منذ أسابيع قليلة.. رحل المثال فاروق إبراهيم.. بعد أن ترك بصمة كبيرة في الإبداع النحتي.. تكمل حلقة من حلقات النحت المصري الحديث التي بدأها مثال مصر مختار. ونحن نقول: عفوًا أستاذنا الجليل.. وهل ننساك وأعمالك ماثلة بيننا.. نطالعها كل يوم؟!.. مثل تمثال الشهيد عبدالمنعم رياض بميدانه بالقرب من المتحف المصري.. وإذا كان ليس أجمل أعمالك إلا أن فيه قبسا من روحك وروحه.. وعلي مقربة منه بميدان التحرير يطل تمثالك عمر مكرم أمام مسجده الشهير.. يفرض سطوته بقوة علي الفراغ.. بتشكيله البليغ الذي يموج بسحر الزمن في نسيج من النغم. وكانت آخر مشاركة لفناننا الراحل ما قدمه في مثل هذه الأيام من العام الماضي بصالون مصر الذي ينظمه قطاع الفنون التشكيلية بقاعة أفق «1».. في إطار مهرجان الإبداع التشكيلي. التعبيرية والنحت الميداني إذا كان النحت المصري المعاصر قد عكس الطبيعة والتراث بجلال الفن المصري القديم.. كما استلهم الموروث الشعبي.. إلا أنه أيضًا انشغل بتلك التحولات التي شهدها المجتمع والتحم بالنبض القومي والقضايا الإنسانية.. كما جسد أزمة الإنسان المعاصر.. وقد شكل تلك الملامح ببلاغة شديدة وانتقل من ثرثرات الحكي والتشخيص إلي ملاحم تعبيرية تنساب بالرمز ورصانة التجريد.. كل هذا بشاعرية في الأداء وثراء الفكر وتجليات الدهشة.. مع جرأة التناول والبساطة والنقاء والانسياب.. حتي أصبح النحت المصري حاليًا متفاعلاً مع اتجاهات الحداثة. ويعد الفنان فاروق إبراهيم واحدًا من رموز النحت المعاصر.. وهو صاحب لمسة خاصة ومتميزة في الإبداع.. تمتد أعماله في اتجاهين متوازيين لا يلتقيان أبدًا. وقد برع في كليهما: النحت الميداني.. والنحت التعبيري الذي وصل به إلي ذري التجريد. في التمثال الميداني حقق الفنان مكانة كبيرة بكلاسيكية في الأداء والتناول الواقعي الأكاديمي المسكون بحيوية اللمسة.. مثل تماثيله لحافظ إبراهيم وطلعت حرب وتوفيق الحكيم.. وتمثاله الضخم لعباس العقاد الذي يطل بارتفاع يربو علي ثلاثة أمتار بأسوان وهو صاحب تمثال عمر مكرم الذي يشتمل علي قيم فنية وتشكيلية عديدة وفي نفس الوقت يمثل خطوة وإضافة جديدة بالنسبة لتمثال الميدان.. فهو مع تميزه بالثبات والاتزان.. فيه من قوة الزعيم الوطني الصلابة والصرحية والتحدي.. وقد استحضر فيه روح الزعيم الثائر.. فصوره يحمل كتابًا في يده ويشير إلي الحق باليد الثانية.. وقد انزاحت جبته رمزًا لتلك الرياح العاتية التي كان يواجهها.. وربما كان ينقصه ارتفاع القاعدة التي كانت بحاجة إلي أن تتضاعف.. حتي يتحاور مع مبني مجمع التحرير حيث يقف هناك. ومع الإبداع النحتي في تمثال الميدان تنوعت أعماله من النحت البارز بمترو الأنفاق وبانوراما أكتوبر وأكاديمية الشرطة. أما الجانب الآخر من شخصية فاروق إبراهيم الفنية.. فقد تمثل في تلك المساحة الخاصة والتي تنوعت فيها أعماله برؤي فنية عديدة.. رؤي تعبيرية من الأعمال التي غلب عليها الطابع الشعبي والتي جمع فيها بين مفهومه للتشكيل والنحت الحديث.. وقد تحررت منها الكتلة من كل الرواسب التقليدية.. وخرج بها في آفاق جديدة تتسم بالتعبيرية والرمزية.. إلي أن وصل إلي أقصي درجات التجريد في تشكيلات حرة مسكونة بالسطوح والتموجات الصريحة والفتحات والفجوات. مرسم الأقصر والأستاذية ولا شك أن وراء تلك الشخصية الفنية خلفية كبيرة من الثقافة والدراسة والوعي والدأب في التشكيل.. فقد التحق فاروق إبراهيم بكلية الفنون الجميلة وتخرج فيها عام 1962 وحصل علي جائزة مرسم الأقصر عام 1968 وبعد حصوله علي درجة الماجستير في النحت عام 1972 سافر في منحة دراسية إلي إسبانيا وحصل علي درجة الأستاذية في فن النحت من أكاديمية سان فرناندو بمدريد عام 1977. وهو يقول: أي فنان يبدأ من حيث بدأ وانتهي السابقون له وأنا في أعمالي الأولي كنت واقعيًا وأنتمي للمدرسة الواقعية في النحت والتي تعني الارتباط بالطبيعة ومحاكاتها ثم بالدراسة والممارسة والثقافة باتت نظرتي تتغير ارتباطًا بالوعي والخبرة.. الأمر الذي نتج عن ذلك مجموعة أعمال غلب عليها الطابع الشعبي مثل مراسم السبوع والزواج وبعض الألعاب الشعبية.. وفي هذه الأعمال كنت أحاول ربط المفهوم الشعبي بحجم التمثال وشكله وبالطبع فإن ذلك يختلف عن الفن المصري القديم في زاوية مهمة وهي أن الفنان المصري الأول اعتمد في النحت علي حجر الجرانيت الذي قيد حركته في نحت الأطراف كالأيدي والأرجل ولذلك لم نجد عملاً مصريًا قديمًا انفصلت فيه اليد عن جسم التمثال.. وكانت الأطراف ملتصقة بشكل كلي بجسم التمثال أو بالكتلة مما لم يعط للفنان المصري القديم حرية في أن يجعل هناك مرونة في التعبير من خلال الشكل عن انفعالات الموضوع». ومن هنا يقدم فاروق إبراهيم صياغات جديدة للكتلة تخرج علي القوانين الصارمة ولا تنتمي للأشكال السابقة عليها.. أهم ما يميزها تلك العلاقات التشكيلية التي تشكل فيما بينها تناغمًا وتناسقًا.. بين الكل وأجزائه.. وبين الكتلة وعلاقتها بالفراغ.. خاصة وأعمال فاروق إبراهيم من نوعية النحت الذي يصنع حوارًا مع الفراغ.. فهو لا يقتحم الحيز الفراغي بقدر ما يتعايش معه من خلال الانكسارات الدائرية والنتوءات والتداخلات مع الملامس الخشنة في أعماله التعبيرية التي تأخذ طابعًا أسطوريًا.. أما أعماله التجريدية فتشكل نفس الصيغة من التعايش ولكن بشكل آخر.. من تنوع السطوح والمزج بين الزوايا الحادة والاستدارات والانحناءات.. مع الفتحات والفجوات. وإذا كانت بداية أعمال الفنان التعبيرية تتسم بالطابع الشعبي والتعبير عن الحياة الاجتماعية المصرية خاصة في الريف كما في تشكيلاته «سلال» و«وفلاحة» و«طين محروق من طمي النيل»، وحصل بها علي جائزة مختار.. إلا أنه انتقل إلي أعمال تعبيرية خالصة تفلت من طائرة الطبيعة وتتحرر من قيودها.. ولا تخضع لأحكام الواقع لأنه لا يقتصر علي تسجيل المظاهر الحسية للحياة اليومية.. وإنما يهدف إلي إبداع مجسمات وكائنات إنسانية مستفيدًا من منجزات النحت العالمي الحديث بكل اتجاهاته والتي بدأت في القرن العشرين مع ثورة الفن الحديث.. وهو هنا يعي تمامًا أن الفنان المعاصر يملك حرية كاملة في التعبير وينسج من ذاتيته ما يشاء ولا رقيب أوسلطان عليه.. ولذلك اتجهت أعماله للفردية والتفرد الشديد والنظرة الشخصية للأشياء وهذه ميزة كبيرة تدفع بالنحت المعاصر. الطابع الأسطوري من بين أعمال الفنان فاروق إبراهيم تظل أعماله التعبيرية ذات الطابع الأسطوري ربما أجمل أعماله.. فهي تتميز مع الحذف والاختزال والإضافة والتكتيل والمبالغة في الاستطالة والملامس والسطوح الدائرية الخشنة بسحر خاص.. بمزيج من الأداء العصري واللمسة المسكونة بمسحة القدم.. فيها عمق الزمن وفيها تجليات وإشراقات روحية. كل هذا مع مصريتها الشديدة ويكمن تألقها الروحي من تأثير الفن القبطي والفن الشعبي معًا.. فهي أشبه بالعرائس والإيقونات.. وفي بعض الأعمال نري فيها استلهاما من النحت الروماني من حيث النظرة ومعالجة الشعر في بعض الشخوص.. وقد بلغت هذه الأعمال درجة عالية من التعبيرية التي تفيض بالمشاعر والأحاسيس.. فهي تشع بالإنسانية ومكنونات النفس البشرية. وهو في هذه الأعمال يؤكد استيعابه الشديد للحضارة المصرية بدءًا من الجذور الأولي في الفن المصري القديم إلي الفن القبطي والشعبي بالإضافة إلي النحت الإغريقي والروماني ليس من حيث الأداء ولكن من حيث المعني والتعبير والإيحاءات. وهو في حوار له مع د.أسامة السروي يقول: الفنون بشكل عام منشؤها الروح والتقاليد المستمرة في أعماق الوجدان الإنساني والجانب التقني منها رغم أهميته.. لا يشكل عاملاً جوهريًا في تكوينها.. فالفنون علي اختلافها.. أو اختلاف فروعها هي لغة تواصل بين مجموعة محدودة من البشر في المقام الأول.. ومبدأ نبذ الماضي.. إذا كان يصدق علي النظريات العلمية التي تتطور نحو الأكمل فإن الأمر يختلف أشد الاختلاف في الفنون التي لا يحكمها قانون للتطور بهذا المعني فالأشكال الجديدة فيها لا تكفي ما سبقها بل تشتق من ثناياها وتضيف إليها.. وتاريخ الفن يحفل بنماذج عديدة من فنانين وطرز بأكملها مشتقة من مراحل قديمة بل موغلة في القدم.. فالفن الكلاسيكي استمد من الفن الإغريقي.. والمصور الإنجليزي وليم بليك اعتمد في أسلوبه علي الطراز القوطي وبول جوجان أخذ من الفن البدائي. وإذا كان هذا هو حال الفنانين فإن الكيان الفني لأمة من الأمم خاصة إذا كانت تتمتع باستمرارية كبلادنا إنما هو حلقات متصلة لا يمكن فصل احداها عن الأخري كما لا يمكن المفاضلة بينها.. ولقد كان محمود مختار كفنان عظيم يمثل قدرة كبيرة علي البحث داخل أغوار الكيان الفني المصري عبر تاريخ الطويل مستكشفًا إمكانيات الامتداد ووصل به ما انقطع منه». وفناننا الراحل يجسد صورًا من الحياة.. ويختار عناوين لأعماله غاية في البساطة رغم عمق القيمة مثل: «امرأة تسير»- «امرأة جالسة».. كما يجسد لحظات إنسانية مثل: «امرأة ترتدي الثياب» و«الحبيبان» و«وجه» بالإضافة إلي بعض التكوينات الشاعرية. في تمثال «الجالسة» تستطيل الكتلة وتضيق من الوسط ثم تنفرج في كتلة عرضية من المقعد إلي الساقين وهي تحمل وجهًا صغيرًا دقيق الملامح مسكونا بالغموض غارقا في الصمت.. وتبدو جدائل الشعر بشكل القوس المقلوب أشبه بتاج النخلة وهو هنا يضفي علي العمل درامية شديدة من خلال المعالجات الدائرية في الثياب والتي تبدو في تلافيف وارتفاعات تحرك السكون الذي يعكسه الطابع العام للتمثال. وفي تمثال «امراة تسير» يبدو الرأس صغيرًا دقيقًا أيضًا وترق القدمان مسكونتان بحركة خفيفة أما الثياب فتبدو هنا فضفاضة يؤكد اتساعها وبراخها من خلال الكتل التي تبدو في اتجاهات عديدة موحية. وفي تمثال «امرأة ضارعة» ترتفع الذراعان إلي أعلي تقتحم الفراغ وكأنها تكاد تطير من فرط الحركة التي تبدو في حالة صراع مع حركة الثياب الدائرية.. وهو تمثال ابتهال يجسد لحظة شديدة الإنسانية. أما أعمال فاروق إبراهيم التجريدية فهي تمثل مساحة تشكيلية خالصة اعتمد فيها علي عناصر جمالية عديدة من الفتحات والانحناءات والاستدارات والأقواس مع المزج بين اللمسات المسطحة واللمسات الدائرية وهي أعمال تمتد باستطالة وبعضها يحمل روح الأبراج.. أبراج الحمام الريفية بفتحاتها مع النحافة والاستطالة الشديدة ومع كل هذا تطل منحوتته «حمامة السلام» هذا العمل البديع الذي يجمع بين التجريد والتلخيص الشديد.. وبين التشخيص.. وهي من أعماله التي تمثل إحدي علامات فنه.. فيها دقة الأداء والانسياب والصرحية.. وفيها من معاني الحب والسلام والحنان من خلال الرأس الصغير الدقيق الذي يضيق وينحني بشكل قوس من الرقبة التي تنفرج عن الجسد المتسع والذي ما إن يضيق مرة أخري حتي ينفرج عن الذيل في معالجات متعددة السطوح.. ويظل جمال التمثال في الرأس المنمق الدقيق والذيل المروحي الذي يتصل بكتلة الجسد.. ومن فرط الرقة والرشاقة والشاعرية نكاد نستمع باعيننا هديل حمامة السلام. تحية إلي روح المثال فاروق إبراهيم بعمق التشكيل والتعبير الذي تجسد بأزميل شديد المصرية.