نحن نشعر بوطأة الموت الحقيقي، حين ينفلت من بين الأيام التي نعيشها كائن جميل، نكتشف مدي ما يستمتع به من نقاء، وصفاء، إذا التقيت به في جولاتك وسط المدينة، فيدعو أحدكما الآخر لتناول مشروب ما في إحدي المقاهي، ويدور بينكما حوار متصل، تكتشف من خلاله أن كلا الرجلين بالغ النقاء وأنهما شخص واحد.. جميل.. الكاتب ادريس علي.. وأيضا ادريس علي الإنسان.. انهما كائنان يمتزجان معا، فلا تستطيع أن تتعرف جيدا علي الرجل دون أن تقرأه بشكل جيد، ولا يمكنك أن تتتفهم عالمه إلا إذا كنت قد تقابلت مع الرجل. اعتذار واجب واستطيع الآن، أن ارسل إلي روح هذا الرجل ادريس علي (1940 -2010) بعض الاعتذار، فحين كنت اعمل سكرتيراً لتحرير روايات الهلال، بهرتني مسودة روايته «دنقلة» بجرأتها، وشخوصها، وثورية، كتابتها، وأحسست أن جرأة الكاتب أقوي من أن احتملها، فالشخصية الرئيسية في الرواية، تميل إلي أن ينفصل سكان النوبة عن مصر، وتنادي هذه الشخصية بإقامة وطن قومي للنوبيين، وقد ازعجتني الفكرة آنذاك فالوطن بالنسبة لي، لا يحتمل حتي أن يفكر المرء في هذا الشأن، أو بهذا المنطق، ووجدت نفسي العب دور الرقيب الملعون، واؤخر دفع الرواية إلي رئيس التحرير لنشرها، وقد تمكن الكاتب من نشرها فيما بعد، ومن يومها، وأنا عندي احساسي الخاص بوجوب الاعتذار، لكن كلما قابلته، وصدمتي دماثته ارتبك في اعماقي واتعامل معه بمنطق أنني لو بحت له بالأمر، لحزن مني، أو لتعكر شيء ما فيما بيننا. هذا الكاتب الجميل، ظل في كتاباته، المتمرد، الثوري، وليس فقط من خلال هذه الشخصية في روايته دنقلة، الذي طالب بانفصال النوبة عن مصر، وهو الموضوع الذي طرح علي الساحة، بعد نشر الرواية بخمسة عشر عاما. ادريس علي، كاتب متقف عليه، كإنسان، ومبدع، وقد اعجبني ما كتبه صديقي الأديب شريف عبدالمجيد في اليوم السابع.. في 9/2/2010، أنه أحد الفطريين الذين يمتلكون تجربة حياة عريضة، وكل حلمهم أن يسجلوها علي الورق، وقد وضع شريف كاتبنا الراحل من بين كل من: محمد شكري، ومحمد مستجاب، وأيضا محمد حافظ رجب، أنهم الأدباء الذين عاشوا في اقبية المدينة، وعرفوا أوحالها، واستمتعوا ببراءتهم، وتلقائيتهم، وانعكس ذلك علي كتاباته، لكن شخوص ادريس علي الروائية، كانت تحمل حسأ ثوريا عاليا، ربما أكثر مما يبدو علي الكاتب نفسه، الذي يتصرف في الحياة، بسلاسة لكن في اعماقه يكمن غليانا يتضح بقوة في كتاباته. رحلة ادريس علي من الجنوب إلي الشمال بحثا عن اقامة في العاصمة، وهي أيضا رحلة تجارب حياتية عديدة مارس خلالها أكثر من مهنة، وانتبذ التعليم، وهي بالطبع رحلة جندي وجد نفسه وسط اقرانه يحاربون في اليمن، ثم هي رحلة كتابة بدأت في سن متأخرة نسبيا، حيث إن تواجده الأدبي ككاتب كان أغلبه في العقدين الآخيرين. العامية والفصحي ادريس علي الذي كان أول لغة نطقها هي النوبية، لذا فإنه يتبع نصيحة والده، حين سكنت الأسرة النازحة بولاق أبوالعلا بأن قال لابنه، مثلما اعترف الكاتب لعبد النبي فرج في جريدة الشرق الأوسط -29/9/2003-: انزل للحارة أولا لكي تتعلم العامية المصرية، وتحتك بالأولاد، الحارة ايامها كانت مصنع الرجال والاشرار وتموج بالحركة، وتزدحم بالأولاد المتسربين من التعليم، وصبية الورش والهاربين من أسرهم، يعلبون الكرة الشراب، والبللي، وأنواعا شعبية، من الميسر، هذا التكوين الذي صنع قارئا، ليس عليه فقط أن يتقن العامية، بل إن يقرأ باللغة العربية، وليس غريبا علي الطفل الصغير في بدايات الخمسينات من القرن الماضي أن ينبهر بالروايات البوليسية، وأن يجد نفسه باحثا عن طريق، وسط دروب عديدة ينتمي إليها الشباب، أو يمارسون لعبة كرة القدم أو ينتمون إلي الإخوان المسلمين، أو الشيوعيين. مثلما باح الكاتب الراحل فإن القراءة كانت المنقذ الأساسي له، حيث افلت من خلالها من الخروج عن القانون، وقد اعترف إنه كانت بينه وبين الضياع خطوة «لكن كتابا جيدا كان دائما ينتشلني من المصير المظلم، وقد قرأ مكسيم جوركي، كاتب الفقراء، فقرر أن يكتب علي غراره، وفي أثناء محاولات الكتابة، التحق بالقوات المسلحة، وسافر إلي اليمن مشاركا في الحرب هناك لمساندة الثورة ، وعاد من اليمن لينضم إلي المحاربين الذين انهزموا في يونيه 1967، لم تكن هناك بارقة أمل واحدة، لدي هذا الفقير، العاشق لوطنه، سوي الأدب الروسي، وبدأ يكتب القصة القصيرة، حتي كانت تجربة، النشر الأولي في مجلة صباح الخير، عام 1969. صدمته تجارب الحروب العربية، والهزائم التي لحقت بها، وقد كان واحدا من الجنود الذين طال بقائهم بالقوات المسلحة قرابة عشر سنوات، حتي تم تسريحه عقب انتصار أكتوبر، ليخرج إلي الحياة، ويصطدم في تجربة الانفتاح الاقتصادي، وهو الذي آمن بجوركي، وأفكاره، وابداعه، وقرر أن يبحث عن لقمة العيش في بلاد البترول، فاتجه إلي الغرب، واقام في ليبيا اربع سنوات يعمل في وظائف عديدة، وبدأ حلم الكتابة كأنه مؤجل إلي جوار رحلة البحث عن الرزق، وقد عاني الرجل الذي اقترب من الأربعين مثل غيره من المصريين الذين اقاموا في بلاد البترول، بسبب معاهدة كامب دافيد، فكان عليه العودة إلي مصر، من أجل أن تستمر رحلة البحث عن لقمة عيش له، ولأسرته التي كونها، وفي عام 1985، أصدر مجموعته القصصية «المبعدون». إذن، لقد دفعت كل الظروف التي احاطت بالكاتب إلي أن يؤجل مشروعه الكبير أن ينشر أعماله لذا فما أن نشر روايته الأولي «دنقلة» حتي لفت الأنظار إليه، لتصدر رواياته التالية بين فترات متقطعة، وهي: اللعب فوق جبال النوبة سنة 1994، «انفجار جمجمة»، «النوبي»، ثم «الزعيم يحلق شعره»، بالإضافة إلي سيرته الذاتية «تحت خط الفقر». اللعب فوق جبال النوبة مفتاح التعرف علي ادريس علي إنسانا وكاتبا، هو أنه نوبي، متمرد، تدور أحداث كل أعماله في النوبة، من خلال أشخاص لهم مواقف من الحياة، وقد ركز في العديد من أعماله علي الصراع بين الجنوب والشمال، كان ادريس علي واضحا في روايته الأولي «دنقلة»، فبطله الرئيسي، يريد للنوبة أن تنفصل عن الأم مصر، وقد جرت عليه الرواية الكثير من المشاكل، وقد ظلت السمات الرئيسية للاحداث تتكرر في أعماله التالية، فالكاتب الذي يري أن النوبة ليست من الجنس النقي عرقيا، يجعل من بطلة روايته اللعب فوق جبال «النوبة» «المسماة غادة» هي فتاة مزيج من ثقافتين، ولونين، فهي مولودة في العاصمة المصرية، لأب نوبي اسمر اللون والكاتب مولود في جنوبأسوان، أما الأم فهي امرأة ناصعة البياض من القاهرة. إذن فغادة قد ورثت عن أمها صفاتها، وبياضها، وجمالها رغم أن اللون الأسود هو السائد في علم الوراثة، وعندما تكبر غادة وتصير فتاة يافعة، يدفع بها أبوها إلي قرية، «التي» البعيدة ضمن القري النوبية، إنها تذهب إلي عالم مختلف عن القاهرة البالغة الاتساع، المليئة بالتحرر، والانطلاق، لقد تم هذا العقاب، بالنفي إلي مسقط، رأس الأب بسبب أنه عرف أن «غادة» أحبت شابا، هذا الأب ترك ابنته في النوبة البعيدة، وعاش هو في العاصمة مع زوجة جديدة، نوبية، علي اثر وفاة الأم البيضاء. لقد سعي الأب أن ينفي ابنته، حتي لا تكون ابنته مصدرا للعار بالنسبة له، وكي تتزوج هناك من شاب من نفس لونها، وهويتها، انها الفتاةالنوبية البيضاء التي ما إن تصل إلي القرية، حتي تنقلب الأحوال تماما، فالمكان الذي جاءت إليه ملتهب الحرارة، كالصخور، وحين تصل إلي القرية، تصبح مثار لوم، فهي تركب الحمار الذي يمشي بهامن المحطة، إلي القرية، أما جدتها فإنها تمشي حافية إلي جوارها. يكشف الكاتب، من خلال بطلته، عند التناقض البين بين العاصمة، وقرية نوبية صغيرة، تنام عند حلول الليل، لا تعرف الضجيج أو الضوضاء، لذا، فهي مثار انتقاد دائم من أهلها، وأبناء القرية وتبدو غادة كأنها بمثابة الفيروس بالنسبة لعادات القرية، فهي تدفع البنات الآخريات من أجل التمردعلي واقع اجتماعي استمر آلاف السنين، فتقوم بعض بنات القرية النوبية بفك الجدائل، واطلاق الشعر، وتسريحه، وتحاول أن تدفع بعض البنات أن يقلن «لا» أمام عادات الزواج المبكر، أو الاقتران بالأغنياء والأجانب، خاصة العجوز الخليجي الذي دفع الكثير من أجل الاقتران بصبية صغيرة وتبدو غادة مثل أغلب أبطال ادريس علي تصنع التمرد من حولها. لذا تصطدم غادة مع بيئتها الجديدة، خاصة مع جدتها العجوز، لذا فهي تهرب، لكن محاولة الهرب تفشل، وتعود إلي البيت، وتقرر جدتها أن تحبسها، وأن تبحث لها عن رجل يتزوجها، أي رجل، وفي الوقت الذي تنوي فيه الجدة، وابن عم غادة، أن يعيدا الفتاة إلي أبيها في العاصمة، فإن الفتاة تهرب للمرة الثانية، دون أن يعثر عليها أحد. الزعيم يحلق شعره لا يمكن تأبين ادريس علي، دون أن نتعرف علي روايته الأخيرة، الزعيم يحلق شعره، التي تمت مصادرتها في معرض الكتاب عام 2009، وهي الرواية التي استوحاها الكاتب من خلال تجربته الحياتية التي عاشها لمدة أربع سنوات في ليبيا، حيث عاني الكثير، كما سبقت الإشارة، مثل المصريين، من ابرام الرئيس الراحل أنور السادات معاهدة كامب دافيد، في تلك الفترة شهدت العلاقات بين مصر وليبيا الكثير من الاضطراب، والقلاقل. وقد قرر الكاتب أن يحكي عن تجربته التي عاشها في ليبيا في تلك السنوات وكيف عاني المصريون البسطاء علي ايدي ما يسمي بنظام الكفيل، ويروي الكاتب، ضمن سيرته الذاتية، هناك عن اختفاء مصريين في ظروف غامضة، بالإضافة إلي تعرض بعضهم للقتل، أو التهديد بذلك، ويصف كيف تصدر القوانين العشوائية، وما يناقضها بما يجعل المرء لا يعرف ماذا سيحدث بعد قليل ومثلما كاتب الناقد اشرف البولاقي، عن هذه الرواية، أن «البطل الرئيسي في الرواية نفسها هو ادريس علي نفسه، وليس هذا استنتاجا من مضمر أو مسكوت عنه، لكنه تصريح من الكاتب داخل العمل، حيث يناديه الآخرون يا ادريس، وحين يقول هو عن نفسه أنه مصري من النوبة، وما إلي ذلك من إشارات وردت أثناء سرده تاريخ رحلته الحقيقية، للعمل والارتزاق بالدولة العربية الصغيرة.