د. هيلانة سيداروس شخصية مصرية أضاءت مسرح الأحداث في الثلث الأول من القرن العشرين وأثرت بصدق في مجري الأمور واستطاعت أن تحرك القوي الكامنة لدي الناس وساهمت بوعي وفكر مستنير في إطلاق طاقتهم المبدعة. ونحن نتتبع سيرتها سنري كيف استطاعت ان تبذل الجهد وتتحدي أصعب الظروف وتواجه ألوان الصراع في المجتمع المصري في سبيل التحرر والاقدام واختيار أسلوب حياة أفضل وأنبل. إن سيرة حياتها تمثل منارة عالية تلهم حياتنا بالعديد من القيم والمثل ليس في مجال الطب فقط ذلك المجال الذي يشوبه الكثير من العيوب بل أيضا في سائر المجالات، فبقدوة سيرتها العطرة نجد دافعاً للحركة إلي الأمام وإثراءً لتجربة أجيالنا الصاعدة. نشأتها وتعليمها ولُدت هيلانة بمدينة طنطا في 13 يناير 1904، في تلك الفترة كان تعليم الفتيات قاصراً حتي السنة الثالثة الابتدائية فقط، وغير مصرح لهن بالتقدم إلي الامتحانات العامة ولا حتي شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، وكانت قيادتهن للسيارات أمر يثير الدهشة والاستغراب، وغير مألوف، هذا بالإضافة إلي أن المهنة الوحيدة التي كانت متاحة للمرأة هي مهنة التدريس!!، فبالإضافة إلي كل هذه القيود - التي كانت هي سمات تلك الفترة - فإن هيلانة كانت طفلة ضعيفة البنية فلم تتمكن من الذهاب إلي المدرسة في السن المقررة، لذلك التحقت بكلية البنات القبطية، وهي في الثامنة من عمرها، وكانت تحلم بأن تكون طبيبة!! لتعالج المرضي وتخفف عنهم آلامهم علي الرغم من أن ظروفها في ذلك الوقت لم تكن تنبئ بذلك. ونظراً لتفوقها في دراستها وتمتعها بذكاء شديد أرسلها والدها للالتحاق بالقسم الداخلي بمدرسة السينية للبنات بالقاهرة، ثم التحقت بعد ذلك بكلية إعداد المعلمات إذ لم يكن أمامها اختيار آخر سوي هذا الطريق. كانت مدة الدراسة بهذه الكلية أربع سنوات، وكانت جميع التلميذات يقمن بالقسم الداخلي كما كان التعليم مجاني. في تلك الكلية كانت ناظرة المدرسة والمدرسات جميعهن إنجليزيات باستثناء مدرس اللغة العربية فقد كان شيخاً أزهرياً. وبعد أن أنهت دراستها بالسنة الثانية بكلية إعداد المعلمات تم ترشيحها علي بعثة حكومية للسفر إلي إنجلترا لدراسة الرياضيات!!، وذلك نظراً لتوفقها في هذا العلم، فرحت جدا هيلانة بهذا الترشيح كما أن أسرتها وافقتها علي السفر لما توسمت فيها من نبوغ وعبقرية في التفكير الرياضي. من الرياضيات إلي الطب سافرت هيلانة إلي إنجلترا لدراسة الرياضيات وبعد فترة من بداية دراستها علمت أن الدراسة ستقتصر علي ما يعادل شهادة إتمام الدراسة الثانوية في مصر وفي نهاية الدراسة ستحصل علي خطاب يحدد تخصصها!!، غضبت هيلانة لهذا الأمر وسارعت بإرسال خطاب إلي المستشار الثقافي (أو الملحق الثقافي كما كان يطلق عليه في ذلك الوقت) بالسفارة المصرية بلندن تطلب فيه موافقته علي رغبتها في العودة إلي مصر لاستكمال دراستها هناك. وحدث أنه بعد مضي أسبوع من إرسال خطابها هذا حضر السيد المستشار الثقافي إلي المدرسة بلندن - التي كانت تدرس بها - وطلب مقابلتها وقدم لها عرضاً لدراسة الطب، وكان قد تأسست في مصر في ذلك الوقت جمعية كيتشنر Kitchner التذكارية بهدف إقامة مستشفي للمرضي من النساء فقط، وعلي أن تتولي إدارتها طبيبات مصريات فقط، ولهذا تقرر تدريب فريق من الطالبات المصريات بإنجلترا وقد اخُتيرت هيلانة واحدة من أعضاء هذا الفريق، وافقت هيلانة علي هذا الترشيح الجديد كما وافقت أسرتها أيضاً. وبعد أن اجتازت هيلانة الامتحان النهائي للمرحلة الثانوية بإنجلترا التحقت بمدرسة لندن الطبية للنساء مع خمس مصريات أخريات - كان ذلك عام 1922 كان تقدمها لدراسة الطب في إنجلترا سبب دهشة الأساتذة الإنجليز، ولأنهم أشفقوا عليها من مشقة دراسة الطب عرضوا عليها أن تتخصص في مجال التعليم في رياض الأطفال!! ، لكنها رفضت بإصرار وقبلت التحدي بدراسة الطب. كانت الأسابيع الأولي من دراستها في الطب شاقة للغاية اذ كانت مادة التشريح Anatomy تسبب لها آلاماً وضيقاً، لكن بعد فترة تقبلت نوعية الدراسة في الطب واجتازت فترة الدراسة بنجاح وتفوق وفي عام 1929 أصبحت طبيبة مؤهلة لممارسة مهنة الطب وهي تبلغ من العمر 25 عاماً. عادت هيلانة إلي مصر عام 1930 ومعها شهادة الطب والتوليد من الكلية الملكية البريطانية، والتحقت للعمل بمستشفي كيتشنر بالقاهرة، في ذلك الوقت كانت الطبيبة المقيمة بالمستشفي إنجليزية، وبعد أن عادت إلي وطنها شغلت د. هيلانة مكانها بكفاءة. وفي عام 1935 بعد أن انتهت الفترة الإلزامية التي ينبغي أن تقضيها في المستشفي، عرض عليها د. علي بك فؤاد العمل في رعاية الطفولة مع فتح عيادة، وتذكر د. سلمي جلال أن الدكتور عبد الله الكاتب شجعها وعاونها علي فتح عيادتها في باب اللوق بالقاهرة، وفي نفس الوقت كانت تقوم بعمليات الجراحة والتوليد بالمستشفي القبطي بالقاهرة بناء علي طلب من الدكتور نجيب باشا محفوظ - رائد علم أمراض النساء والتوليد بمصر، و كان من بين آلاف الأطفال الذين ولدوا علي يديها الأستاذ الدكتور طارق علي حسن نجل صديقتها الرائدة في علم الكيمياء الدكتورة زينب كامل حسن. في كثير من الأحيان كان يتم استدعاؤها - في منتصف الليل - لمساعدة سيدة علي وشك الولادة، فكانت تقود سيارتها الخاصة بنفسها - في وسط دهشة المارة - وتذهب لمقر إقامة السيدة للوقوف بجانبها. لذلك كانت تري الطب مهنة صعبة تحتاج إلي تضحيات كثيرة، وانه بدون الرغبة الشديدة في دراسة الطب يصعب الاستمرار فيها، ما أحوجنا - في هذه الأيام - إلي تلك الروح الإنسانية الصادقة في مهنة الطب. في العمل الوطني عندما قامت ثورة 1919 شاركت هيلانة وهي ابنة الخامسة عشرة من العمر في المظاهرات التي قادتها بعض الفتيات والسيدات في ذلك الوقت، وبعدها استمرت في المشاركة في الكفاح الوطني للمرأة المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي، وكانت تتردد علي منزل الزعيم سعد زغلول الذي عُرف باسم "بيت الأمة"، حيث كانت تشارك في اجتماعات الحركة النسائية بقيادة السيدة صفية زغلول من أجل مناهضة الاحتلال الأجنبي ومقاطعة البضائع الإنجليزية ثم انضمت إلي جمعية هدي شعراوي. في العمل الاجتماعي بعد أن تجاوزت هيلانة سيداروس السبعين من عمرها رأت انه ليس من الصالح لمرضها أن تستمر في العمل، فاستقالت من عملها وانضمت إلي الجمعية الخيرية القبطية للعمل الاجتماعي، تلك الجمعية التي اهتمت بإنشاء المستشفي القبطي بالقاهرة كأول مستشفي وطنية في مصر، وذلك بغرض توفير مكان لإقامة المرضي المصريين وقد تم افتتاحها عام 1926 وبعد ذلك بعدة سنوات بدأت تظهر مستشفيات وطنية أخري بالقاهرة والإسكندرية مثل مستشفي المواساة بالإسكندرية، والمستشفي القبطي بالإسكندرية، ومستشفي الجمعية الخيرية الإسلامية بالعجوزة... وغيرها. و في فترة عملها بالجمعية الخيرية القبطية اهتمت بترجمة العديد من الكتب للأطفال ومشاهير الرجال. كانت في الفترة الأخيرة من حياتها تعيش في شيخوخة صالحة، بعد أن خدمت الوطن بصفة خاصة والإنسانية بصفة عامة بأمانة كاملة. وفي صباح الخميس 15 أكتوبر 1998، انتقلت بسلام من عالمنا الأرضي إلي عالم الخلود.