تنبع أهمية هذا الكتاب في أن مؤلفه هو أحد رجال الدين غير العرب وهو يكتب من واقع تجارب عاشها، وواقع لمسه، فالأب/ مايكل بريور هو قس بولندي عاش في القدس، وكان أستاذاً في جامعة بيت لحم، وقام بالتدريس في المعهد المسكوني للاهوت في الطنطور بالقدس خلال الفترة 96/ 97، فاطلع عن قرب علي دوافع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وأبعاده، وقد قام بمسيرة دولية «مع آخرين» من القدس إلي عمان من أجل السلام، وتم القبض عليه وسجن مرتين، وقام باجراء اتصالات شخصية مع شخصيات فلسطينية مهمة «خاصة زعماء الكنائس» وأسهم في عام 93 في مؤتمر حول «المسيحيين في الأرض المقدسة»، لكل هذا فإن لشهداته في هذا الكتاب وزنًا خاصًا. يقول القس بريور- الذي كان في البداية معجباً بالانجاز الإسرائيلي- «اكتشفت خلال عامي 83/ 84 أن الاحتلال لم يكن لدواع أمنية فقط إنما كان يدعم سياسة التوسع من أجل قيام إسرائيل الكبري التي كانت الهدف النهائي للصهيونية،وبعد ذلك فهمت البعد الديني للصراع، حيث كان الصهاينة يربطون بشكل وثيق بين النشاط الاستعماري ونصوص الكتاب المقدس «ويقول أيضا: «صدمت عندما رأيت أن تبرير ترحيل العرب الفلسطينيين كان يصدر عن تفسير ساذج للكتاب المقدس». منظور استيطاني يحدد القس بريور- الذي يتحدث عن الاستعمار من خلال المنظور الاستيطاني «Colonialism»- الهدف من بحثه في نقطتين، وهما أولاً: نقد إهمال المسألة الأخلاقية من التأويلات الكتابية الأوروبية الأمريكية، وثانياً: محاولة إنقاذ الكتاب المقدس من استخدامه كأداة قمع واضطهاد للشعوب، إن بحث القس بريور يضع أيدينا علي مفاتيح مهمة في تأويلات النصوص المقدسة عند الكثيرين خاصة الوقوف بالنص المقدس عند إطاره التاريخي والظرفي دون أخذ في الاعتبار تغير الزمن والظروف، ففيما يتعلق بما ورد في التوراة عن وصف اليهود بكونهم «شعب الله» وتمييزهم عمن حولهم من شعوب «وثنية آنذاك» فقد كان ذلك صحيحا في زمنه حين كان اليهود هم أصحاب الديانة التوحيدية آنذاك، وكان تمييزهم مقصوداً به حماية هذه الديانة من تأثير عبادات الأمم الوثنية ومن هنا جاء تعبير يهود مقابل أمم، وبالمثل فيما يتعلق بوعد الله لإبراهيم «وبنيه» بأن يرثوا الأرض من النيل إلي الفرات، فقد تحقق هذا بانتشار ديانات التوحيد في هذا المدي الجغرافي وأصبح أهلها أبناء لإبراهيم نسلاً «أو عقيدة». أورد القس بريور في الفصل الأول من كتابه «المشكلة الأخلاقية لتراث الكتاب المقدس عن الأرض»ما ورد بأسفار التوراة الخمسة وكذا سفر يشوع وأسفار العهد القديم الأخري عن الأرض، ووعد الله لإبراهيم بهذه الأرض إلي النهر الكبير «نهر الفرات»، وأنه سيجعله أباً لجمهور كبير من الأمم «وهذا هو معني اسم إبراهيم»- ويلاحظ هنا أن كلمة أمم قد وردت علي سبيل الجمع وأوضح أن فهم اليهود الحرفي لتلك النصوص قد ساهم في تكوينهم الشوفيني لحب الأرض، والوطن بما في ذلك أجيال الشباب منهم، وذلك علي حساب الجانب الأخلاقي لتلك النصوص، حتي أن عالم الاجتماع الإسرائيلي «جورج تامارين» قد قام بدراسة ميدانية علي مجموعة من طلاب المدارس الإسرائيلية حول حكمها علي سلامة تصرف القائد الإسرائيلي «يشوع بن نون» عندما أحرق قري السكان الأصليين عند استيلائه علي الأراضي حول نهر الأردن طبقاً لما ورد بسفر يشوع، وحكمهم إذا ما كرر الجيش الإسرائيلي ذلك مع قرية عربية الآن، وهل أثبتت النتائج قدراً عالياً من التحيز والتوجهات العنصرية لدي هؤلاء الطلاب. ويقول بريور إن هذه التفسيرات المنحازة سببت جرحاً وجدانياً للمسيحيين العرب «خاصة الفلسطينيين» ويشير عالم اللاهوت التحريري الفلسطيني/ نعيم عتيق لهذه الحقيقة فيقول: «العهد القديم يعتبر جزءًا أساسياً من التراث الكتابي المسيحي.. ومنذ إنشاء دولة إسرائيل، قام بعض اليهود والمسيحيين بقراءته وفسروه علي أنه نص صهيوني بحت». الاستعمار الغربي يؤكد بريور أن هذا الاستخدام المغرض للنصوص قد مارسه الاستعمار الغربي أيضاً، في أمريكا اللاتينية، وجنوب أفريقيا، وهذا ما ذكره أرنولد توينبي: «نفس الاعتقاد الذي دفع بني إسرائيل لإبادة الكنعانيين ، هو الذي دفع بالبريطانيين للاستيلاء علي أمريكا الشمالية وأيرلندا الشمالية وأستراليا، ودفع الهولنديين للاستيلاء علي جنوب أفريقيا، والصهاينة علي فلسطين». عن استعمار الأمريكتين علي يد الإسبان والبرتغال يوضح بريور استغلال المستعمرين الأوائل لنصوص الكتاب المقدس لإخضاع الهنود الحمر والسكان الأصليين وقهرهم ومحو ثقافتهم باعتبارهم وثنيين، في حملة وحشية استمرت منذ بداية رحلات كولومبس للعالم الجديد، وقد عارض هذا الأسلوب الوحشي رجال دين مستنيرون استنكروا استخدام النص الديني لأغراض استعمارية «في مواجهة رجال دين آخرين برروا الغزو والاستعمار وقهر الشعوب الأصلية بحجج دينية»، كتب أسقف سانتياجو الفرنسسكاني للبابا في عام 1666م يقول.. «إن بكاء الهنود عظيم ومتواصل يصل إلي عنان السماء، وإذا لم ننقذ هؤلاء البؤساء ستتم المطالبة بذلك في محكمة أكثر القضاة عدلاً». تفسير مغلوط ثم ينتقل إلي أثر هذا التفسير المغلوط علي تطور استعمار الهولنديين وغيرهم من الأوروبيين «الأفريكانز» لجنوب أفريقيا وتبلور فكرة الآبارتهايد، وكان تشكيل رابطة الإخوة الأفريكانز في عام 1918 «وكان أعضاؤها من البروتستانت نموذجا لهذا الفكر»، وقد رأي مؤسسوها أن الله قد دعا إليها وفق قانونه المقدس لتكون نواة لأمة أفريكانية منفصلة، وقد خاض الأفريكانز معارك ضارية ضد القبائل الأفريقية وعلي رأسها الزولو، لتأسيس دولة عنصرية وكانوا في أدبياتهم يرون أنفسهم شعب الله «إسرائيل» بينما الأفارقة السود هم أمميون وثنيون كالكنعانيين. وبالمثل وجد هذا الأسلوب من يعارضه فقد أعلن المجلس العالمي للكنائس المسيحية في عام 75 إدانته لهذا بقوله : «إنها خطيئة ضد الله وضد البشر، فالتمييز العنصري يتعارض مع عدالة الله». فلسطين علي أن أهم فصول الكتاب وآخرها هو الفصل الرابع الخاص بالاستعمار وفلسطين ونشأة إسرائيل التي قامت علي استغلال كامل للنصوص التوراتية، حيث يقول بريور إن هيرتزل رغم أنه لم يبرز النصوص التوراتية مباشرة في دعوته لإقامة الدولة اليهودية إلا أنه كان متشبعاً بهذا الفكر، ففي معرض المقارنة بين الأرجنتين وفسلطين لإقامة الدولة قال «إن اسم فلسطين يجذب شعبنا بقوة نافذة عجيبة»، واعترف بأن مفهومي الشعب المختار والعودة إلي أرض الموعد عاملان فعالان لحشد الرأي العام اليهودي، ورغم كونه غير متدين فإنه عشية افتتاح المؤتمر الصهيوني الأول في بازل «29- 31 أغسطس 1897» ذهب إلي المعبد للصلاة وقرأ القانون اليهودي، وعندما عرضت أوغندا كبديل لفلسطين لإقامة الدولة في المؤتمر الصهيوني السادس «22 أغسطس 1903» رفع هيرتزل يده اليمني مردداً ما ورد في المزمور 137 من الزابور «إن نسيتك يا أورشليم تنسي يميني» وقد وجدت الصهيونية في هذه البدايات من يعارضها ويعارض إدعاءاتها التوراتية من اليهود أنفسهم فقد عارض حاخام فيينا «موريتز جودمان» الصهيونية لأنها لا تتفق مع التعاليم اليهودية، كما رفض البابا «بيوس العاشر» تقديم أية مساندة للصهيونية لأسباب دينية، في الوقت الذي انخدع فيه بها كثيرون كالسلطان العثماني. تأتي المرحلة الثانية للصهيونية بصدور وعد بلفر في 2 نوفمبر 1917 وحتي قيام الدولة في 1948، والتي شهدت كثافة الهجرة اليهودية إلي فلسطين، وكانت تهدف إلي إخلاء الأرض من سكانها العرب لاستقبال المهاجرين الجدد، حتي أن «يوسف ويتز» القائم علي لجنة الترحيل كتب في يومياته يوم 20 ديسمبر 1940»: «ليس هناك مكان لشعبين في هذا البلد.. يجب ترحيل العرب إلي الدول المجاورة». في المرحلة الثالثة «من قيام إسرائيل سنة 48 حتي 1967» والتي شهد مطلعها النكبة الفلسطينية، رحل ما يعادل 54% من الفلسطينيين من قراهم وضم أكثر من 6 ملايين دونم من الأرض الفلسطينية للمستوطنات اليهودية، وأخليت مئات القري من سكانها. بدأت المرحلة الرابعة منذ حرب 67 وحتي الآن تلك الحرب التي شنتها إسرائيل كما يقول بريور «لرغبتها في جني ثمار نصر أكيد»، في عشية اندلاع الحرب صرح إيجال ألون أن من أولويات إسرائيل «تحقيق الوعد بأرض إسرائيل»، وقد نجم عن الحرب الاستيلاء علي سيناء والضفة الغربية والجولان علي حساب ثلاث دول عربية، إضافة لاحتلال لبنان عام 78، رغم محاولات السلام مع العرب- برعاية أطراف مختلفة- وقد ظهرت في تلك الحقبة أيضاً مظاهر التطرف الصهيوني فيما يتعلق بإقامة إسرائيل التوراتية، ففيها قام متطرف يهودي باغتيال 29 مصلياً في المسجد الإبراهيمي «25 فبراير 94»، وقد جعل المتطرفون اليهود من قبر هذا المتطرف «باروخ جولدشتاين» في كريات ربع مزاراً وأطلقوا عليه «الشهيد الصالح»، كما تم اغتيال رابين «4 نوفمبر 95» علي يد متطرف آخر لأنهم اعتبروه أكثر اعتدالا مما يجب، وكل هذا كما يذكر المؤلف بسبب تفسيرات خاطئة لتراث الأرض في الكتاب المقدس، فحتي العلمانيين من الصهاينة يستمدون روح أفكارهم من الإرادة الإلهية بشأن قيام إسرائيل، فقد كان بن جوريون يعقد بشكل منتظم «حلقة رئيس الوزراء لدراسة الكتاب المقدس» وكان يحضرها زلمان شازار رئيس الدولة، وكتب موشي ديان كتابه «العيش مع الكتاب المقدس سنة 1978 مؤكداً حقوق إسرائيل التاريخية!!. وتصل الأمور إلي ذروتها عند التقليديين من الصهاينة، فحين رشح الحاخام «بن يوسف» نفسه لمنصب عمدة القدس عام 93 كانت سلطته أنه «يجب ألا تكون هناك مساجد ولا كنائس في القدس.. يجب ألا يكون في المدينة عبدة أوثان». يستغرب القس بريور أن المشروع الصهيوني المستند علي تأويلات الكتاب المقدس حظي بمساندة واسعة من قبل بعض المسيحيين بدعوي أن دولة إسرائيل ستكون المصلح بين اليهود، والمسيحيين والمسلمين، والتمهيد لقدوم المسيا «الحكم المقسط»، ولكن بريور يقول «لا يظهر لدي مثل هذا الإصلاح القائم علي عودة اليهود، بل أري الإذلال والإهانات اليومية للفسلطينيين، وانتزاع أرضهم وطردهم منها». إن هذا الكتاب المهم هو شهادة قيمة، ودعوة جادة لتفسير النصوص الدينية «بشكل يسعي إلي تقدير الظروف الاجتماعية والسياسية المعقدة»، و«يهتم بظروف الحياة الحقيقية للناس».