يا ديوك مصر الصياحة سنصدق أنكم صنعتم لنا فجراً جديداً.. ويا «هالوك مصر» رحماك بأبنائنا استضافتني القناة الخامسة مساء يوم في أوائل فبراير الماضي لأشارك في الحديث عن هذا الحدث العظيم، ثورة 25 يناير 2011، وسألني مقدم البرنامج الشاب عن توقعاتي للثورة وآمالي المتعلقة بها، فقلت له إنني خائفٌ عليها من نوعين من الكائنات الحية، أحدهما حيواني، هو (الديك)، والثاني نباتي، هو (الهالوك)؛ فاستغرب الشاب، فأوضحتُ له أن خوفي علي الثورة من صنف من الناس فيهم من الديوك المظهر البراق والاعتداد الزائد عن الحد بالذات، وهم لا يملكون إلا صياحا كصياح الديكة، يطلقونه في الفضاء متخيلين أن الدنيا كلها تنتظره، وأن صياحهم عند الفجر هو المسئول عن انبلاج بشائر ضوء النهار الوليد، وبغير هذا الصياح لا يأتي فجر، ولا تعرف الحياة نهارا؛ وحقيقة أمرهم أن صياحهم إن هو إلا إعلان صوتي بفرض سطوتهم علي بضع دجاجات مسكينات، ينتظرن تلقيح بيضاتهن، لا أكثر ! ومن أغرب الديوك الذين مررتُ بهم، (نصف شاعر) سمعته يتحدث في برنامج تليفزيوني، في أكتوبر الماضي، فألقي بعض نظمه، وقال عنه إنه قصيدة كتبها قبل أيام من حرب أكتوبر 1973، فقامت الحرب وتحقق لنا ما تنبأ به في كلماته المنظومة من انتصار؛ وأنا أعرف أن عمره في ذلك الوقت لم يكن يتعدي العاشرة؛ وهو قد جمع هنا بين سلوك الديكة، والكذب. وقد ترددت في الآونة الأخيرة، وبعد أحداث ثورة يناير، صيحات الديكة، فوجدنا سياسيين يرددون تصريحات تكاد تتشابه في مكوناتها من الكلمات، وأهم كلمة فيها هي (أول)، فهذا هو (أول) من تصدي لكذا، وذلك هو (أول) من نادي بكذا، وثالث هو (أول) من ناله الأذي بسبب كذا، ورابع، وخامس، وسادس ... أسماء عديدة لشخصيات ووجوه فرضتها علينا، صباح مساء، وبإلحاح وسماجة، الآلة الإعلامية المقروءة والمرئية والمسموعة، حتي تساوي وقعهم علينا مع وقع ما تتعرض له أسماعنا وأبصارنا من نتاج فني وإعلامي متدن، كان أحد أدوات تكريس مناخ الفساد في نصف قرن مضي. الواضح أن هؤلاء الديوك الذين كانوا - في تصورهم لذواتهم - أول من صاح ليطلع النهار، إنما يسعون إلي مغنم من مغانم، أو نصيب في كعكة يتخيلون المتلمظين يتقاطرون ويحيطون بها؛ وكان الأولي بهم، إن كانوا مناضلين حقيقيين، أن ينأوا بأنفسهم، تنزها وترفعا، عن محاولات اجتذاب أضواء ليست لهم، وإنما هي لمن قام بفعل الثورة من شباب مصر، إعدادا وتخميراً واحتشاداً لها في صفحات الفيس بوك وغيره من مجالات الإنترنت الاجتماعية، ثم حقلياً، وفي خطوط المواجهة، في التحرير، والسويس، وجامع إبراهيم، وغيرها من مواقع عديدة غطت أرض الوطن كله. وحتي إن افترضنا صحة (أولويتهم)، فليتركوا إثبات هذه الصحة للتاريخ الذي لا تغفل عيناه، ولا تنجح معه محاولات الطمس والتدليس، مهما طال الزمن. كما أن المنتظر من هؤلاء المناضلين الأوائل أن يهنأوا بما ترتب علي نضالاتهم، وأن يكون في ذلك ما تقرُّ به أنفسُهم. ولكن أمرَ الكثيرين منهم يخرج عن نطاق النموذج السوي إلي حالة المرض، فذواتهم متورمة، وورمُها، غالبا، غير حميد. ولو كان لإنجازاتهم النضالية أثرٌ باقٍ لكان ثوار مياديننا اليانايريون هم أول من التفت إليهم وجاءوا بهم ليعززوا بهم المسيرة، علي نحو ما فعل (ميدان التحرير) مع أحد أصحاب المواقف، هو الدكتور عصام شرف، الذي لم يتلفع بوشاح الديوك، ولم تتطاول رقبته متصايحاً، وإنما امتدت إليه أيادي الثوار لتأتي به من (معتزله) الذي كان يلفه الصمت، وتلقي علي عاتقه مسئولية تسيير أمور البلاد في تحولاتها التاريخية؛ فهو رجل مواقف ومبادئ من معدن أصيل، وقد (جيء به)، لا لمغنم، ولا ليكافأ علي موقف سابق له، لم يعلق كثيرا بذاكرة ملايين من المصريين الذين طحنهم لعقود طويلة سعيهم من أجل رغيف خبز صالح للاستخدام الآدمي، وإنما ليعطي. أنبياء الثورة وكما كان للسياسيين ديوكهم، رأينا الأدباءَ الديوكَ، الذين تدافعوا بنرجسية يحسدون علي درجة تضخمها، يثبتون - لأنفسهم فقط ، غالباً - أنهم أنبياء هذه الثورة، الذين بشروا لها وبها في أعمال كتبوها ولم يسمع بها أحد. والمؤسف في الأمر أن صيحات ديوك الأدباء كانت تصدر من مبدعين، يروجون لأعمال لهم، وكان الأجدر بهم والأولي أن يتركوا المهمة لدارسي الأدب ونقاده لينوهوا إلي صيحات وتنبؤات ديوك الأدباء وأنبيائهم، لكن هؤلاء لم يلتفتوا لهم، وفي ذلك ما يثبت خفوت صيحة الديك وتهافت النبوءات في الأعمال التي أشار إليها أصحابها. وقد غاب عن فهم أصحاب هذه الادعاءات أن النصوص الأدبية - حسب قول واسيني الأعرج - لا تصنع الثورات ولكن تصنع الذهنيات التي تقوم بها؛ فالفعل الروائي تراكمي تأتي تجلياته لاحقاً؛ فقد نبعت الثورة الفرنسية من "فلسفة الأنوار"، التي لم تحرر فرنسا في اللحظة نفسها التي أنتجت فيها هذه الأفكار، وإنما بعد استيعاب الناس لها. إن في هذه الادعاءات من بعض كتَّاب الرواية والقصة شبهة متاجرة، لا يليق أن تدخل كنغمة ناشزة في المعزوفة العبقرية التي شهدها مسرح ميدان التحرير في يناير 2011؛ فالأعمال الأدبية لا تشعل ثورات، كأنها عيدان الثقاب تشعل فتيلاً، وإنما يحتاج الأمر إلي تمثل لقيم العمل الأدبي، تماماً كما يتمثل الجسم الغذاء، بعد هضمه وامتصاصه، شريطة أن يكون العمل الأدبي مكتمل البناء ممتعا، ليساعد في تشكيل فعل ثوري، بعد زمن يطول او يقصر حسب شدة الحاجة إلي أن يتفجر هذا الفعل. الهالوك هذا عن الديوك، فإن تحولنا إلي الهالوك وجدنا ما هو أفدح وأشد وطأة؛ فكل ما بيد الديوك صياحٌ مُجرد؛ أما الهالوكُ، الذي يستمدُّ اسمه من مصدر الهلاك، ومن الفعل (أهلَكَ)، فهو شرٌّ خالص، مظهره مخادع، إذ إن له هيئة النبات، ويزيد علي النباتات الاعتيادية بألوان زاهية، وهو بري، أو (شيطاني) - والتسمية العامية أبلغ، إذ تنسبه إلي سلوك الشياطين- تجده في أي مكان وزمان بالحقول المزروعة. ولا تشتمل ألوانه علي الأخضر الصريح، لون الزرع الطيب، إذ إنه لا يحتوي علي مادة الكلوروفيل، أو اليخضور، وهي أهم آلات المصانع النباتية العظيمة، المهيأة للعمل بالطاقة الشمسية، تستمدها من الشمس، وفي وجود الماء الصاعد إلي خلايا النبات محملاً بالأملاح المغذية الأساسية، ومع وفرة من غاز ثاني أكسيد الكربون في الهواء الجوي - وما أكثره في هواء الأرض الفاسد - لتتخلق المادة السكرية، الغذاء الأساس لكل الكائنات الحية علي سطح البسيطة. فالهالوك لا يعرف اليخضور، فلا حاجة له بها، فهو لم يعتد علي صنع غذائه، وإنما يحصل عليه (جاهزا) من نباتات خضراء، وقد أعد نفسه للسطو علي جهد هذه النباتات، فاكتسب مهارة الاقتراب منها، وتحصل علي أدوات خاصة، هي ممصات مهيأة لاختراق أجسادها الغضة وسحب عصارتها السكرية التي قضت نهارات طويلة تصنعها. وليته يفعل ذلك لبرهة ثم يذهب لحاله، لا سامحه الله، ولكن ممصاته لا تبارحُ جسم فريستها إلا وقد ذوت وأشرفت علي الهلاك أو هلكت فعلاً. ألا ترون، أيها الأصدقاء، أعزكم الله، أننا رأينا بعض تفاصيل هذه الصورة تتجسد أمامنا عقب 25 يناير؟. صحيح أن الحابل قد اختلط بالنابل، ولكن هناك أحوالاً واضحة هي لبشر هالوكين، شمروا عن ممصاتهم، وانتشروا في حقل الثورة، وراحوا، بالفعل، يمتصون من نباتاتها الحقيقية الخضراء ما توفرت علي صنعه أمدا طويلا. وقد أثبت الهالوكيون البشرُ أنهم أشد إهلاكا وشراهة من هالوك الحقول الزراعية، فالأخيرُ صريحٌ واضحٌ، يمكن للمقاومة الميكانيكية أن تقتلعه، أما النوع البشري من الهالوك فمخادع، يعمل جانبٌا منه لصالح أعداء الثورة، ومن أجل أن يعيد عقارب الساعة إلي الوراء، في محاولات يائسة، لإدراكه أن ذلك مستحيل؛ ويرتدي جانبٌ آخر منه مسوحَ المؤسسة الأبوية التي أسرعت تفتح أحضانَ (الأرملة السوداء) لأبنائها الشباب، مفترضة فيهم أنهم (قُصَّر)، فارضة ولايتها، غير منتبهة - أو ربما متعمدة - أن ممصاتها تغوصُ في كياناتهم المتفجرة دماءً حيويةً. لقد كان ذلك ما دعاني إلي أن أوجه لشباب الثورة، في أيامها الأولي، نداءً أن يتأسوا بشباب ثورة 68، فيرفضوا الآباء، متمثلين في مختلف أنواع الوصايات : السياسية والاجتماعية والثقافية (لقد رفض شباب 68 آباءهم العضويين، حتي، وغادركثيرٌ منهم بيوتَ أسرهم، رافضين هؤلاء الآباء بقيمهم وأفكارهم التي انتهت بالعالم إلي الحرب العالمية الثانية بكل أهوالها). وحاولوا أن تجردوا الصورة من بعض تفاصيلها الزائدة، تجدوا أن شيئا كبيرا من سبب الفوضي الحاصلة الآن مردودٌ إلي هذه (الرحمة الأبوية) الهالوكية. فيا ديوكَ مصر الصياحة، شكرا لكم، سنصدقُ أنكم صنعتم لنا فجرا جديدا. ويا هالوك مصر، رحماك بأبنائنا، الذين من حقهم أن يأخذوا فرصتهم كاملة، بغير صياح إضافي، وبمأمن من ممصاتكم، باطنها وظاهرها، ليصنعوا حياة لن نعيشها معهم، هي حياتهم هم، بأسلوبهم هم، ولنغتنم ال (كايروس)، أو الفرصة المواتية السانحة، التي قد لا تتكرر، والتي إن ضاعت خسرنا معها كل شيء.