يواصل كاتب هذه السطور ما بدأه علي هذه الصفحة الرائدة بمقاليه المؤرخين 12/4 /2011 ، 17/5/2011 من إلقاء الضوء علي بعض المصطلحات الجاري استخدامها في كتابات المفكرين السياسيين والاجتماعيين ممن يتصورون أن قراءهم ليسوا بعيدين عن فهم تلك المصطلحات بدقة . ولما كانت ثورة الشعب المصري " الينايرية " قد نجحت في اجتذاب معظم الناس إلي شطآن بل وبحور الشأن العام الهائجة المضطربة ؛ فلقد صار واجبا ً أن يلتفت المثقفون إلي واجبهم الأول تجاه جماهير شعبهم المتعطش للنزال ، ذلك الواجب المتمثل في تقديم الوعي العلمي والخبرة المعرفية لأهاليهم دون من أو استعلاء ، فتلك بضاعة القوم أنتجوها ولو بطريق غير مباشر بإنفاقهم - ماليا ً واجتماعيا - علي تعليم المثقفين ، وقد آن الأوان لهؤلاء المثقفين أن يردوا البضاعة لأصحابها مصحوبة بالشكر والتقدير . دعنا إذن نستعرض في هذا المقال خمسة مصطلحات ربما تبدو للبعض مألوفة لكنها بالقطع تتسم بشيء من الغموض لدي قطاعات غير قليلة من القراء ، وأخشي القول بل ولغير قليل من الكتَّاب الشبان . ومن نافلة القول ان ما يعرضه صاحب المقال لكل مصطلح إنما يمثل الحد الأدني لمفهوم كل مصطلح ، ولكنه مع ذلك يعبر عن توافق شبه كامل في الأوساط العلمية حول "ما صدق " المفاهيم ، أو بصياغة أقل تخصصا ً : حول المضامين . النهضة Renaissance يطلق المؤرخون علي الفترة ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر في أوروبا اسم " عصر النهضة " وهو لفظ معناه اللغوي إعادة الولادة أما المعني الاصطلاحي فيتعلق ببعث الحضارة التي أفلت كما يأفل القمر في المحاق . والذين يستخدمون هذا المصطلح يرون أن موتاً إكلينيكياً قد حل بأوروبا منذ سقوط روما عام 471 في أيدي البرابرة الجرمان، لتنقضي عشرة قرون مظلمة قبل أن يهل علي العالم مولود حضاري جديد، ألقي بذرته في رحم أوروبا الوصولُ إلي أمريكا عام 1492 واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح عام 1498 ثم البرهنة ُ عمليا ً علي كروية الأرض عام 1522 وما صاحب تلك الاكتشافات من انتعاش التجارة وازدهار الفنون وتغيير مناهج التعليم ... الخ فما لبث الجنين حتي أطل برأسه يطلب الدنيا ويلح في الطلب ، وسرعان ما تلقفته " قابلة " هي حركة الإصلاح الديني، التي أبطلت - بقوة الفكر والسلاح معا - هيمنة الكنيسة علي حياة وأفكار الناس، لتنفتح لهم بذلك الإصلاح الحاسم فضاءاتُ التفكير المستقل والتعبير الحر. وأما من تعهد ذلك الوليد بالتربية والتثقيف فكانت نزعة الحداثة Modernity التي اقترنت بالثورة الصناعية بداية من الاكتشاف الثوري: طاقة البخار التي حركت - بجانب القطارات والبواخر والعربات - الإمكانات ِ الذهنية َ الكامنة لدي البشر ، وما أن تحررت هذه الإمكانات حتي تألقت في هيئة اختراعات باهرة غير مسبوقة ونشاط تجاري عارم وتوجهات اقتصادية مائزة ، فكان طبيعيا ً أن تنسحب ثقافة اليأس والبلادة والخرافات مفسحة الطريق أمام تسيد العقل وتمجيد الفرد والإيمان بأن التقدم المطرد هو غاية التاريخ. مذهب الأصولية Fundamentalism أساس مذهب الأصولية هو الفهم البروتستانتي للعقيدة المسيحية -الذي انتشر في القرن العشرين وبالذات في أمريكا- ومؤداه أن الكتاب المقدس معصوم من الخطأ، ليس في مسائل العقيدة والأخلاق فحسب، بل وفيما يتعلق بالتاريخ البشري أيضاً، مثل قصة الخلق الواردة في سفر التكوين، ومثل خروج بني إسرائيل من مصر بعد أن أغرق الرب ملكها وجيشها في اليم، ومثل ميلاد السيد المسيح من السيدة العذراء كابن (بيولوجي؟!) للإله الأب، ثم صلب هذا الابن الإلهي وقيامته من الموت. ومن حيث ترفض الأصولية إعمال التأويل لمقاربة العقل والمنطق، فلقد صار علي "المؤمنين" أن يتقبلوا هذه "المعارف" حرفياً ودون نقاش. وبوجه عام فلقد وقفت الأصولية سواء في الغرب أو عندنا - بما هي ركون إلي الجمود المعرفي بيقينه الزائف، وسطحية إجاباته ، في وجه كل مطلب للديمقراطية حيث لا يمكن تحقيق مطالبها دون التزود بالمعرفة العلمية القابلة للنقد ونقد النقد دون توقف. فالديمقراطية في مستواها الفلسفي تعني رفض الجبرية، والإقرار بحرية الإنسان. وتعني علي المستوي السياسي: حاكمية الشعب باعتباره مصدر السلطة والتشريع. وأما مظاهرها فتتمحور حول حق التفكير والتعبير، وقيام المؤسسات علي مبدأ الانتخاب، بحيث يحكم ممثلو الأغلبية (السياسية وليس الدينية أو العرقية) حكماً قابلاً للتداول. فالأغلبية اصطلاح علي شرط تسعي جميع الأحزاب لتحقيقه كي تظفر بالحكم، وحين تفقده تتنازل عن السلطة طواعية لغيرها دون اللجوء إلي القوة. وكل هذا هو عند الأصولية ضرب من اللغو علي أحسن تقدير ، وفي اسوأ التقديرات هو نوع من الزندقة والمروق عن الجادة . كاثوليكية Catholicism لغويا ً تعني التحرر الفكري أو سعة الأفق في التفكير ، و في المصطلح تعني الكونية والشمول والتوجه إلي العالم بأسره . وهي بهذا المعني تقابل الأرثوذكس Arthodox الذين يؤمنون بأن الحق واحد وأن علي أتباعه عدم الانحراف بالخط القويم إلي متاهات لا لزوم لها . يعود استخدام مصطلح الكاثوليكية إلي زمن بولس الرسول الذي أسس للكرسي البابوي في روما ، وبموجبه تطورت الكاثوليكية بفضل "الكتابات" Writings باللغتين اليونانية والرومانية تأكيدا ً لسلطة المعرفة التي وظفت لخدمة الأباطرة وحلفائهم الباباوات والكرادلة ، وكان الغرض من هذه الكتابات دمج المسيحية بالدولة ، وهو ما وقفت ضده علي المفهوم العقيدة الأرثوذكسية (القويمة) القائلة إن يسوع يعد في عالمنا الأرضي التجسد الإلهي للكلمة الربانية (الشفاهية) مما يقتضي الإعراض عن " الكتابات " بل ومقاومتها لكونها تسخر العقيدة الدينية لخدمة السياسة . ومن هنا جاء تمسك الإسكندرية بمبدأ فصل الدولة عن الدين عملا بقول يسوع : دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ، وهو المبدأ الذي لم تحد عنه كنيسة الإسكندرية الأرثوذكسية بدءاً من مؤتمر نيقية ( 325 م . ) ومنذ عهود آبائها العظام إثناسيوس ودسقوريس وكيرلس وحتي يومنا هذا . منهج علمي Scientific Method العلم هو المعرفة المنظمة المتعلقة بالطبيعة وبالمجتمع البشري وبالفكر ذاته ، وهذه المعرفة تتميز بكونها مستخلصة من القوانين الموضوعية والتي يتم اكتشافها من خلال البحث في خصائص كل ظاهرة علي حدة . ولهذا فالعلم مختلف عن مجرد المعرفة السطحية بفضل اتباعه لمنهج خاص قائم علي البرهنة ، إضافة إلي تميزه بالارتكان علي مصطلحات منضبطة . فما خصائص هذا المنهج ؟ 1- سعيه لوصف الظاهرة عن طريق الملاحظة والتجربة وليس علي أساس التخمين . 2- استخلاصه للقوانين المتعلقة بالظاهرة وذلك عن طريق الاستقصاء Investigation . 3- قيامه ببناء الفروض الضرورية لبدء رحلة البحث . 4- إصراره علي التحقق من النتائج التي يتوصل إليها البحث باختباره لصحة النتيجة وعدم وجود تناقض بين الأجزاء ، ثم عرض تلك النتائج علي الواقع ما أمكن . فتشية السلعة Fetishism في البداية جري افتراق الإنسان عن الطبيعة ، وهو بالضبط ما ترتب عليه ظهور الثقافات واندماج الأفكار في نسيج الحياة العملية تفسيرا ً للظواهر وتدبرا ً لخصائص المادة ، وغالبا ً ما كانت هذه التفسيرات خاطئة جراء نشوئها في ظل ثقافات غير علمية . وتأتي قيمة السلعة ضمن هذه التفسيرات الخاطئة حتي صك ماركس مصطلح فتشية السلعة . وهو مصطلح اقترحه فيلسوف المادية التاريخية قياسا علي فتشية الطبيعة، أي الأرواحية، التي تعني إسقاط الروح علي أشياء جامدة لكنها حرّكت مشاعر الإنسان القديم كالأشجار والجبال والحجارة ، ومثال علي ذلك أن أقواما ً من البدائيين كانوا ينحتون ملمح وجه علي قطع من الأحجار ويسمون هذا المنحوت إله الضحك ، فما أن يحدق فيه الناظر حتي ينفجر بالقهقهة ! وقد فكر ماركس في أن هذه الخاصية السيكولوجية انتقلت من عالم السحر والممارسات شبه الدينية إلي العصر الحديث مع ظهور الصناعة التي تكرّر المنتَج بشكل آلي ليخرج إلي السوق مطابقا ً لكل وحداته في الهيئة والنوع ، ويجري هذا بأساليب تغطرش علي إدراك المستهلك للكيفية التي صنعت بها تلك الوحدات، حتي ليخيل إلي الناظر أنها - أي السلع - قد وجدت من ذاتها بشكل مستقلّ عن النشاط البشري. وفي هذا الصدد هناك مزحة تقول إن الأمريكيين متأكدون من أن البن ينمو في أدراج دولاب المطبخ ! ولعل الفتشية هي ما يميز عالم الصناعة الحديث حيث نراها أوضح ما تكون في صناعة السينما التي توهم المتفرج أنه هو والبطل القوي معبود النساء كيان واحد ، كذلك نراها متجسمة في الواقع الافتراضي virtual Reality