كيف يمكن لنا أن ندرب ذائقتنا السينمائية حتي تستوعب طبيعة التجربة الأولي لأي مخرج والتي دائماً تحمل عددا من الملاحظات أحياناً قد لا يتقبلها المخرجون الشباب عند مناقشة أفلامهم أمام الجمهور، وكيف نستطيع الفصل بين تقييم موهبة المخرج وبين عمله الأول الذي ربما لا يبرز من خلاله كل قدرات المخرج، مثله مثل كل التجارب الأخري في أي مجال . هذا السؤال يطرح عادة عند مشاهدة العمل الأول لأي مخرج شاب، ورغم أن الأعمال المستقلة الروائية الطويلة في مصر مازال عددها محدوداً ويسهل متابعتها جميعاً، لكن يبدو أننا علي اعتاب طوفان مستقل قادم أكثر خصوبة وحرية وأكثر تجدداً في الموضوعات التي طفت حديثاً علي الواقع المجتمعي في مصر بعد الثورة، إذن فلنعتبر ان السينما المستقلة في مصر ستودع مرحلة الموضوعات المتعارف عليها قبل الثورة والتي عمدت إلي مهاجمة النظام السابق بشكل صريح وستنتقل إلي مرحلة أخري أكثر ثراء، اي فترة قيام الثورة وما تبعها من انقلاب وتغيير جذري للمجتمع المحلي وأثر هذا التغيير علي المجتمع الدولي . ثلاثية مستقلة شاهدت في اسبوع واحد ثلاثة أفلام مستقلة، ميكرفون وهليوبوليس للمخرج أحمد عبد الله والطريق الدائري للمخرج تامر عزت، كل عمل منها يجبرك علي استخدام معيار يتناسب وبصمة كل مخرج، هليوبوليس وميكرفون يحملان سمة مشتركة غير كونهما لمخرج واحد، حيث يصنفان مخرجهما كواحد من اهم مخرجين الفيلم التسجيلي في جيل السينما المستقلة، أكثر منه مخرج روائي عادي، ويمكن اعتبار فيلم ميكرفون نقطة ارتكاز مهمة للسينما المستقلة التي بدأت سريعاً بتغيير المفاهيم التي أحاطتها بها شركات الانتاج السينمائي الكبري كي تسجنها وفق مفهوم واحد لا تحيد عنه، وهي أنها أفلام ذات بعد اجتماعي وواقعي خاص جداً تخلو من أي عامل من عوامل الجذب التجاري، فجاء ميكرفون يحاول كسر هذه القاعدة المتحجرة في عقول شركات الانتاج، الخصم الاول للسينما المستقلة الجديدة، مزج العمل بين ادوات الفيلم التسجيلي والروائي لكن هذا الاسلوب قد لا يكون جديداً فيما يسمي بأفلام الديكيودراما التي يذوب الفرق فيها بين التسجيلي والروائي لكن فيلم ميكرفون اتخذ أهميته كونه جعل العنصر الروائي في أحداث الفيلم مجرد ضيف شرف غير مرئي ذائب في الاحداث السريعة وبين لهاث المخرج لسرد أكبر قدر من النماذج مما أحدث حالة من الارتباك عند المشاهدين. البحث عن الحرية لكن رغم زخم الاحداث وتعدد الشخصيات وتنوع الموضوعات كانت كلها تدور حول محور واحد وهو البحث عن الحرية والأمل وأكثر ما كسره فيلم ميكرفون في الصورة المتعارف عليها لما يسمي واقعية الافلام المستقلة، كان ميكرفون فيلما موسيقيا غنائيا يقدم نوعاً مختلفا وجديدا للانتاج الحر، ويضيف نوعاً آخر للافلام المستقلة هو الفيلم الغنائي الديكيودرامي وقد قدم الفيلم التسجيلي بنكهة روائية خفيفة، ويأتي المخرج تامر عزت ليضيف هو الآخر نوعاً ليس جديداً علي السينما التجارية لكنه كان بعيداً نوعاً ما عما تقدمه السينما الحرة، وهي مشاهد الاغراء والأكشن التي قدمها تامر في فيلمه الأول الطريق الدائري، بذلك وبرغم اختلافنا حول تقييم مستوي هذه الأفلام التي بالطبع ستتطور موهبة وخبرات مخرجيها مع الوقت، كسر جيل المستقلين الفكرة التي بناها تجار السينما عن أن الفيلم المستقل محدود المشاهدة لعدم وجود مقومات تجارية تحفز شركات الانتاج لعمل مثل هذه النوعية قليلة التكلفة وعرضها في السينما، لم يبق سوي الفيلم الكوميدي في سلسلة الأنواع الفيلمية الذي ننتظره من صناع السينما المستقلة لينافسوا بحق إلي جانب الافلام التجارية فالسينما المستقلة مازالت تحمل في طياتها أكثر مما يتوقعه المنتجون الذين ظلوا محتكرين سوق السينما المصرية لسنوات كانت معظمها سنوات انهيار وانحدار لتاريخ صناعة السينما في مصر، أما أفلام المغامرات و الخيال العلمي فالسينما التجارية فاشلة منذ زمن في انتاج مثل هذه الانواع، بل والمشاهد يكتفي بمتابعتها من خلال الافلام الامريكية التي لا يضاهيها أي إنتاج آخر. تجارب قصيرة فيلم الطريق الدائري الذي عرض ضمن مسابقة الأفلام العربية في الدورة السابقة لمهرجان القاهرة السينمائي العام الماضي واختتم فعاليات احتفالية جمعية الفيلم مؤخراً هو العمل الروائي الطويل الاول لمخرجه تامر عزت بعد عدة تجارب قصيرة وتسجيلية، جمع تامر عزت في هذا الفيلم بين آليات السوق التجارية وسمات الفيلم المستقل، وإن كانت عثرات التجربة الأولي كثيرة في هذا العمل إلا أنها تبشر بمخرج قادم صاحب رؤية يحتاج فقط لصقل موهبتة من خلال تكثيف خبراته مع الوقت. يروي الفيلم قصة صحفي يحاول كشف قضية فساد لإحدي شركات انتاج الاجهزة الطبية والتي يمتلكها واحد من كبار رجال الاعمال في مصر المدعومين من جانب الحكومة والذي يورد قطع الغيار والمستلزمات الطبية للمستشفيات الحكومية، فيكتشف عصام الصحفي ان هذه المنتجات غير مطابقة للمواصفات الصحيحة بل انها تحمل ايضاً موادا سامة تؤثر سلباً علي صحة المرضي، في نفس الوقت يحاول عصام (نضال الشافعي) الحصول علي قرض ليعالج ابنته التي تعاني من فشل كلوي، لكنه يخفق في ايجاد حل لشراء كلية بديلة لابنته، فيحاول صاحب شركة الادوات الطبية الايقاع بعصام ومحاصرته مستخدماً امرأة لغوايته ، يلقيها في طريقه وبعد ان يقع عصام في شرك أميرة (فيدرا) يقوم رجل الاعمال بتهديده إما الفضيحة او التراجع عن كشف الحقيقة للرأي العام، في نفس الوقت الذي يحاول فيه عصام ملاحقة القضية وكشف فساد رجل الاعمال الذي يقتل كل يوم ملايين المرضي بأجهزته السامة، يحاول عصام انقاذ ابنته بالحصول علي كلية بديلة من طفل آخر يستخدمه والده من أجل الحصول علي المال. قد مر الفيلم سريعاً علي هذا الحدث وكأن الاتجار بالاطفال من قبل آبائهم شيء مشروع لا يستعدي التوقف عنده بل يكفي الإشارة إليه، حيث حصل الأب علي مبلغ كبير من الصحفي مقابل ان ينتزع عن ابنه كليته وهذا التناقض بين استماتة الصحفي في الكشف عن قضية الفساد التي قد يدفع حياته ثمنا له وبين تواطؤه مع هذا الأب الذي يستخدم جسد ابنه للحصول علي المال قام بتتويجه الفيلم في نهاية الصراع حيث تراجع الصحفي عن كشف فساد رجل الأعمال نظير مبلغ زهيد من المال لا يتساوي مع حجم القضية التي كشفها، لكن المبلغ في المقابل يحل من وجهة نظره مشكلة ابنته وينقذ حياتها، فقد حول الفيلم شخصية الصحفي المندفع نحو كشف الحقيقة إلي مجرم يهدد ويضرب ويبتز حتي ينجو بابنته، وإن تقبلنا اختياره فلن نتعاطف معه خصوصاً أن المال الذي حصل عليه مقابل صمته وتسليمه أدلة الإدانة للجاني لم يسعف ابنته، لكن الفيلم فاجأنا بمحاولة قامت بها عشيقة الأب في إنقاذ الابنة واستكمل الأب المبلغ المطلوب من مصدر آخر، فلماذا استسلم في البداية ومن أين ظهر هذا الحل السحري الذي غفل عنه فقط ليخون ضميره المهني مقابل ضعفه الأبوي، أسئلة لم يجب عنها سيناريو الفيلم المتضارب الاحداث، المتباطئ الإيقاع في بعض المشاهد، وفي مشاهد أخري يقفز بنا متعجلاً إلي حدث جديد لم يؤهلنا له السيناريو الذي طغت عليه لغة المباشرة مما أضعف من تفاعل المشاهد مع احداث الفيلم وكأنه يقرأ مقالاً صحفياً عن حادثة ما، مما أفسد عامل التوتر والرغبة عند المتلقي في متابعة القصة التي انكشفت كل خيوطها في بداية الفيلم. أصبحت الاحداث تقليدية وفاترة يتوقعها المشاهد ويمل احيانا من تباطؤها ويدهش لقفزاتها احيانا اخري، ونضيف إلي تقليدية السرد ومباشرته تجرد معظم الممثلين من توحدهم مع الشخصيات الا بالمظهر الخارجي فقط، حتي اننا نستشعرهم احيانا يتخلصون من ثقل الحوار الخالي من اي انفعال، خصوصاً في العلاقة الفاترة للصحفي عصام بزوجته ياسمين (سامية أسعد ) التي لم نجد لها مبررا منطقيا سوي مرض ابنته، أما أميرة المرأة التي حاولت اغواءه فهي الشخصية الأكثر توازناً وتقليدية في نفس الوقت، لكنها الاكثر حفاظاً علي تماسك أدائها بين المشاهد وتوازن انفعالاتها بين كل حدث وآخر، لم تقدم الممثلة فيدرا جديداً بهذه الشخصية لكن علي الاقل لم ينهار أداؤها مثل باقي شخصيات الفيلم، كما أفرط الفيلم من مشاهد الاغراء التي تجمع بين عصام الصحفي وأميرة دون أن يتمكن السيناريو الذي كتبه تامر ايضاً من مزجها مع الموضوع حتي أنها ظهرت بشكل عشوائي ومكثف لدرجة جعلتها تفقد مصداقيتها داخل الاحداث وأصبحت مثل الكثير من الافلام التجارية التي تغازل شباك التذاكر. قابلية التجويد تبقي إشكالية تقييم العمل الأول قائمة، لكن لنستقبلها علي أنها تجربة أولية لمخرجها يعرفنا فيها علي قدراته ويحاول اكتشاف أبعاد أكثر لإمكانياته التي لم يضع يده عليها بعد، فالتجربة الأولي ليست سيئة بل ضعيفة وغير متوازنة تضاف فيما بعد إلي خبرات صاحبها وتظل قابلة للتجويد والتطور، ويكفي أننا أيقننا أن السينما المستقلة لا تملك شكلا أو اسلوبا محددا بل إنها مثل كل أنواع الفنون متعددة الرؤي متنوعة الأساليب والموضوعات .