"الوفد الأسبوعي" قضت يوماً كاملاً بين هؤلاء لتعرف ماذا غيرت فيهم ثورة يناير. ذهبت إلي مستشفي العباسية للأمراض النفسية والعقلية وأمام البوابة استوقفني أفراد الأمن وسألوني إلي أي عنبر أريد أن أذهب، فقلت أريد العنبر الحريمي المجاني، فطلب مني مقابل التذكرة، أخذتها ثم تركته وذهبت إلي العنبر، وهناك وجدت سيدات بمختلف الأعمار ولفت انتباهي سيدة تجلس في الحديقة وتنظر إلي السماء وكأنها تدعو الله بأن يكشف هذه الغمة عن مصر فذهبت إليها وجلست معها ونظرت لي والدموع تسيل من عينيها، ثم قالت: انتي مين؟، أجبتها: هانم، فضحكت وقالت: أمي اسمها »هانم« الله يرحمها فسألتها عن اسمها هي الأخري، فأجابت: »صباح« فسألتها عن عمرها فقالت: عندي 55 سنة، اندهشت من إجاباتها السريعة وحمدت الله علي عثوري علي سيدة عاقلة إلي حد ما، سألتها: عرفتي باندلاع ثورة في مصر، فقالت وهي خائفة: ما تتكلميش أحسن يكهربوكي ويضربوكي، فسألتها: مين اللي يكهربني، فقالت الممرضات والدكتور، فقلت لها ليه هو انتي عملتي مظاهرة، فقالت والله ما أنا، أنا كنت واقفة بعيد وبعدين شوفنا المظاهرات في التليفزيون طلعت رضا وسعاد وسميرة وكلهن فضلن يخبطن في الأبواب ويقولن خرجونا، وبعدين جاء الدكتور والممرضات فضلوا يضربوا فيهم وضربوني أنا كمان، ودخلونا جوه وكهربونا وأعطونا حقن ماحسناش بحاجة إلا في في تاني يوم، ثم قالت والنبي اديني جنيه اشتري سيجارة، فقلت لها بس ده ممنوع، فقالت لأ الراجل ده اللي هناك بيبيع السيجارة بجنيه فأعطيتها وتركتها وانتقلت إلي حديقة أخري كانت مليئة بالسيدات ذهبت إليهن، ولكن استوقفتني ممرضة تدعي ليلي فقالت لي خير حضرتك عاوزة حاجة، فقلت لها إنني جئت لأعرف ما يحتاجه المرضي وأحضره لهم كنوع من أنواع التبرع، كما أريد أن أقضي يوماً معهم فقالت اتفضلي، وكانت تريد أن تجلس معي ولكنني طلبت منها أن تذهب لكي تحضر لي قائمة بالأشياء التي تريدها حتي أتمكن من الحديث معهن، وبالفعل ذهبت وجلست أشاهد كل سيدة وفتاة منهن وقفت حياتها عند هذا المكان وفجأة وجدت صوتاً بجواري، فالتفت وجدت سيدة مسنة تدعي زينب وتتحدث الإنجليزية بطلاقة وتسألني عن اسمي وعن عمري وعن أشياء كثيرة وكل هذه الأسئلة كانت بالإنجليزية وعندما أجبتها جلست بجواري وطلبت مني أن أعطيها يدي لكي تقرأ لي الكف، وأول ما مسكت يدي نظرت لي وبكت وقالت ليه حزينة ودايماً بتبكي خط العمر بتاعك طويل وهاتحجي أنتي ووالدتك قريب، انتي بتعملي هنا إيه فقلت لها أنا هنا علشانكو فضحكت وقالت أنا عارفة، فسألتها وانتي هنا ليه فقالت ولادي جابوني هنا علشان ماليش مكان عندهم وأخذت تبكي وتتمتم ببعض الكلمات التي لم أفهمها ثم سألتها عن الثورة وهل لديها علم بها أم لا، فقالت وهي خائفة اوعي تتكلمي عن الموضوع ده أحسن يعذبوكي زي ما عذبونا فسألتها عن نوع العذاب فقالت الكهربا، وأخذت تردد الكلمة كثيراً، ثم نظرت لي والخوف يملأ عينيها وتركتني ورحلت، وجاءتني سيدة أخري تدعي مريم وأخذت تبتسم فطلبت منها بأن تجلس بجواري وجلست وهي تقول انتي جميلة قوي وتضحك بصوت عالي، ثم قلت لها ألم تعلمي يا مريم بأن الرئيس مبارك رحل فقالت أحسن طب والحاجة لسه غالية، فسألتها أي شيء تريدين أن ينخفض سعره فقالت السجاير، السيجارة بجنيه هنا، جاءت الممرضة ليلي وهي تحمل لي الأشياء التي تريدها ثم أخذت منها الورقة وتركتها علي موعد مجدد، وذهبت إلي قسم الرجالي وهناك استوقفني صلاح المشرف علي القسم وسألني عن سبب وجودي فقلت له جئت لكي أتبرع للقسم فقال إحنا محتاجين تليفزيون وريسيفر وملابس وأحذية، فطلبت منه بأن يحضر لي ورقة ويكتب فيها كل ما يريده وطلبت منه بأن أجلس مع المرضي وأقضي يوماً في العنابر فتركني، ودخلت أحد العنابر ووجدت رجلين مسنين جالسين يستمعان لخطبة الجمعة، وعندما حاولت أن أتحدث معهما فقال لي أحدهما روحي خلصي المظاهرة وبعدين تعالي فقلت له المظاهرة خلصت، فضحك وقال مش هاتخلص بيضحكوا عليكي وأخرجي بقي علشان نسمع الخطبة، ودخلت عنبراً آخر وجدت فيه مجموعة من الشباب يجلسون علي السرير ويلعبون الشطرنج فنظروا لي وقال لي أحدهم انتي جاية من ميدان التحرير فقلت لا، فقال يا خسارة كان نفسي أروح هناك بس هما رفضوا فسألته من الذين رفضوا، فقال الأطباء أعداء السلام، فاقتربت منه أكثر عندما شعرت بأنه يدري بكل ما يدور حوله وجلست بجواره وسألته بداية عن اسمه فأجاب »أحمد« وطلب مني أن أبلغه عما يدور في مصر وآخر الأخبار فأجبته، فصمت قليلاً وقال أنا أفدي بلدي برقبتي بس أنا زعلان منها قوي ونظر إلي الأسفل وقال ابتهدلت فيها واستحملت كل حاجة منها علشان بحبها، وفي الآخر جابتني هنا وأخذ يبكي ويصرخ بحرقة وعندما قمت بتصويره لمحني وطلب مني بأن أنشر صورته في مجمع التحرير باعتباره شهيداً، تركته واتجهت إلي شاب آخر يدعي وليد، كان ينظر لي والحزن يملأ عينيه وقال انتي تعرفي أمي؟ فقلت لا، فقال كويس إنك ما تعرفيهاش أصلها كانت قاسية قوي عليا واتجوزت خمس مرات فقلت له طيب وإيه رأيك في مبارك، فأجاب مبارك كان عاوز يتجوز أمي بس أنا رفضت فقلت له ولم رفضت، فأجاب أصله كان مجوع الشعب يبقي مش هايجوع أمي؟! فسألته عن قيامه بعمل مظاهرة أم لا فقال كلنا هنا عملنا مظاهرة وكسرنا الأرصفة والشجر علشان نضربهم بالحجارة فقلت له تضرب مين فقال نضرب الرئيس الدكتور اللي هنا، وأخذ يضحك ويصرخ وينادي علي أمه ويقول »ليه تتجوزي وتسبيني ليه يا ظالمه«، وتركته مع صراخه وذهبت إلي عنبر آخر ووجدت هناك رجلاً في عقده الرابع ويدعي إسماعيل وشهرته داخل المستشفي »الخديو إسماعيل« فجلست بجواره ووجدته ينظر لي بحدة وسألني لماذا تجلسين بجواري فقلت له أريد أن أتحدث معك فقال خلاص خلص الكلام، اتكلمنا كتير وماعدش فيه فايدة فسألته عن سبب وجوده هنا فقال أنا هنا طول عمري فقلت له وماذا كنت تعمل فقال أنا كنت حاصل علي شهادة كبيرة جداً ولاقيت نفسي بشتغل سواق تاكسي منهم لله وكل ما أشكي حد يقول عليا مجنون وروحت أعمل محضر لمبارك في القسم جابوني هنا، ومن ساعتها ماخرجتش فقلت له ولماذا كنت تريد أن تحرر محضراً ضد مبارك؟ فقال علشان ظلمني وظلم كل الناس للي بيذاكروا وبيسهروا الليالي وفي الآخر بيشتغلوا سواقين، طب ده يرضي مين فقلت له وهل قمت بعمل مظاهرة فقال طبعاً، وطلبت منه أن يكمل ولكنه صمت وأخذ ينظر لي ثم قال انتي من أمن الدولة وجايالي هنا علشان تقبضي عليا وعندما وقف وأراد أن يخنقني أخذت أجري، ثم انتقلت إلي العنبر الخاص ورأيت سيدة تقف في الشباك وسألتها عن اسمها فأجابت اسمي أميمة فطلبت منها بأن أصعد لها لكي أجلس معها في غرفتها فقالت تعالي منتظراكي وهي تبتسم فصعدت لها ووجدت سيدات كثيرات جالسات ودخلت لها ووجدت أمامي سيدة ارستقراطية جداً تبدو في العقد الخامس، فقالت تعالي يا حبيبتي اتفضلي فسألتها عن عمرها فقالت مش من الاتيكيت إنك تسألي ست عن عمرها، سألتني عن اسمي فقلت لها اسمي »هانم« فقالت انتي جاية ليه يا »هانم« فقلت لها جئت لكي أجلس معك فقالت أخرجي من هنا واهربي من مصر، مصر كلها مافيهاش أمان، فقلت لها هل تعلمي بأن مبارك رحل فقالت إلي أين ذهب فقلت لها إلي شرم الشيخ فضحكت وقالت وهو لما يروح شرم الشيخ يبقي رحل ما هي شرم الشيخ مصر يا هانم، احنا عاوزينه يمشي من مصر خالص، فقلت لها طب ليه ماعملتيش مظاهرة بكده، فقالت أصل العنابر المجاني عملوا مظاهرة، ولما جينا ننضم لهم جاء الطبيب وأعطانا حقن منومة ولم نشعر بأنفسنا إلا في اليوم التالي فسألتها عن سبب وجودها هنا فقالت: أنا هنا علشان السياسة زوج شقيقتي لواء شرطة وأنا كنت دائماً انتقد ضباط الشرطة ووزير الداخلية وفي يوم تشاجرنا معه فقرر أن يضعني هنا وبصراحة أنا هنا مرتاحة لا نفاق ولا خيانة ولا غش، وطلبت مني بأن أرحل لأنها تريد أن تنام، تركتها وأنا أردد بعض كلماتهم »هنا يعيش العقلاء الحقيقيون الذين لم تقو ضمائرهم علي تحمل سنوات ظلم النظام السابق«.