددت أشكالهم وإن ظللوا جميعا يحلمون بميلاد جديد تتصالح فيه الحضارة مع السياسة‏,‏ فيكون لهم حق الشكوي من دون العقاب‏,‏ وهذا ما لم يستوعبه الفراعنة الجدد‏..‏ الفرعون تلو الفرعون‏,‏ فهذا عادل ولكنه مستبد‏,‏ وهذا مستبد دون عدل‏,‏ حتي كان الفرعون الأخير الذي ظل خياله قاصرا علي رؤية ذلك الفلاح القديم‏:‏ الطيب والصبور‏,‏ وسماع صوته وحده‏,‏ متنكرا لما صار إليه أحفاده‏,‏ معتبرا أن كل صوت غير صوته ليس إلا نشازا‏,‏ يطالب بما ليس حقا‏,‏ ويهذي بما ليس صدقا‏..‏ ومع تنامي الشكوي وفحش المظالم‏,‏ لم يكن أمام الأحفاد بد من تجاوز بلاغة الجد‏,‏ ومد الأيدي لأخذ حقوقهم ومصائرهم بأنفسهم‏..‏ وهنا سقط الفرعون‏..‏ هرب السدنة‏..‏ وتواري الكهنة‏,‏ فيما أطلت الشمس ساطعة علي وجه النيل الحكيم‏,‏ وتعانقت السياسة مع الحضارة بعد طول فراق‏,‏ وصاح أحفاد الفلاح الفصيح‏,‏ يجاوبهم أبوالهول بعد طول صمت‏:‏ عاشت مصر‏.‏
مشهد الخوف‏..‏
الخيط الرفيع
بين الهمجية والحضارة
ثمة أمور أساسية تقوم عليها الحياة وإن لم يشعر بها الأحياء إلا عند فقدانها‏,‏ منها الماء والهواء في الطبيعة‏,‏ ومنها الصحة لدي الإنسان‏,‏ ومنها أيضا الشعور بالأمن في المجتمع‏.‏ يفقد الإنسان عمره إذا فقد صحته‏,‏ ويموت إذا افتقد الماء والهواء‏,‏ فيما يرتد عن الحضارة إلي الهمجية إذا ما فقد الشعور بالأمن‏.‏
في زمن البداوة‏,‏ حيث يتغذي الناس علي جمع الثمار ويتنافسون علي الصيد أو يقومون بالرعي‏,‏ كانت قوة الجسد دوما هي العنصر الحاسم في تقرير المصائر وصون الحياة‏.‏ لقد تمتع البدائي‏(‏ الراعي والصياد‏)‏ بحرية مطلقة إزاء الآخرين من بني جنسه‏,‏ فلم تكن عليه قيود تذكر اجتماعية أو سياسية‏,‏ الأمر الذي أمكنه من أن ينتقل كثيرا خلف كل طعام شعر بالحاجة إليه‏,‏ أو يلهث أحيانا وراء كل فريسة أرادها‏,‏ أو يسعي دوما نحو كل امرأة رغبها‏,‏ بلا محاذير تذكر‏.‏ ولكنه في المقابل لم يكن يضمن لنفسه الحياة إذا ما وهن الجسد‏,‏ فعندها يتحول من صائد كبير‏,‏ إلي صيد صغير‏,‏ وتكون النهاية‏.‏
ومع بزوغ عصر الزراعة ظهرت المجتمعات الهيراركية الكبيرة المنظمة سياسيا في إمبراطوريات ودول كبري‏,‏ حيث كان الناس يزرعون ويحصدون ويبنون المجتمعات المستقرة‏,‏ وهنا صارت قوة السيف تحمي الجميع من الأغراب‏,‏ بينما يتكافلون هم فيما بينهم‏,‏ ومن ثم صار ممكنا لضعيف الجسد أن يحيا بين الأقوياء‏,‏ وللمريض أن يجد الرعاية بين الأهل والأقربين‏...‏ لقد بدأ الشعور بالأمن وولدت الحضارة‏.‏
وفي عصور تالية‏,‏ أكثر حداثة‏,‏ تم تقسيم العمل بين الناس‏,‏ وحدث التمايز بينهم حسب قوة العقل والخيال والإبداع‏,‏ وصار المجتمع منظما علي أساس من فكرة القانون في الداخل‏,‏ وعلي قاعدة تجريم الحرب مع الخارج‏,‏ ما لم تكن دفاعية‏,‏ بمواثيق وعهود دولية‏,‏ وانتفي حق الفتح الذي طالما ألهم حركة الجيوش في شتي الحضارات‏,‏ وعبر كل العصور‏.‏ ومع وجود منظمات دولية مثل عصبة الأمم‏,‏ ثم الأمم المتحدة صار ممكنا أن يكون أمن المجتمعات وقداسة الحدود وسيادة الدول في عهدة المجتمع الدولي‏,‏ ذلك الضمير الأخلاقي الوليد للإنسانية‏,‏ الذي قد يسهو أو يظلم حينا‏,‏ ولكنه يبقي موجودا يكشف عن نفسه في كثير من الأحايين‏..‏ لقد صار ممكنا أن تكون هناك مجتمعات ومواطنون يرفلون في حلة الثراء داخل دولة لا تملك العديد من قطع السلاح‏,‏ ولا الكثير من الجنود‏,‏ محمية بسقف العدالة الدولية‏.‏ كما أصبح ممكنا أن يوجد أفراد ضعاف البنية‏,‏ يتصدرون مجتمعاتهم بقوة الخيال والموهبة والإبداع‏,‏ يظلهم سيف القانون‏..‏ ومن هنا أخذت الحرية تسير مع العدالة‏,‏ يدا في يد‏..‏ لقد ترسخ الأمن وازدهرت الحضارة‏..‏
الزعيم كامل
في ليلتين متتاليتين بعد جمعة الغضب كان علي الكثيرين من المصريين‏,‏ بينهم كاتب هذه السطور‏,‏ أن يتعايشوا مع ساعات غرائبية من الهمجية‏.‏ لقد اختفي الأمن من نفوسنا مع اختفاء الشرطة من شوارعنا‏,‏ وتوالي الأخبار علينا تحكي عن جرائم يقوم بها البلطجية واللصوص‏,‏ وفي قول آخر عناصر من الشرطة السرية‏,‏ كانوا يسطون علي المحال والناس ثم البيوت‏.‏ لعل هذه الأخبار كانت صحيحة‏,‏ وربما كان بعضها صحيحا‏,‏ والآخر مفبركا لتعميم الشعور بالفزع وتوزيعه بالعدل علي الناس‏,‏ ليس هذا ما يهمنا الآن‏,‏ فالمهم هو أن الفزع قد شاع فعلا ودفعنا للتعايش لساعات أو ليالي مع روح البداوة في قلب زمن الحضارة‏.‏
كثيرون حملوا أسلحة بيضاء‏,‏ آخرون حملوا عصيا خشبية‏,‏ وآخرون حملوا قضبانا حديدية ونزلوا إلي شوارعهم‏,‏ جلسوا أمام بيوتهم‏,‏ ليحموها من المعتدين‏.‏ شخصيا لم أرد أن حمل أسلحة بيضاء‏,‏ بحثت عن شيء آخر فلم أجد سوي مفتاح أنابيب البوتاجاز‏..‏ لا أدري كيف تظل مدينة متكاملة كحدائق الأهرام‏,‏ تقع داخل القاهرة الكبري‏,‏ تتزود بالوقود بتلك الطريقة البدائية‏,‏ فيما يذهب غازنا الطبيعي إلي إسرائيل بثمن بخس‏,‏ ليستمتع به سكان تل أبيب‏,‏ يوفرون به الوقت والجهد‏..‏ تساءلت كثيرا‏,‏ هل لا يزال صحفي في جريدة مثل يديعوت أحرونوت أو هاأرتس يملك‏,‏ مثلي‏,‏ مفتاحا للأنابيب‏,‏ وأنبوبتين للبوتاجاز‏,‏ يقضي جزءا من وقته للتنقل بينهما‏..‏ أهو أولي مني بغاز سيناء التي درسنا وقرأنا وتعلمنا وتربينا علي أنها أغلي قطعة من بلادنا الحبيبة‏,‏ وأدينا الخدمة العسكرية الشاقة لنكون جاهزين خشية أن يعيد العدو اغتصابها منا‏,‏ أو حتي غيرها من جسد وطننا الحبيب‏..!.‏
كان من بين جيراني مستشار بالقضاء‏,‏ وضابط شرطة لديه إصابة بسيطة بالقدم قال لنا أنها من عنف الجماهير التي هاجمت القسم الذي يعمل به‏!..‏ فضلا عن آخرين‏.‏ وكان المشرف علينا جميعا هو كامل حارس العقار‏..‏ شخص ضخم الجسد‏,‏ عرفته شديد الأدب قبل هذا اليوم‏,‏ ولكني لاحظته شديد البأس في تلك الليلة‏.‏ قام بمنحي سلاحا آخر هو قضيب من الحديد الطويل والقوي يصلح للنزال الحقيقي والتعبير عن البطولة النادرة‏!‏
كانت هناك لجنة شعبية تماثلنا علي بعد‏100‏ متر تقريبا‏;‏ وكان كامل هو ضابط الارتباط معها‏,‏ لأن قائدها صديقه‏,‏ الحارس علي العقار الذي يلينا بقليل‏,‏ يتحادثان بين الحين والآخر‏,‏ ويتبادلان التعليمات الدقيقة والحساسة في تلك اللحظة التاريخية من حياة شارعنا‏..‏ لاحظت أن الجميع بمن فيهم المستشار الفاضل وضابط الشرطة القوي ينصاعون لأوامر كامل‏,‏ الذي يعلو صوته بالأوامر قبل أن يقوم بالاعتذار‏,‏ أحيانا‏,‏ لمخاطبه مبررا ذلك بحساسية الموقف‏,‏ وجسامة الخطر‏..‏ هكذا قضينا ليلتنا الأولي في دردشة طويلة تقطعها أوامر صارمة من كامل بالانتباه لأنه يشك في ذلك القادم أو تلك السيارة‏,‏ فينتبه الجميع وعلي رأسهم المستشار وضابط الشرطة‏,‏ الذي غالبا ما كنت ألحظه يبتسم في صمت مثير واستسلام مذهل‏..‏ كنت استغرب كيف يطيعه الآن كل من كانوا يأمرونه بالأمس‏,‏ ولماذا لم يشعروا بالحرج في ذلك؟‏.‏
تكررت الليلة الثانية‏,‏ علي المنوال نفسه تقريبا وإن بدرجة اقل من الهلع‏,‏ فقد أثبتنا جدارتنا في الليلة السابقة‏,‏ وتراكمت خبرتنا كما نمت ثقتنا بالزعيم كامل قائد الجبهة الشعبية للتحرر من الخوف‏.‏ ولكن الأسئلة نفسها عادت لتلح علي في نهار اليوم التالي‏:‏ لماذا استسلمنا جميعا لأوامر كامل الدقيقة؟‏..‏ لم يكن في الأمر سر‏..‏ إنه الخوف‏,‏ ذلك الأسد الهائج الذي يجتاح النفوس فيقتل توهجها‏,‏ ويحرمها ملامحها‏..‏ إنه الأمن الذي غاب معلنا للجميع عودة الجسد إلي موقع الصدارة في الإنسان‏..‏ حضر الخوف ليقصي العقل‏,‏ وليدفع بالقوة إلي موضع الحقيقة‏,‏ ويسوق الحضارة إلي كهف البداوة‏..‏ لقد انتكس التاريخ‏,‏ وهزمت الحضارة بفعل فاعل من بني وطني‏,‏ كنت قد ائتمنته علي نفسي‏..‏
مشهد الحرية‏..‏
روحانية التغيير
بين الدين والثورة
تتكاثف دعوات التغيير وتتسارع عوامل النهوض في لحظتي‏:‏ الوحي‏,‏ عندما ينبثق دين جديد‏,‏ والثورة‏,‏ عندما يولد وعي جديد‏,‏ فلا يمكن لواقع جديد أن يولد علي جثة السائد والمألوف إلا بواسطة شخصية استثنائية‏:‏ سواء من حاملي الرؤي المبشرين بما فوق عالمنا‏(‏ الأنبياء‏),‏ أو من حاملي السيف والفكر المبشرين بمستقبل أيامنا‏(‏ الأبطال‏).‏ فالوحي والسيف‏,‏ وبالأحري الدين والثورة وحدهما قادران علي كسر المعتاد والمألوف‏,‏ والخروج من أسر الكهوف‏;‏ لأنهما فقط القادران علي أن يجعلا الكل في واحد‏.‏
يرجع ذلك إلي قدرتهما علي توليد روحانية خاصة تنهض علي نوع من النشوة الوجدانية‏,‏ تصدر عن حالة انفعالية تتخطي العقل التحليلي‏,‏ لتنتج صورة ذهنية مباشرة لدي الذات أو الوعي‏,‏ عن العالم أو الواقع‏.‏ هذه النشوة ليست انفعالا صرفا بل نشاط يصدر عن ذهنية واعية‏,‏ لكنها لا تريد‏,‏ الآن‏,‏ تجزئة موضوع معرفتها وتحليله ثم إعادة تركيبه‏.‏ إنها نوع من الحدس بالكليات أو نمط من الوعي الكوني الشامل المنطلق من باطن إنسان أشرقت روحه إما بالحضور القدسي لقوة علوية قد تكون متسامية علي الوجود‏,‏ تحمل اسم‏(‏ الله‏)‏ كما هو الأمر في الدين خصوصا التوحيدي‏,‏ وإما بحضور دنيوي لفكرة سارية في باطن الوعي‏,‏ تحفز الإرادة لدرجة امتلاكها علي منوال تلك الأفكار الكبري الملهمة كالحرية‏.‏
يفترض هنا أن يكون الدين صحيحا‏,‏ وأن تكون الثورة نقية‏,‏ ولا تكون الثورة كذلك إلا إذا دارت حول مثل عليا كالحرية والعدالة والمساواة‏,‏ يبدو الموت من أجلها‏,‏ لدي الثائر‏,‏ أفضل من الحياة بدونها‏,‏ كما يموت المؤمن لأجل دينه سعيدا مستبشرا لأن الموت مع الإيمان خلود في الله‏,‏ والحياة من دونه فناء في الزمان‏.‏ وهكذا تستعير الثورة من الدين روحانية الاستشهاد‏,‏ بقدرتها علي تمثل ما في الدين من قدرة علي إلهام الضمير الفردي‏,‏ وتكتيل الإرادة الجمعية لقطاعات واسعة من البشر‏;‏ فالمجتمع الذي يجمع الناس فيه شعور الأخوة والصداقة‏,‏ وتسيطر عليه مشاعر التضامن والتضحية والمصير المشترك‏,‏ يعتبر في حالة دينية جوهريا‏.‏ ولعل مناخ الحرارة العاطفية العالية الذي يظهر في حالات الطوارئ‏,‏ كالثورات‏,‏ والحروب وأحيانا منافسات الكرة بين الأوطان‏,‏ يشبه كثيرا تلك الاحتفالات الدينية في الشرائع السماوية‏,‏ والطقوس السحرية في الديانات الوضعية‏,‏ من زاوية كونها رابطا إنسانيا‏,‏ ولاصقا اجتماعيا عميقا‏.‏ لقد أخذت ثورة النيل من المصريين نحو ثلاثمائة شهيد‏,‏ ولكنها أعطت باقي الثائرين روحانية هائلة مكنتهم من التعاضد والصبر والإقدام‏,‏ ومنحتهم الشعور بقدرتهم علي الإمساك بمصيرهم المشترك‏,‏ بل ولدت لديهم رؤي طوباوية للتاريخ شعروا معها بأنهم يتصرفون حسب خطته‏,‏ وأنهم الأكثر فهما لمنطقه‏,‏ والسير من ثم‏,‏ باعتبارهم وكلاء له‏,‏ نحو تغيير العالم من حولهم لا مصر فقط‏,‏ ولعل هذا هو سر العنفوان والإصرار علي رفض المساومة علي مطلبهم بإسقاط النظام‏,‏ والذي ربما لم يفهم كثيرون سره‏,‏ رغم عنفوان أمننا المركزي الباسل‏;‏ فالحماس الثوري يعكس مشاعر دينية في الصميم والجوهر‏,‏ ولكنها أخذت طابعا ثوريا‏/‏ دنيويا‏.‏ وبدلا من أن تظل في انتظار تحقق القيم الفاضلة في ملكوت السماء‏,‏ أخذت تدعو إلي مثيلها من قيم الأخوة والتضامن والحرية والعدالة‏,‏ ولكن علي هذه الأرض‏.‏
في زيارتين لي إلي ميدان التحرير كشفت لي هذه الروحانية عن نفسها في حالات تكافل وتواصل غير متصورين في مثل هذا الحشد‏,‏ الذي يتصور أن يبحث كل فرد فيه عن حاجاته هو‏,‏ أو يكترث بمطالبه الخاصة فتعز الأنفس بما تملك‏,‏ وتشح العطايا عن أي وقت آخر‏.‏ غير أن العكس هو ما تبدي لي في عديد من المشاهد‏,‏ بفعل توافر تلك الروحانية‏..‏ مررت علي شاب يمسك بزجاجة من المياه ويقدمها لي‏,‏ وعندما رفضت شاكرا له‏,‏ أصر هو ربما لتصوره أني أخجل من طلبها منه‏,‏ فرددت علي إصراره بما يعادله من شكر واجب وامتنان واضح طمأنه علي بلوغ غاية سعيه‏..‏ وفي موقع آخر من الميدان جائني صبي لا يزيد عن اثني عشر عاما يحمل صينية كبيرة من التمر ويقدمها لي ومعي صديقان‏,‏ امتدت يداهما لتناول التمر‏,‏ فيما اعتذرت للصبي فأصر مرة أخري‏,‏ وأمام إصراره وجدتني أحتضنه بدفء شديد‏,‏ ثم قبلت رأسه فابتسم في رضا من أدي دوره وبلغ قصده‏,‏ وانصرف إلي آخرين‏..‏ وهكذا‏.‏
في زيارتي الثانية كان الحضور كثيفا‏,‏ والحركة صعبة والناس علي كل شاكلة ومن كل لون‏,‏ والجنسان مختلطان‏,‏ لم يتدافع أحد علي آخر علي نحو ما يحدث بين حضور حفل سينمائي لا يزيد رواده عن مائة شخص أو مائتين‏.‏ ولم يتحرش شاب بفتاة رغم شيوع ذلك السلوك في السنوات الأخيرة التي وشت بانحطاط أخلاقي كبير‏.‏ لم يشتبك مسلم مع مسيحي‏,‏ بل بلغ الجميع ذروة التعاون‏,‏ وخصوصا يوم إقامة القداس الذي لم أحضره ولكني رأيته تليفزيونيا‏,‏ فأولئك يطوقون هؤلاء وهم يتعبدون‏,‏ وهؤلاء يحيطون أولئك وهم يصلون‏,‏ وبينما كانت أخبار الحرائق تتوالي عن أقسام الشرطة‏,‏ ومقار الحزب الوطني‏,‏ لم يأت خبر عن احتراق كنيسة أو اقتحام مسجد‏,‏ رغم أن الشوارع بلا شرطة‏,‏ ولا ضامن للأمن‏,‏ ورغم أن حدث تفجير كنيسة القديسيين كان لا يزال حيا تماما في الذاكرة‏,‏ وإن تواري عن العيون‏.‏ ورغم وجود منتمين إلي جماعة الإخوان المسلمين‏,‏ ومحاولتهم أحيانا رفع شعار إسلامية‏..‏ إسلامية‏,‏ فإنهم كانوا في أكثر حالاتهم تسامحا مع مخالفيهم الذين سرعان ما كانوا يرددون إيد واحدة أو مدنية‏..‏ مدنية‏,‏ فكانوا يعلون منطقهم وفهمهم لما يقومون به ولكن من دون تشنج‏.‏
تكشف هذه المشاهد جميعا عن أخلاقية طهرانية‏,‏ وتسامح عميق‏,‏ تلهمه لدي هؤلاء وأولئك روحانية ثورية هائلة شعر معها الجميع أنهم أمام قضية كبري تستحق من الجميع أن يسمو علي طبيعته‏,‏ وأن يتجاوز نفسه في حالتها العادية فيما لم يكن الجميع قادرين علي ذلك التسامي أو التسامح في زمن الركود والجمود‏;‏ ذلك أن الأمم تكتشف عن كنهها‏,‏ وتظهر أفضل ما لديها وهي تتحرك علي مسارات التاريخ‏,‏ تعمل إرادتها فيه‏,‏ فيملؤها الشعور العميق بشخصيتها الجماعية وإرادتها الكلية التي تتحرر بها من العجز‏,‏ وتشعر بالسيطرة علي مصيرها‏.‏ وفي المقابل تفقد الأمم أعمق خصالها‏,‏ وتطفح بأسوأ ما فيها عندما تبطيء حركتها أو تتوقف‏,‏ فهنا ينتابها الشعور بالعجز‏,‏ وتنفجر فيها علامات الانحطاط الأخلاقي‏:‏ كالتحرش والقذارة واللامبالاة‏,‏ والانحطاط الفكري‏:‏ كالتطرف والفتنة وغير ذلك كثير‏.‏
لم يخل الميدان من صور كاريكاتورية تعبر عن الشخصية المصرية بكل تجلياتها الإيجابية والسلبية‏.‏ طالعت شعار يجسد أبدع قيم الوطنية كاد أن يبكيني كتب عليه حامله حقك علي يا بلدي‏..‏ أتأخرت عليكي‏..‏ فما إن مرقت بين الحضور إذا بي أنظر علي غير بعيد من الثائر الأول الذي أصابني بالشجن‏,‏ لأجد ثائرا آخر أضحكني‏,‏ ولا يزال يضحكني كلما تذكرته‏,‏ إذ رفع شعارا مطالبا برحيل الرئيس مبارك‏,‏ مفعما بخفة دم مصرية شديدة يقول ارحل بقي‏..‏ إيدي وجعتني‏.‏ في المقابل وعلي العكس ساءني مشهد آخر رأيت فيه صورة الرئيس علي هيئة النازي‏,‏ وبجواره الصليب المعقوف‏,‏ وعندما هممت بمحاورة الثائر الذي يحمله قائلا له بأن هذا لا يليق‏,‏ وأن مبارك علي رغم أخطائه الكثيرة لا يقارن بالزعيم النازي المتطرف الذي وضع القارة الأوروبية برمتها‏,‏ بل والحضارة الإنسانية كلها علي حافة التدمير‏,‏ فإذا به يكمل بسب الرئيس في كلمات تتفوق في قسوتها علي قسوة الصورة التي يحملها‏,‏ مما بدا لي أمرا غريبا علي المزاج العام للشخصية المصرية بالغة الاعتدال‏,‏ وخشيت من أن يكون الاستبداد الطويل والقهر العميق قد تركا فينا بصمة عميقة‏,‏ ولكني سرعان ما قلت لنفسي مطمئنا أن أثر الحرية سيكون أعمق‏,‏ وأن انطلاق الإرادة سيمحو القهر كما يجلي ضوء النهار ظلمة الليل‏.‏
أخيرا أقلقتني دعوة أطلقها مجلس أمناء الثورة يوم الأحد الماضي‏,‏ وقت كتابة هذا المقال‏,‏ إلي مسيرة مليونية للضغط علي قيادة المجلس الأعلي للقوات المسلحة للتسريع بالإصلاحات المطلوبة‏,‏ ومصدر قلقي هو أن اليوم نفسه‏,‏ وما سبقه شهد تجاوبا كبير من القيادة العسكرية إزاء تلك المطالب الثورية‏,‏ ما جعلني أخشي من أن ينمو لدي شبابنا الجسور شعور بالاستسهال إزاء فكرة التظاهر‏,‏ من دون حاجة قصوي‏,‏ أو غايات سامية علي خلفية نجاح ثورتهم‏,‏ فهنا تتفشي الشعبوية‏,‏ وهي أمر يتنافي مع الديمقراطية قدر ما تتناقض الأخيرة مع الاستبداد‏.‏ وبدلا من زمن كنا نهجو فيه عجزنا عن الثورة‏,‏ يأتي زمن نشكو فيه فائض قدرتنا علي الثورة‏,‏ فنصير كجمهور كرة القدم الذي يقيل مدرب الفريق بعد كل هزيمة كروية‏,‏ فلا يعرف الفريق استقرارا فنيا‏,‏ فيما لا نعرف نحن استقرارا سياسيا‏,‏ وننتقل من الجمود الشديد إلي السيولة المفرطة‏,‏ وكلا الأمرين خطر‏.‏
أعرف أن الطاقة الثورية لا تزال حية في النفوس‏,‏ وأن الأمر قد يستغرق وقتا للبرء منه‏,‏ ولكني أرجو أن يتم ذلك بسرعة شديدة‏,‏ تسمح لنا بمرحلة انتقال هادئة‏,‏ وقدرة فعالة علي الإنجاز‏,‏ تلبي ثورة التوقعات الراهنة لدي كل الفئات والمهن‏,‏ التي يغالي بعضها في مطالبهم‏,‏ ويلحون عليها رغم ضيق الوقت لدي الحكومة الانتقالية‏,‏ وملابسات الوضع الاقتصادي المثقل بتكاليف إعادة اعمار ما تهدم‏,‏ وتعويض ما فقد‏,‏ إلي درجة تمثل نوعا من الابتزاز أو الانتهازية التي لا تليق بروحانية ثورتنا البيضاء‏,‏ كما تتنافي مع حكمة النيل العظيم‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.