تعد مصر مقصدا لكل مفكر يبحث عن الحرية ومناخا مهيئا لنشر هذا الفكر التنويري فإليها لجأ الإمام الشافعي وأقام فيها حتي وافته المنية ومن الإصلاحيين في تاريخنا المعاصر نجد لجوء المصلح جمال الدين الأفغاني ومثيله السوري عبدالرحمن ألكواكبي إلي القاهرة . التاريخ يعج بالأسماء المؤثرة في تاريخنا العربي والتي طاب لها المقام في مصر حيث نجد أن لجوء مفكرين وأدباء وشعراء إلي القاهرة والإقامة فيها ليست ظاهرة وليدة اليوم، بل تعود إلي عهود كثيرة مضت، واللافت أن هذه المدينة ما زالت تجذب مزيداً من الشعراء والأدباء للإقامة والاستقرار فيها ونشر باكورة أعمالهم. لا نستطيع حصر أسماء المبدعين الذين شكلوا ما يعرف بظاهرة «اللجوء الأدبي في مصر»، ولا نستطيع أيضاً أن نطلق عليهم لقب «شعراء المهجر»، فليس من مهجر في الوطن العربي. وحول مصر وما توفره من حرية للمبدعين، كتب شاعر القطرين خليل مطران معبراً عن إعجابه بهذا البلد في عام 1908: مصر العزيزة إن جارت وإن عدلت مصر العزيزة إن نرحل وإن نقم نحن الضيوف علي رحب ومكرمة منها وإنا لحافظون للذمم جئنا حماها وعشنا آمنين بها متمتعين كأن العيش في حلم . أبرز الأدباء الذين هجروا أوطانهم للاستقرار في مصر حيث انطلقت شهرتهم الأدبية وذاع صيتهم، الأديبة اللبنانية مي زيادة صاحبة الصالون الأدبي الذي كان يؤمّه المجددون من الشعر، «شاعر القطرين» اللبناني خليل مطران والذي بدأ ثورته علي الشعراء التقليديين بديوان «الخليل» الصادر في مصر عام 1908، الأديب اللبناني جرجي زيدان صاحب روايات تاريخية تميزت باتجاه تنويري واضح. وقد لجأ زيدان إلي التاريخ العربي - الإسلامي شاجباً الاستبداد السياسي، ومن أعماله الروائية «فتاة غسان، عذراء قريش، عبد الرحمن الناصر، صلاح الدين الأيوبي»، وفي مصر أنشأ مؤسسة «دار الهلال» الصحفية في أواخر القرن التاسع عشر. في اللائحة نفسها يحضر الروائي اللبناني الشيخ نجيب الحداد، الذي هاجر إلي مصر عام 1873 واشتهر بالتعريب وتأليف الروايات، وحاول أن يوازن بين الشعر العربي والغربي في اللفظ والمعني ليضع أمام المجددين حقائق عن الشعر الغربي يسيرون علي هديها، ومن بين رواياته المترجمة "غصن ألبان" و"الفرسان الثلاثة ". أما الأديب والطبيب اللبناني شبلي شميل فقد أكمل دراسته في باريس ورفض العودة إلي لبنان وقرر الإقامة في مصر حيث مارس مهنة الطب وألف وترجم عدداً من الكتب أبرزها: «أصل الأنواع» و«شكوي وأمل» الصادر عام 1896 . بعض الأدباء انطلق من مصر، لكنه لم يستقر فيها. هاجر الأديب اللبناني أحمد فارس الشدياقي إلي مصر في عام 1825 وبرز دوره الأدبي من خلال كتاباته في الصحف ومشاركاته في الندوات الأدبية، ثم هاجر إلي فرنسا ومنها إلي الآستانة في عام 1860 . كذلك صدر للروائي والقاص اللبناني سهيل إدريس مسرحية «زهرة من دم» في مصر عام 1969. وهجر الشاعر العربي اللبناني الأصل ألبير سعيد أديب المكسيك للإقامة في مصر حيث أصدر ديوانه الوحيد بعنوان «لمن؟» عام 1952، وأسس مجلة «الأديب» عام 1942 والتي استمرت بالصدور حتي وفاته عام 1983 . يقيم في مصر راهنا عددا من الشعراء والروائيين والموسيقيين العرب منها أسماء بارزة أمثال الموسيقار العراقي نصير شمة والمايسترو سليم سحاب الفلسطيني الأصل واللبناني الجنسية وقضي معظم حياته في القاهرة ويحمل الجنسية المصرية . ومن الشعراء يبرزالشاعر السوري عدنان عبد الوهاب البرازي، والذي استقر به المقام في القاهرة منذ عام 1992 بعد ترحال وتجوال بين عدد من البلدان العربية. ويقول: «مصر هي عاصمة الثقافة العربية الدائمة نظراً إلي ما تتمتع به من حرية واسعة في التفكير والتعبير، وبالتالي في الثقافة والنشر، ووسط هذا الجو الثقافي المشبع بالحرية أصدرت حتي الآن 17 ديواناً منذ إقامتي في مصر، وثمة 17 ديواناً تحت الطبع». ويؤكد أن مصر ملجأ كل مثقف عربي يعاني من الغربة بسبب آرائه وقناعاته الفكرية. عاني البرازي من مواقف ضد آرائه جرّت عليه الويلات، لكنه يرفض ذكرها لأنها ماضٍ يحاول نسيانه، موضحاً أن حرية الرأي في العالم العربي معدومة، «فواقعنا العربي تعيس، يسوده خصام وتناحر وأهداف خارجية ضد النهضة العربية تحققها فئات عربية وتقبض الثمن، لذا نعيش أزمة كبري ويحيط بنا كثيرون مهمتهم مطاردة كل فكر حر وتعبير صادق ودعوة للعلم، لكن لا يجب أن نيأس أبداً كما عبّرت في ديواني «لن أيأس يا زمني»». اضطهاد في مصر أيضاً الروائي العراقي خضير ميري الذي عاني الاضطهاد والسجن والتعذيب طوال 14 عاماً، ووضع في مصحات نفسية بسبب آرائه الثقافية وإيمانه بالحرية، فهرب وتجوّل بين البلدان حتي استقر به المقام في مصر منذ ست سنوات أصدر خلالها ثمانية أعمال روائية هي (جن وجون وجريمة) ورواية (أيام العسل والجنون) ومجموعة قصصية وكتاباً نثرياً بعنوان (آته) وديوان نثر بعنوان (سارق الحدائق) ورواية (ذبابة علي الوردة) كما صدر عنه كتاب بعنوان (خضير ميري ... مسارات ورؤي - نصوص وشهادات وحوارات) . يري ميري أن حرية التعبير تحتاج إلي قاموس جديد لتعريف العقل العربي علي معني الحرية، «فالحرية في الوطن العربي أصبحت تعني الاحتيال والنصب علي السلطات، وبالتالي لا وجود للمعادلة الجدلية المتقابلة بين الحرية أو عدمها. والعالم العربي علي اختلاف شعوبه وثقافته تسيطر عليه ثوابت سلطوية وقمعية تتقاسمها بصورة مشتركة أو متفاوتة السلطة السياسية الحاكمة المتمثلة في المؤسسات الثقافية والحكومات، بالإضافة إلي السلطات الثقافية الحارسة والضوابط الأخلاقية الصارمة التي يمثلها الشعب، ونحن ككتاب نعاني من السلطتين. فالشعب ينهل من خطابه الديني ومن موروثه الاجتماعي ومن محرماته وتابوهاته، ما يساعد علي تحنيط مهمة الخطاب الثقافي في التعبير وحرية الرأي والطرح ويؤدي إلي انتحاره ببطء. كذلك يتسبب موقف الشعب والسلطة الحاكمة من حرية التعبير في فتح نافذة جديدة مع الآخر الأوروبي والهروب إليه كما فعل أسلافنا وأكبر مثال علي ذلك "شعراء المهجر". يضيف ميري قائلا : الوطن لا يعوض وفي نفس الوقت لا يستطيع الحياة في وطن لا يشعر فيه بالحرية التي لابد لها من صمام آمان فالحرية التي لا أمان فيها تصبح كارثة ولعنة وسجنا خاصة للمبدع وأنا لم أشعر بهذا الأمان في عهد صدام ولا في عهد من جاء بعده للحكم . طاب المقام في القاهرة كذلك للشاعرة والروائية والناشرة الكويتية أسرار الجراح والتي استقرت بشكل دائم في مصر منذ عام 2000 وفي القاهرة تفجرت المواهب الإبداعية لديها في الأدب والشعر والرواية حيث بدأت إصدار أعمالها الأدبية من القاهرة . تقول أسرار الجراح : كانت بداياتي الأدبية في القاهرة ولم يكن في موطني الكويت وذلك لأن الحياة في الكويت منغلقة والقاهرة مكان خصب للأدب والفن والإبداع والشعب المصري يقدر ويتجاوب مع جميع الأشكال الإبداعية ،ويحتمل أن روح الأدباء المصريين واحتفائهم بالمواهب والمبدعين هي العامل الرئيسي في اكتشافي لما أمتلكه من ملكات وإبداع فروح الأدباء المصريين هي التي دفعتني للكتابة والنشر ومع كل احتفاء بصدور عمل لي يشعرني بالفرحة والحماس للمواصلة والتطوير والتجويد المستمر . تضيف أسرار قائلة : صدر لي منذ إقامتي في القاهرة وحتي الآن عدد من الدواوين منها ( فارسة الكلمات ، إعصار قلب، رصيف الضيوف ، صمت الصبايا ، دعوة للجنون ) وفي مجال الروايات صدر لي ( بئر الثعبان ، حنين الغرباء ) كما صدر عدد من المجموعات القصصية والأغاني التي تغني بها المطربين العرب والمصريين . تؤكد الشاعرة اللبنانية تغريد فياض والتي تقيم في القاهرة منذ عام 2005 أنها لبنانية الأصل لكنها كويتية المولد وعاصرت حرب الخليج ثم انتقلت للعيش في جدة ثم أبو ظبي وعاشت في الولاياتالمتحدةالأمريكية للدراسة . وتشير تغريد إلي أن هناك عدة أسباب كانت وراء استقرارها في مصر أولها تعلقها بهذا البلد الرائع والذي جعلها تعشق مصر روايات نجيب محفوظ التي قرأتها في صغرها وهناك سبب آخر أنها زارت مصر لأول مرة عام 2000 وأعجبها شكل الحياة فيها مع تناقضاتها الكثيرة وشعرت أنها بلد يلهب حماس الشعراء والأدباء فمصر تمتاز بأن لها مناخا ثقافيا رهيبا وذلك بشهادة كل المبدعين العرب المقيمين فيها ،هذا المناخ يشجع علي الابداع كما التعامل مع الأدباء في القاهرة سهل وجميل وممتع حيث يتم التعامل علي أنك واحد منهم وليس دخيل عليهم . وتري فياض أن الفرق بين مصر والدول الأخري ليس فقط في توفير مناخ حرية الإبداع ولكن تتمتع مصر عن غيرها من الدول بوجود عدة متناقضات تشجع علي الكتابة وتداعب الخيال حيث توجد أماكن مكتظة بالسكان وأخري تعاني الضوضاء وثالثة تعاني الهدوء ورابعة تتمتع بمناظر خلابة وساحرة كل مكان في مصر يجعل الإنسان يشعر بأنه يعيش في عدة دول وليس دولة واحدة حيث لم أجد ذلك في أي دولة خليجية ومصر فيها خليط ليس موجودا في أي دولة حتي الولاياتالمتحدةالأمريكية كذلك فالناس في مصر والأوساط الأدبية يعملون علي إبراز المبدع حيث الحرص علي حضور الندوات الأدبية فالجمهور المصري المتذوق للثقافة هو الذي يعمل علي شهرة المبدع . تقول تغريد فياض : مارست الكتابة الأدبية منذ الصغر في الكويت ونشرت لي أشعارا وقصصا قصيرة في الصحف الكويتية والإماراتية لكن إصدار الكتب بدأ في القاهرة حيث صدر لي عام 2006 ديوان ( قلب علي سفر ) وأعيدت طباعته في الشهور الماضية والديوان الثاني صدر عام 2009 بعنوان ( هل من مرافئ ) وفي انتظار صدور ديوان باللغة الإنجليزية يضم الأشعار التي كتبتها خلال فترة إقامتي في الولاياتالمتحدةالأمريكية وحاليا أعكف علي كتابة روايتي الأولي بعنوان ( علي خيط طائرة ورقية ) كذلك هناك فكرتان لروايتين أنوي الشروع في كتابتهما بعد انتهائي من كتابة الرواية الحالية . تقول الشاعرة السورية خديجة مكحلي : أقيم في مصر منذ ثماني سنوات ولا أشعر بالغربة مطلقا فهي أجمل بلد في الدنيا وأهلها يمتازون بالكرم والترحيب بكل الناس ولا يشعرونهم أنهم غرباء عنهم فأنا في القاهرة اشعر أنني في سوريا كأنني لم أتركها كما أن الشارع الثقافي المصري يحتفي بالكتاب العرب ويكفي أن تعرف أن جميع كتبي القصصية والشعرية صدرت في القاهرة وكان لها صدي وانتشار كبير بين النقاد والمثقفين المصريين فقد صدر لي مجموعات قصص قصيرة وأربع دواوين شعرية آخرها ديوان ( ليس في مرآتي سواك ) . تضيف مكحلي قائلة : القاهرة تختصر الطريق وتعفي الشاعر من عناء البحث عن ناشر أو قارئ في مدينة معطاءة وتجزل العطاء خاصة للشعراء أكثر من أي بلد آخر . أما الشاعر الفلسطيني الأصل الأردني الجنسية محمد سعيد الغول، والذي طاب له المقام في مصر منذ عام 1973 بعد إنهاء أعماله في المملكة العربية السعودية حيث مكث 10 أعوام، فلديه ستة دواوين، ثلاثة منها صدرت عام 2003: «إبحار إلي شواطئ الأحلام، ديوان الجمال، ومضات وظلال»، والثلاثة الأخري صدرت عام 2008 بعناوين «أبناء الصباح، أغاني الأصيل، المقاومة قدرنا». يشير الغول إلي الحفاوة التي يقابل بها في الندوات والمنتديات الثقافية وما حققته دواوينه الشعرية من صدي أدبي في الوسط الثقافي المصري. وعن لفظ المهجر يقول: «لفظ المهجر لا يشمل الدول العربية، بل يطلق علي القائمين في دول غير عربية. أما الدول العربية فكيان واحد وليس فيها غربة أو انفصال». أما الشاعر السعودي محمد بن حبيب العلوي فعلي الرغم من أنه أصدر ديوانه الأول «ذات الشعر الغجري» في السعودية، إلا أن ابن حبيب حرص بعد ذلك علي صدور أعماله في مصر «كي تلقي صدي ثقافياً متميزاً»، وأصدر في مصر إلي الآن أربعة دواوين هي «عندما تبكي الحروف، الحسناء والرسام، شادي الجراح ، حافية القدمين » وقيد الطبع عدد آخر من الدواوين .