بالصور والفيديو| الآلاف يؤدون صلاة عيد الأضحى المبارك بمركز شباب بشتيل    بالصور.. شلالات البالونات ترسم البسمة على وجوه الأطفال في بورسعيد    محافظ القليوبية يوزع الورود ويلتقط الصور التذكارية مع المواطنين احتفالًا بعيد الأضحى.. صور    الألاف يصلون صلاة عيد الأضحى في مجمع أبو العباس بالإسكندرية    القنوات الناقلة لمباراة إنجلترا وصربيا في كأس أمم أوروبا يورو 2024    ترتيب هدافي الدوري المصري قبل مباراة المقاولون العرب وطلائع الجيش    توافد آلاف المصلين على ساحة مسجد السلطان لأداء صلاة عيد الأضحى المبارك    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم على طريق بحيرة قارون السياحي بالفيوم    بالصور والفيديو.. توافد الآلاف من المصلين على مسجد خاتم المرسلين بالهرم لأداء صلاة العيد    عاجل - بث مباشر شعائر صلاة عيد الأضحى المبارك 2024 من مسجد السيدة زينب    بسبب صلاة العيد، زحام مروري بمصر الجديدة (فيديو)    بدء توافد مواطني الأقصر على ساحة أبو الحجاج لأداء صلاة عيد الأضحى (بث مباشر)    محمد رمضان يحقق 80 ألف مشاهدة بأغنية العيد "مفيش كده" في ساعات    الاحتلال يمنع الفلسطينيين من دخول المسجد الأقصى قبيل صلاة عيد الأضحى (فيديو)    الرئيس السيسي يشيد بحسن تنظيم السلطات السعودية لمناسك الحج    العليا للحج: جواز عدم المبيت في منى لكبار السن والمرضى دون فداء    الحجاج يرمون جمرة العقبة الكبرى فى مشعر منى    حماس: نتنياهو يراكم كل يوم العجز والفشل.. والحقائق تؤكد انهيار جيش الاحتلال    قوات الاحتلال تمنع مئات الفلسطينيين من الوصول إلى المسجد الأقصى لأداء صلاة الفجر    أنغام تحيي أضخم حفلات عيد الأضحى بالكويت وتوجه تهنئة للجمهور    محافظ جنوب سيناء يشارك مواطني مدينة الطور فرحتهم بليلة عيد الأضحى    ريهام سعيد: «أنا عملت عملية وعينيا باظت ومش محتاجة حد يصدقني» (فيديو)    لإنقاذ فرنسا، هولاند "يفاجئ" الرأي العام بترشحه للانتخابات البرلمانية في سابقة تاريخية    الجمعية المصرية للحساسية والمناعة: مرضى الربو الأكثر تأثرا بالاحترار العالمي    ريهام سعيد: محمد هنيدي تقدم للزواج مني لكن ماما رفضت    ننشر موعد صلاة عيد الأضحى المبارك لعام 1445ه‍    تعرف على سنن وآداب صلاة عيد الأضحى المبارك    عيار 21 الآن وسعر الذهب اليوم في السعودية الاحد 16 يونيو 2024    متلازمة الصدمة السامة، ارتفاع مصابي بكتيريا آكلة اللحم في اليابان إلى 977 حالة    مع زيادة الطلب على الأضاحي.. تعرف على أسعار اللحوم اليوم الأحد    طقس أول أيام العيد.. أمطار وعواصف تضرب الوادي الجديد    دعاء لأمي المتوفاة في عيد الأضحى.. اللهم ارحم فقيدة قلبي وآنس وحشتها    موعد صلاة عيد الأضحى المبارك في القاهرة والمحافظات    93 دولة تدعم المحكمة الجنائية الدولية في مواجهة جرائم إسرائيل    «الغرف التجارية»: زيادة الاحتياطى يزيد من ثقة المستثمرين    «الموجة الحارة».. شوارع خالية من المارة وهروب جماعى ل«الشواطئ»    أثناء الدعاء.. وفاة سيدة من محافظة كفر الشيخ على صعيد جبل عرفات    مش هينفع أشتغل لراحة الأهلي فقط، عامر حسين يرد على انتقادات عدلي القيعي (فيديو)    استقبال تردد قناة السعودية لمشاهدة الحجاج على نايل سات وعرب سات    عاجل.. رد نهائي من زين الدين بلعيد يحسم جدل انتقاله للأهلي    «التعليم العالى»: تعزيز التعاون الأكاديمى والتكنولوجى مع الإمارات    تأسيس الشركات وصناديق استثمار خيرية.. تعرف علي أهداف عمل التحالف الوطني    دعاء النبي في عيد الأضحى مكتوب.. أفضل 10 أدعية مستجابة كان يرددها الأنبياء في صلاة العيد    غرامة 5 آلاف جنيه.. تعرف علي عقوبة بيع الأطعمة الغذائية بدون شهادة صحية    تشكيل غرفة عمليات.. بيان عاجل من "السياحة" بشأن الحج 2024 والسائحين    كرة سلة.. عبد الرحمن نادر على رأس قائمة مصر استعدادا للتصفيات المؤهلة لأولمبياد باريس    «المالية»: 20 مليون جنيه «فكة» لتلبية احتياجات المواطنين    إلغاء إجازات البيطريين وجاهزية 33 مجزر لاستقبال الأضاحي بالمجان في أسيوط    ملخص وأهداف مباراة إيطاليا ضد ألبانيا 2-1 في يورو 2024    خوفا من اندلاع حرب مع حزب الله.. «أوستن» يدعو «جالانت» لزيارة الولايات المتحدة    شيخ المنطقة الأزهرية بالغربية يترأس وفداً أزهرياً للعزاء في وكيل مطرانية طنطا| صور    عاجل.. عرض خليجي برقم لا يُصدق لضم إمام عاشور وهذا رد فعل الأهلي    عاجل.. الزمالك يحسم الجدل بشأن إمكانية رحيل حمزة المثلوثي إلى الترجي التونسي    تزامنا مع عيد الأضحى.. بهاء سلطان يطرح أغنية «تنزل فين»    للكشف والعلاج مجانا.. عيادة طبية متنقلة للتأمين الطبي بميدان الساعة في دمياط    حلو الكلام.. لم أعثر على صاحبْ!    بمناسبة العيد والعيدية.. أجواء احتفالية وطقوس روحانية بحي السيدة زينب    فحص 1374 مواطنا ضمن قافلة طبية بقرية جمصة غرب في دمياط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة المصرية.. الشعب أراد ما يعرفه عن الحياة
نشر في القاهرة يوم 10 - 05 - 2011

ان نفقد احترامنا لأنفسنا هذا ما عمل عليه نظام مبارك علي مدي 30 عاماً ليصبح كل شيء بعد ذلك مقبولاً، ما الذي يعني شخصاً فقد شعوره بالكبرياء الشخصي، لا شيء، كل ما تعلمه كان خطأ وهذه الحياة لا تخصه، ما اعتقد فيه من أفكار كان بعض ضلال وما تصرف به في تفاصيل حياته لم يكن «واقعياً» حتي الصداقات التي بناها ودفع فيها قسطاً من العمر والعاطفة تنحلّ وحدها، والفقر الذي كنا نسميه فقراً نبيلاً، بمعني انه يغذي أهدافنا المعنوية في الحياة ويعلي من طموحنا لم يعد نبيلاً.. لم يعد الفقراء سوي حثالة يلحقون بأنفسهم من الإهانات والمذلة ما أمكنهم.. كل معني صار يوضع في كفة، وما يزنه من الفلوس في الكفة الأخري، وبما أن المال طرف في الموضوع فلا نهاية للأمر، لأنه سقف بلا سقف، وهناك دائماً من يملك أكثر، كل ما علينا كمصريين ان نشعر أنفسنا بأنفسنا بأننا بلا قيمة حتي بتنا ننوب عن نظام الحكم وإعلامه وتعليمه في تحقير شأننا بأنفسنا لتسود عبارات من نوع لا هي بلدنا ولا لنا حاجة فيها، النظام مش هيحط ورا كل عسكري عسكري يراقبه، وكيفما تكونوا يولّي عليكم، وربما يخرجنا منها علي خير، وهذه علامات علي غضب الله علينا، واحنا شعب واخد علي العبودية.. إلخ، بينما كانت مصر تخضع لأبشع عملية تدمير منظم وتخريب منهجي. الفلوس تسرق منها بالساعة، كل ساعة يسرق من أموال المصريين 14 مليون جنيه لتوزع علي أركان النظام ورجاله، يعني الساعة واقفة عليهم بفلوس وعلينا بالمزيد من تآكل الذات والنكوص الاجتماعي والنفسي، وتحلل هيكل الدولة، قدرة شيطانية علي التدمير تتدني بالأزمة كثيراً عن مستوي الإنقاذ الأيديولوجي والثقة بجدوي الأفكار الكبري، أو الصغري. لم تعد الأزمة ان نكون إسلاميين أو علمانيين أو اشتراكيين أو قوميين، الموضوع أقل من هذا بكثير، ان نكون أولاً في دولة بجد لها جسم وأطراف ورأس ومؤسسات ، حالة أطلق عليها الشاعر أحمد عقل: مصر يتم هدمها ومبارك مقاول هدد. هكذا باختصار. الشعب يريد المهم انه وسط هذا التحلل- بالمعني البيولوجي- كان ينقح علينا الشعور، بين الحين والحين، نفيق قليلاً جداً من التوهة فنختلف، ونختلف ثم ننتكس، ونعد أفكارنا- التي هي جميعاً صحيحة- وصداقاتنا التي هي جميعاً صداقات، وحبيباتنا اللائي هن جميعاً قريبات إلي قلوبنا، وكتبنا ومكتباتنا وأقرباءنا، نعدهم مسئولين عن ضلالنا في الحياة، هكذا في نكوص طفولي آخر. القطة التي تمثل دور القطة كم تساوي أنت؟ وكم أساوي أنا؟ صارت المعادلة هكذا، رخصنا جداً كي ننتهي إلي القول إن هذه الحياة ليست إلا أكذوبة مسرحية، وهكذا مضي جيلي بفتور وربما بغير القدرة داخلاً إلي الزمن الجديد منتوياً ان يقوم بأشياء أخري، يلحق أي حاجة من الزمن بعدها أهدر الكثير من العمر والعقل والبشر في طريق ملخبط وكاذب، نلحق قبل ان نفقد كل شيء، نلحق الزمن الجديد الذي كان يبتدئ - يقيناً- قبل مبارك بسنوات وتتضح معالمه - يقينا أيضاً- منذ أوائل التسعينات إبان حرب الخليج الثانية - حرب تحرير الكويت- زمن انفجر وراح يسحّ مثلما يسحّ البكابورت علي النفوس والذاكرة، وطبعاً المصائر زمن قانونه الانحطاط الإنساني الكامل عقلاً وأداءً وأهدافاً وأخلاقاً، باختصار زمن يخلو من القيمة فلا قيمة للعمل أو للاجتهاد أو للموهبة أو للمعاني التي تمسك بالبشر كالأخوة والشرف والصداقة والحب والكرامة الشخصية إلي آخره، مع فقدان كامل للثقة بذاكرتنا وما تعلمناه أو عرفناه، محو بأستيكة جهنمية مع أنه كان يمكنهم ان يسرقوا بدون ان يلحقوا كل هذا الدمار بالوطن، لصوص جهلة وشديدو الشر. المهم ان أمة بكاملها صارت ضالة فاقدة الثقة بالذات لم يعد بمقدور أحد ان يطلق طاقته الحقيقية، وانسحب من انسحب وهنا يمكننا ان نعد المئات وليس العشرات من أعظم وأنبل العقول التي اختارت الموت، نعم فالموت فعل إرادي تماماً مثل الحياة، ومن بقي اللي همه احنا لم يجد غير ان يحاكي ما يفعله الآخرون «السالكون في الزمن الجديد» فيختار نموذجاً غيره لما ينبغي عليه ان يفعله. صار منا الأديب الذي يمثل دور الأديب دون ان يدري طبعاً، وزاع صيت المطرب الذي يمثل الغناء، والممثلة التي تمثل أنها تمثل، وطبعاً طبعاً جداً السياسي الذي يمثل أنه سياسي، والمثقف الذي يحاكي دور المثقف والثري الذي يحاكي ما يفعله الأثرياء، والوزير الذي يمثل دور الوزير.. ساد الأشباه في كل مجال، وترك كل واحد نفسه الحقيقية هناك بعيداً.. نفسه التي لم يعد لها موضع في الزمن الجديد، مما جعلني أعتقد أننا في زمن لا الشيوعي فيه شيوعي ولا حتي الإسلامي إسلامي، وأن لا أحد يصدق نفسه، أو يعيش ذاته إنما يحاول تقليد نموذج لا ينتمي إليه، حيث لا نموذج حقيقي سوي اللصوصية والعشوائية والكذب لا شيء حقيقي سوي الشر، والله ولا حتي الشر الذي نعرفه ونمارسه كيفما تقتضي مصالحنا. كنت أجري مقابلة مع «المصري اليوم» وإذا بالصحفية «إيرين موسي» تقول: أنت ناقم علي كل شيء كنت فاكراك غير كده ذكرني ذلك بقصة رائعة «قرأت موجزاً لها إن صحت ذاكرتي» للكاتب الفرنسي ملارميه عنوانها «القطة التي تمثل دور القطة» والمعني واضح، قصة أتمني أن أقرأها مترجمة.. طال الانحطاط وطال الاغتراب عن الذات جداً، وصرنا «شعب يمثل دور الشعب». صارت النماذج الاجتماعية المؤثرة شيئاً غير مانعرف، واكتفي أفضل من فينا بالانزواء بحيث كلما ذكر اسم مثل هذا «الأفضل» بين الناس سمعت عبارات من نوع ده راجل طيب، اصطلاح مصري خالص علي الشخص الانسحابي المستغني، والأصوب الذي لا يجيد الزق بالكوعين، ظل أكثر جيلي مقيماً في هذه العزلة الاختيارية، ينتج ما ينتجه بغير صخب، يقيم مندبة بلاغية «فن علي سياسية» يقيمها شعراً ورواية وقصة ومقالات.. إلخ، عارفاً بأنه يسير في الطريق الخطأ، غير المطروق، بينما لا طريق صواب هناك، والبطش شغال تجاه من يشتبه انه «حقيقي» هكذا تكوّن الخوف في النفس، لتشخص قولة الإمام علي بن أبي طالب لحماً ودماً: «الناس من خوف الذل في ذل، ومن خوف الفقر في فقر» بات الجزء الأول يخصنا، ويخص الجزء الثاني الحكام حتي بتنا أذلاء، وباتوا مسعورين. مكالمات منتصف الليل قبل قيام الثورة بفترة بسيطة، لا أعرف ما الذي دعاني إلي مكالمة المترجم الكبير والمفكر شوقي جلال- أشهر ترجماته رواية كازنتزاكس المسيح يصلب من جديد- مكالمة سادها اليأس والشكوي المتبادلة من انحطاط الحال والعجز الكامل الذي بلغناه وجدتني أقول له: بالقطع هناك مخرج أكيد فيه حل فلم يعد الوضع يحتمل. سألني ما شواهدك أو أدلتك علي ما تقول؟ قلت: مفيش، لكن لا يمكن لحياة شعب ان تستمر أو تستقيم كدهة، فقال: يعني ميتافيزيقا؟ قلت: ليكن هذا حدس وميتافيزيقا، أقول لك بصراحة لقد اعتدت حين يتعطل العقل ويكف المنطق عن العمل ان أثق بما أحسه، وما أحسه ان ما نحن فيه لم يعد يحتمل وان الطوفان قريب. ويبدو ان الرجل زهق من هذا اليقين الذي لا يدل عليه شيء في الواقع - لعله يتذكر هذه المكالمة القريبة إذا به يقول إنه كان نائماً وانه مسافر غداً إلي الأردن لمؤتمر، ففهمت أنه استغرب من هذه الثقة باللا شيء كما يبدو له لكنني كنت موقناً بحدس غامض ان هذا الوضع لن يستمر بعدما دمر نظام مبارك مصر تماماً وبغباء نادر نجح في استعداء وتوحيد 80 مليون مصري ضده حتي الفسدة منهم، لأن الجميع اكتشف انه يحتاج إلي أن يعيش في دولة بجد مهما كان مكسبه من الفساد فقد الجميع الشعور بالأمان واحترام الذات القوت الأساسي للشخصية. لعل عند هذه النقطة تجيء مسئولية بل قل لوم أساتذتنا وأصدقائنا من دارسي علم الاجتماع، فهم لم يشرحوا لنا بما يكفي آلية التمرد والثورة داخل تاريخ هذا الشعب، تلك الغريزة التي تنطلق فجأة كغريزة النمل، كالرائحة لتدفع بالمصريين جميعاً من دون اتفاق مسبق إلي فعل معين في وقت معين. ليفاجئوا الجميع في لحظة معينة بالتمرد والثورة يكاد يكون تاريخنا الحديث كله- باستثناءات قليلة- مفاجآت من هذا النوع غريزة غير متوقعة، تنشط فجأة يتنادون بها ويتفقون لأن يفعلوا شيئاً واحداً بغير زعماء، ولا توجيهات ولا أفكار كبري أو فلسفات كلية، أمر يفاجئ المثقفين والمهتمين طوال الوقت، حتي أنني أذكر أن دورنا كقيادات طلابية أثناء ثورة الجياع في يناير 1977 لم يكن أكثر من محاولة توجيه هذا التيار الشعب الدافق الذي انفجر وحده، وإلا علي من تقع مسئولية توقع هذه المفاجأة وهذا الزخم الذي بتعبير أحد مرضاي «ماكناش نحلم بعشره»، فإذا به يزيح جبلاً هائلاً من القاذورات، جبلاً حقيقياً بملحقاته من كهوف وسراديب وثعابين سامة وعقارب وسياسيين كذابين ومثقفين شبه المثقفين، ولو كانوا حتي يرفعون لافتات اليسار، أذكر أن أحدهم قال من خلال برنامجه الذي يقدمه وخلال علاج مبارك في ألمانيا: «تمانين مليون قلب مصري ينبضون بحب الرئيس ويدعون له» علي طريقة الجنين في بطن أمه يؤيد مبارك، لعله يخجل اليوم ويتواري ويداري لافتة اليسار التي كبر وتضخم بها. كنت أقول عن مفاجأة الثورة التي كالعادة تباغت الجميع، والتي قد لا تكون مفاجأة لغيرنا من مثقفي أوروبا الذين يدرسون كل شيء ففي ميدان أم كلثوم بالمنصورة - ميدان تحرير المنصورة- قال لي الصديق المستشار محمد صلاح إنه كان يحادث قاضياً سويسرياً علي النت وقال له الرجل: - أنتم أيها المصريون تعملون المعجزات باعتيادية، ما حكايتكم بالضبط؟ وبصراحة أري ان الحكاية بالضبط يقع أغلبها علي عاتق دارسي علم الاجتماع، علم اجتماع الشعوب تحديداً وإلا سنظل نفاجأ وليرحم الله كلاً من د. سيد عويس، د. علي فهمي، د. عبدالباسط عبدالمعطي من أنجزوا في هذا الطريق الكثير من الجهد والدراسة، نسيت د. نبيلة إبراهيم أيضاً. لا أحد يعرفني في الميدان لنؤجل حكاية هذا العنوان قليلاً وصولاً إلي حال الكتاب والمثقفين الذين كان ثمة خلخلة لذواتهم تجري طوال الثلاثين عاماً ويبقي هذا السؤال الأقرب إلي الذنب يحتل كل المساحة: هل كل ما نعرفه عن الحياة كان خطأ؟ ومعني ان يحتل كل المساحة ألا يصبح هناك موضع للأسئلة الحيوية والكبري في الفكر والثقافة، حيث لم يعد هناك لا فكر ولا ثقافة ليست هناك حاجة اجتماعية لهما، بالتالي صرنا نكتب ونأتي فناً أقل بكثير مما كنا نحلم به شئناً أم أبينا فإن المجتمع يكتب معنا، لا أحد يكتب في فراغ لنظل دائماً أقل مما نريد بل أقل حتي من قدراتنا التي يعرفها كل منا عن نفسه، وبالوقت راح مشروعنا الذي أعددنا له - كجيل- يشحب ويتواضع من الحلم بإنجاز أدبي أو فني أو علمي أو فلسفي.. إلخ، إلي أسرة أو آباء في أسرة أو آباء بلا أسرة يصوغها المجتمع بأكثر مما نصوغها ونؤثر فيها نحن يصب فيها انحطاطه ويضائل من حضورنا، ليصبح كل جهدنا، اتقاء الشرور والتفسخ بل غاية ما نسعي إليه هو مقاومة السقوط لنا ولمن نحب، وفينا من وقع في فخ «تقديس الأسرة»، في حين كنا جميعا نعمل تحت قصف القيم العشوائية الجديدة، بحيث لم يعد يربطنا بأبنائنا سوي بعض العبارات التي تنتمي إلي زمن آخر يصدق معه المثل الانجليزي «أنت تحتاج إلي مجتمع بكامله، لكي تربي طفلا»، وسهل علينا في هذا المناخ القاتم أن ندمغ جيل أبنائنا وبناتنا - دائما نلجأ إلي الحلول السهلة التي نبرئ بها أنفسنا ونعفيها من المسئولية ندمغهم بأنهم جيل السفة والفلوس ووضع الجل علي الشعر والزواق والملابس المقطعة والاستهلاك، وافتقاد الهدف، والمرح الزائد جيل الحظاظة حول المعصم وتكبير المخ والتنفيض لنا، جيل الكمبيوتر، جيل سيس. جيل أو بالأحري جيلان لا يعيشان الأحلام علي طريقتنا، ولا أحد منا يعيرهم اهتماما، وبقينا في نظره «بتوع كلام»، لا وجود لما يبشر به هذا المثقف أو ذاك، والحق أننا سببنا لهم من العوز ما لم يكونوا مضطرين إليه، أردنا أن نصيبهم بما أصيبت به حياتنا من قسوة باعتبارها السبيل الوحيد إلي النضج، أمر غاية في العبثية، فوضعنا الأدبي أكبر بكثير من حظنا من الرزق، ومن العبث أن نلزمهم بفضيلة الاستغناء، أردنا أن يشاركونا الفاتورة، فاتورة الطريقة التي عشنا بها حتي موضع اعتزازنا الدائم الذي نشير لهم إليه، لا يعنيهم، فهم أيضا لم يعودوا يقرأوننا لا نحن ولا غيرنا، جيل استغني عن الجميع، لا شيء مما نقوم يجلب لهم الفخار، ولا شيء مما يقومون به نراه مفيدا. في مناقشة مع ابني لم يتحمل مني كثرة الكلام قال: - بابا لا مؤاخذة أنت بق.. الدنيا غير كده.
فاجأتني الكلمة فنظرت إلي أخته الأكبر والجامعية - ربما طلبا للعون - فقالت: - يعني أنا شفت أصحابك اللي بيزورونا (كانت تقصد أسماء مثل علاء الديب وفاروق عبدالقادر ومحمد مستجاب ومحمد المر وجار النبي الحلو ومحمد سعيد الخ) يعني انتم جيل مختلف عننا - سألتها في إيه: - قالت رومانسيين شوية مش واقعيين. بهذا الكلام المهذب نيلت الدنيا يعني مش أنا بس اللي بق بل نحن جيل كامل بق. أما الذي كان داخلي ولم أقله، هو أنني لا أتفاءل كثيرا بهذا الجيل، فهم الأقل معارف والأقل تضحية والأكثر اقبالا علي المتع والأكثر سطحية، وجودهم فارغ وأهدافهم غائمة ومحدودة. وناقشت صديقي الماركسي إيهاب محمود - أصغر مني سنا - وكان لتوه خارجا من حبسة سريعة قبل جمعة الغضب فقال كنا في الحبس ومعنا شاب من جيل ولادك فوجئت به يقول يا سلام علي ساندوتش زنجر دولقت. سألت إيهاب يعني إيه زنجر؟ قال مش هتفهم لأن دول جيل مختلف عنك جيل شعاره انجز خلص، وليس في حاجة إلي كلام كثير هو فقط يضغط Enter وينتظر Reult لم أفهم في التو لكنه أضاف جيلك هو جيل خالتك أو أختك اللي عازماك علي دكر بط، تقعد تزغط فيه شهرين وبعدين تبعت لك وتفضي نفسك يوم إلخ إلخ إلخ. بعد هذه الواقعة بيومين جاءني تليفون من أخي الأصغر المخرج السينمائي عماد البهات الذي كان يقضي أغلب أيام الثورة مع زوجته وابنه بميدان التحرير، مما أتاح له الوقت ليتكلم مع ابنه الذي في عمر ابني، فيه إيه يا عمدة، اوصف لي الجو عندك كنت مثل المراهقين الذين يبدأون خطاباتهم بوصف للمكان من الطرف الآخر - قال عماد ببساطة: - مفيش دول الشباب والبنات بينضفو الميدان ويغسلوه قبل ما ننام والمراسلين الأجانب مستغربين التصرف ده، أنا طلبتك لسبب تاني لابد أن تعمل حواراً دائماً مع أولادك ده جيل استهترنا به كتير وقللنا من شأنه جيل عنده حاجات كتير، خد الموضوع بجد، لأننا كلنا غلطنا الغلطة دي ده جيل هيغير مصر. بعد المكالمة تبين لي أنني أقول المظاهرة، المظاهرة وليس الثورة أيام طويلة والكلمة ثقيلة علي لساني كغير المصدق، عودتني الأيام ألا أفرح أو أحزن بسرعة، بينما كان ابني وبنتي يقولان بسلاسة واعتيادية، الثورة، كانوا يحسبون الأمور علي الفيس بوك ببساطة إنتر ريزلت. وفي حين كنت أتمم رواية عن الثلاثين عاما الماضية، أصف فيها قلة شأننا وهواننا علي أنفسنا، جعلت لها عنوانا مبدئيا «نوم العازب وعجين الفلاحة أيضا» تغيرت الأحداث بسرعة وتغير اتجاه الرواية فقلت ليكن عنوان الرواية التي أوشكت علي ختامها «لا أحد يعرفني في الميدان» والمعني واضح فماذا كانت الحال في الميدان؟ دموع محايدة وكوب قهوة أبلغني صديقي أن الشباب في يوم 25 يناير يعدون لمسيرة احتجاجية أعلنوا عنها في مكان، لكنهم ينوون التجمع في ميدان مشعل تضليلا للشرطة، قلت لنفسي، ما جدوي أن ننزل وننضرب علقة كالعادة ونروح آخر النهار واحنا بنعرج ومبطوحين، وابتدأت علاقتي بالنزول في جمعة الغضب بعدما تأكد أن الموضوع جد في جد، خاصة حين عاد ابني في المغربية وهو لا يحرك كتفه وذراعه ويقول ضاحكاً أكلنا علقة محترمة، وطلب أن يأكل وحالما كنت أجيء له بجبيرة ودواء عدت لأجده «أخذ الماسورة ونزل لأجل اللجنة الشعبية لحماية الأحياء» وبعد حوالي ساعة عاد حزينا فيه إيه؟ فقال إنه عرف من دقائق أن صاحبه محمد أمين الباز استشهد بالرصاص في مساء جمعة الغضب، سجلت كل ما سمعته عن هذا الجيل الذي لا أعرفه، ونفسي التي لا أعرفها أنا من عاش وهما، هو أن الثورة أو حتي المظاهرة لا تنصنع بغير الجدية الظاهرة والثقافة الموسوعية والمناقشات السياسية المستفيضة والحزب المنظم والتخطيط الدقيق إلخ وفي الميدان رأيت أصدقائي القدامي متألقين ومشرقين، تحت قصف قنابل الغاز والرصاص الحي والمطاطي والأكاذيب الإعلامية في الميدان ابتدأت أشعر بأن الأمر يمضي في اتجاه واحد، قلت للفنان التشكيلي مجدي سرحان، لو أفلت النظام، فإن حسني مبارك ورجال الحزب الوطني سوف ينكلون بالمصريين ويسومونهم سوء العذاب قال ببساطة، انسي الموضوع خلص خلاص، كلها كام يوم، وقال الشاعر رضا أبوالنجا نفس الكلام. وقال نايل التابعي، إنه لم يعد يشعر بآلام الانزلاق الغضروفي، وقال صلاح الوتيدي إنه شفي تماما من الأزمة القلبية التي أبقته في غرفة الانعاش أياما، هكذا، شفي الجميع، واكتشفت أن لي أياما لا أخذ أقراص المعدة، ولا ألم، قال لي يسري زيدان نفس الكلام، هل كانت أمراضنا حتي العضوي منها سيكوسو ماتيك، قال لي محمد صلاح: دي مصر كلها بتخف مش عاوزنا نخف؟ عرفت أن مصر تشفي فعلا من أمراض كثيرة أو هي بسبيلها إلي ذلك الشفاء، وتأكد لي أيضا أن هذا الأمر الجلل يحدث للمرة الأولي في ال200 سنة الأخيرة. الشعب يغير النظام بطريقة احتفالية في الميدان رأيت أنه ليس مطلوبا من المشارك الفرد الكثير، فليس هناك مجال للبطل أو البطولة وكانت المفاجأة وجود «كل» المصريين، فهناك موظفون وطلبة وستات بيوت وسياسيون وفلاحون وبنات مزوقات ومحجبات علي منتقبات وفنانون وسيدات أنيقات وعمال يومية وقضاة وأطفال الخ يا نهار أبيض ولا أحد يتسابق إلي الشهادة مدعيا البطولة بل إن هناك أيضا الأغاني والرقصات الاحتفالية والأعلام والصيحات التي تندلع فجأة لدي أية بادرة عنف سلمية.. سلمية أين كان كل هذا التحضر مخبئا داخل الشخصية المصرية؟ هذا غير باعة الأعلام والترمس والحرنكش والبلالين والعجمية والسميط في الميدان الذي تنهمر عليه قنابل الغاز والرصاص المطاطي والحي، وتنفجر منه هتافات سقوط وبطلان النظام ورموزه حياة كاملة اختصرت في ميدان وبما أنها حياة كاملة فثمة أيضا الموت والشهادة وعلاقات الحب الجانبية هناك الفرح وعجائز الفرح وهناك أيضا وأمام مديرية الأمن القديمة العشرات يطبلون ويزمرون ويهتفون بأصوات مكسورة واضحة الزيف.. استقرار استقرار لا يجرؤون علي رفع لافتات تأييد لأي حرامي أو طاغية يرفعون أيضا أعلام مصر إنهم من بقايا الحزب الوطني وأمن الدولة يفضون السامر ويغادرون بعد ساعتين تلاتة والمصريون في الميدان يقولون ضاحكين علي أد فلوسهم وعلي غير وعي مني أجدني اندفع نحو جندي بقرب دبابة في أوفرول واسع لأقبله ويجيء الضابط ضاحكا فأقبله هو الآخر وأقول لهما: أنتم رفعتم رأس المصريين واستدير إلي د. سالم سلام وهشام لطفي قائلا إحنا عجايز الفرح فيرفض الجميع هذه المقولة وكنت أقولها علي سبيل الاختبار ليفاجئني جمع من الشباب مع د. أشرف وجدي بالقول إن حلقات التاريخ مترابطة وأنتم جيل حرث التربة من قبل لنجيء نحن اعتبرها مجاملة فأضيف شاعرا بالذنب المصري العميق الذي تربينا عليه. إحنا جيل عرَّة جبنالكم الوهابية السعودية وحسني مبارك وإسرائيل ثلاثة من أسلحة الدمار الشامل. بيني وبينك كنت أقول هذا علي سبيل الاختبار. فإذا بالشباب يصرون علي ما قالوه في مسألة حلقات العمل الوطني هذه ويزيد بعضهم عليه بأن يذكرني بأنني كتبت كذا وكذا وأنه يتذكر كتابات جيلي التي صنعت جزءًا من وعي هذا الجيل يعني مفيش حاجة بتضيع وبالمرة جاء لي أحدهم بكوب قهوة. كله كوم ولحظة التنحي كوم لحظة عبقرية لا مثيل لها فيما عاش جيلي غير لحظة تنحي عبدالناصر مغناطيس قوي يسرع من نبض القلب، ويدفع باللهاث إلي الصدور ويمسك بالألسنة وميض يندلع فجأة بمساحة السماء ويشير للتاريخ أن انكتب الآن أيها التاريخ، وانحن قليلا أمام إرادة البشر، هذا عن المشترك بين اللحظتين بفارق أنه في لحظة تنحي عبدالناصر وكنت طفلا في الابتدائي تثقل الأقدام وتتدافع علي ثقلها من الحواري والأزقة لينفجر هتاف واحد يطالبه بالبقاء والدموع في كثير من الوجوه. أما في لحظة تنحي مبارك فخليط من الانفعالات انفجار لكل أنواع المشاعر الإنسانية دموع علي صرخات فرح علي صمت الذهول علي القفز لأعلي علي هتاف حرية، حرية، علي خفة في الوزن هذا ما شعرت به شخصيا كأنما أمشي فوق القمر أطفو فوق الأسفلت، جسدي يعمل ضد الجاذبية مع غياب تام لكل الحواس. لحظات بكي فيها نايل التابعي، وصرخ محمد صلاح وتشنج متقلبا علي الأرض الروائي أحمد صبري أبو الفتوح علي تنهدات عميقة لكثيرين يتبعها جميعا هتاف واحد بلا اتفاق حرية علي اندلاع أجساد بالرقص والتصفيق علي مشاعر ذهول غير المصدق وفي ثوان تضاعف العدد في الميدان كإنما ادخروا أنفسهم لذلك الوقت فشر أي عيد فشر شم النسيم فشر أي يوم آخر في التاريخ الذي عشناه يا نهار أزرق كل هذه الكراهية المخزونة لمبارك ولأمن الدولة ولرجال النظام وكل هذا التحضر وهذه الرغبة في الحياة! لو اتسع الوقت والمساحة لتكلمت عن مكالمات تلك الجمعة وما تلاها من أيام من ابنة أختي د. غادة في ميدان التحرير ومن حمدي عبدالرحيم الذي سألته أنت في الميدان قال أيوه سألته فين بالضبط فقال قدام باب الأوبرا قلت كده في ميدان التحرير يا حمدي قال يدوب فضحكت إلي مكالمات بلال فضل أجمل كائن تراه وتصادقه آلاف التفاصيل التي سوف تكتب عن لحظات حادت بالتاريخ المصري من طريق إلي طريق آخر إلي مجموعة شباب علموني درسا حين قلت ياااه هو النظام ضعيف كده؟ فرد أحدهم ولم أكن أعرفهم أو يعرفونني قول أنت هو الشعب قوي كده! فسلام علي هذا الشعب الذي يختزن تحت جلده مالا يعرفه أحد ولا حتي مثقفوه، ليخرجه وقت الضرورة وسلام علي الولادات مدفوعة الأجر من شبان وفتيات تم قطافهم لا ليسوا ورودا بل وجوها آدمية حقيقية أحبت وانحبت وصدقت ما تخيلته وأدت فعل الاستشهاد باعتيادية من استشهد من قبل أو كمن ذهب ليستشهد ويعود بعد قليل ليسير علي قدمين ماسحا الدماء التي تشرشب من وجهه ورأسه ويضحك.. بوركوا وبوركن وبورك الوطن يا إلهي لماذا خلقت دموعا ثالثة لا هي دموع حزن أو فرح دموع قد يجد لها التاريخ اسما، اسما مصريا خالصا. أما أنا فاسميها دموع الثقة في التاريخ وفيما عرفناه.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.