لا يمكن التعرض للحياة الأدبية والثقافية في السعودية, علي مدي أكثر من نصف قرن, دون أن يذكر عبد الفتاح أبو مدين كاتبا ودارسا ومؤرخا وناقدا وصاحب مشاريع ومبادرات ورئيسا لنادي جدة الأدبي, علي مدار سنوات متتابعة, ومصدرا للعديد من مطبوعاته ومنشوراته. وأبو مدين, أو الفتي مفتاح, كما أطلق عليه الناقد السعودي الدكتور عبد الله الغذامي وهو يقدم لكتابه ألف صفحة وصفحة, مصورا طفولته ونشأته, وتعليمه وثقافته, ودوره المحوري في الحياة الأدبية والثقافية, وجهده الدائب وراء إصدارات نادي جدة في عهد رئاسته متمثلا في مجلات جادة متميزة هي علامات وجذور ونوافذ والراوي, ومعها مؤتمرات وندوات ولقاءات حضرها كما يقول الغذامي المثقفون العرب من كل بلدان العرب, وهو بحد ذاته علامة مضيئة وتاريخ حافل. أتيح لي أن أعرف هذا الرجل الموسوعي, الذي يتوهج برسالة ثقافية وأدبية مستنيرة, عرف كيف يخوض بها أنواء وعواصف وتقلبات شتي, واصلا بها الي جمهورها الحقيقي: القارئ الذي يراد له أن يتعلم ويتثقف, والأديب الذي يراد له أن تنفتح مواهبه ويبدع, والأستاذ الذي يراد له أن ينفسح أمامه المجال, ليعطي من رصيد معرفته وعلمه للأجيال الشابة الواعدة, واقتربت من رحابة فكره وسعة آفاقه وامتداد فضاءاته, لألمس فيه جرأة المصلح والموجه المستنير, وحماسه الشاب الطامح الغيور بالرغم مما يحمله من أعباء الكهولة ومناجزات الشيخوخة ووطأة الأحداث والصراعات إلا أنه ظل دائما كما يقول الغذامي: كل العواصف تفني وتذهب, والفتي مفتاح يبقي ويسمو. ورأيته في ملتقيات نادي جدة يدير الحوارات ويفجر القضايا وله رأي وموقف في كل ما يقال, وتوجيه رشيد لما يراه غير سديد, والتماس لحسن القول حين يحتد الكلام, يحكم زمام أموره, ويقود سفينته في يسر وكياسة وإحكام. وعرفته في ملتقيات الثقافة والأدب, في القاهرة, من خلال مشاركته في مؤتمرات عديدة, حاملا في أعماقه محبة لمصر لا تحدها حدود, وإكبارا لأدباء مصر الكبار, وبخاصة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين, لا ينازعه ولاء آخر ولا اهتمامات أخري, ومتابعة يقظة حية, لكل مايصدر في القاهرة من كتابات تثير جدلا أو تحرك مناخا ساكنا أو تفجر قضايا, يقرؤها ويكتب عنها في صحف المملكة, فيكون لكتاباته وتعقيباته صداها العميق في نفوس قرائه الذين يتابعون بكل المحبة والتقدير. وهو في هذا الكتاب الضخم ألف صفحة وصفحة من الأدب والنقد يقدم شهادة بليغة علي عصر كامل, بكل أجياله ورموزه وشهوده, من خلال سفر جامع, يضم مقالات وأبحاثا وكتابات شتي, وتجمعها دائرة واحدة هي محبة الثقافة العربية قديمها وحديثها والانتماء الشديد إليها, والدفاع المجيد عن رموزها وأعلامها, وتصحيح ما يكون قد علق بها من آثار نقد ضار أو موقف غير متفهم أو عصبية زائدة. وفي الكتاب من العناوين ما يغري بالتهام مادته, وفيه توجيهات نافذة ورسائل مضمرة يبعث بها صاحبها الي جهات معنية في التعليم والجامعة والصحافة الأدبية والمجتمع, مذكرا بمواقف من كانوا كبارا, مشهودا لهم بالكرامة والنزاهة والرجولة والشرف, مقارنة بصورة غير مباشرة بين ما كان وما نحن فيه. من هنا يجئ كلامه عن معركة الأدب الجاهلي بين أحمد أمين وزكي مبارك, وأسرار العلاقة بين شكري والمازني والعقاد, ومعارك أنور المعداوي النقدية, ومسرحية مجنون ليلي بين الواقع والخيال, ومحمد حسين هيكل من الناقد الي المؤرخ, ومعركة الشعر الجديد, والعواد في ذاكرة التاريخ, وأطروحة ثقافة التخلف, وذكري عميد الأدب العربي, وسوق عكاظ, ورسالة الجامعة, وتعليمنا العالي, وغيرها عشرات الموضوعات التي يزخر بها هذا الكتاب الضخم الجامع, في لغة رائقة, شديدة العصرية والشفافية والعذوبة, وتناول لا يجرح ولايسيل دما, ولكن تحكمه أبوة حانية, وأستاذية رشيدة, ومنهج واضح قاطع, وغاية نبيلة هي الحق والعدل والمشاركة الواعية. ولا يخفي عبد الفتاح أبو مدين, أوالفتي مفتاح كما أسماه هو في سيرته الذاتية, أنه عندما انقسم أدباء المملكة ومثقفوها في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته, بين طحاسنة أو طحسنين( نسبة الي طه حسين) وعقاديين( نسبة الي العقاد) كان هو من أبرز طحاسنة الذين فتنوا بلغة حسين في كتاباته, وبروحه الثورية المتحررة, وتناوله الجريء لما عرض له من موضوعات وقضايا ثقافية وأدبية. يقول عنه في الذكري الخامسة لرحيله: في أدب طه حسين متعة وجمال وبعد تأمل, واستنتاجات لا يرقي إليها في منطق الإقناع إلا العباقرة, ولا ينكر علي الرجل عبقريته إلا غير متذوق وغير ذواقة لجمال الأدب, وروعة الأداء, في الدرس الذي نجده عند طه حسين. لقد شغل طه حسين الناس حيا وميتا, كما شغلهم المتنبي أكثر من ألف عام. ويقول عبد الفتاح أبو مدين في صفحة من كتابه الجامع كاشفا عن نزوعه الفكري والتربوي والمستقبلي: أعطني تعليما راقيا متكاملا أعطك تنمية قوية ناجحة لخمسين سنة قادمة عبر خطط خمسية, لا تقف في طريقها عوائق, ولا مثبطات تعطل المسيرة. لا سيما وأن المال يدعم هذه الأهداف أو الأحلام, لأن الحديث علي الورق حلم وأمل, والذي يحقق الآمال بعد عون الله هو الإرادة. ويقول: حينما أركز علي التعليم في المراحل الأولي وما يتبع ذلك من التطلعات البعيدة المدي, فإن الثقافة مبناها تعليم عال قويم, وحين تتركز قواعد التعليم ويصبح الوطن في قمة أوجه, فإن الثقافة ترقي إذا أتيح لها ركائزها التي تنهض عليها وبها, والثقافة ليست وليدة فراغ ولا كيان وقتي, وإنما هي عماد, وبناء قواعد قوية من بث المعرفة الحقة الجادة. فكل عمل ينشد النجاح لا يكون إلا قويا رائدا بلا حدود. وتحية من القاهرة الي الشيخ الفتي مفتاح وتمنيات له بالعمر المديد والعطاء الموصول.