كان للفنون الجميلة مكانتها الخاصة والمتميزة فى الحياة المصرية منذ أقدم العصور، فمعارفنا الأساسية عن الحضارة المصرية القديمة وصلتنا من خلال الإبداعات الفنية للإنسان المصرى، تلك الإبداعات التى صورت لنا حياته ومعتقداته وثقافته وفكره، ولم تتوقف هذه الإبداعات عبر العصور، ورغم مرور لحظات من الظلام والاعتام تراجع فيها الإبداع الفنى فى مصر، إلا أن الروح المبدعة تظل حية كامنة يعبر عنها الإنسان المصرى من خلال فنونه الشعبية. وفى مطلع القرن الماضى، ومع بوادر حلقة جديدة من حلقات نهضة مصر الحديثة، بدأ اهتمام قادة الفكر والرأى فى مصر بتشييد المؤسسات الحديثة للتعليم وإحياء ما قتله الاحتلال البريطانى منها، فتعالت الدعوة إلى إنشاء المدارس وتأسيس الجامعة الأهلية، وتضافرت جهود المصريين من أجل خروج هذه المشروعات إلى النور، فوقف إلى جانب الدعوة قادة الأحزاب الرئيسية: الحزب الوطنى وحزب الأمة وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، جنبا إلى جنب مع بعض قادة الفكر النابهين وعددا من أفراد الأسرة الحاكمة. وفى هذا السياق قام الأمير يوسف كمال بإنشاء أول مدرسة للفنون الجميلة سنة 1908، وخرجت المدرسة دفعتها الأولى سنة 1911، وأوفد الأمير واحدا من هؤلاء الخريجين إلى باريس لاستكمال دراسته، إنه محمود مختار (10مايو 1891 27 مارس 1934). وعندما قامت ثورة سنة 1919لم يكن مختار قد أكمل عامه الثامن والعشرين، كان لا يزال فى باريس، وهناك شارك مع الطلاب المصريين فى تكوين حركة لدعم الثورة المصرية والدعاية لها، عرفت باسم «الجمعية المصرية»، وبعد سفر الوفد المصرى إلى باريس برئاسة سعد زغلول تحولت تلك الحركة إلى جماعة لمساندة الوفد ومساعدته فى الدعاية للقضية المصرية، وقد انسحب مختار من «الجمعية المصرية»، كما تكشف رسالة شخصية وجهها لصديقه وزوج شقيقته محمود أبوغازى فى نوفمبر سنة 1920، يفسر فيها انسحابه من الجمعية بأن هناك يدا أخرى بتشتغل فيها، لكنه لم ينسحب من مساندة الثورة والتعبير عنها. لقد انفعل مختار مثل كل المصريين بالثورة وأحداثها، وقرر أن تكون مساهمته فيها من خلال فنه، فنحت تمثالا يعبر عن الثورة، التى اعتبرها نهضة للشعب المصرى، وقدم هذا التمثال إلى معرض الفنون الجميلة فى باريس فحصل على شهادة تقدير. ولفكرة التمثال قصة، فعندما انفعل مختار بأحداث ثورة 1919 نحت تمثالا يعبر عن هذه الثورة على غرار النحاتين الأوروبيين، الذين جسدوا الثورات والأحداث الكبرى فى التاريخ الأوروبى، فجاء التمثال على هيئة رجل متوثب يرتدى عقالا ويستل سيفه من غمده، لكن مختار تراجع عن الفكرة وحطم التمثال، ولم يتبق منه سوى صورة فوتوغرافية نشرها الناقد جبرائيل بقطر لأول مرة فى الذكرى العاشرة لرحيل مختار. ونحت مختار بعدها رمز النهضة الذى نراه إلى اليوم شامخا فى مدخل الطريق المؤدى إلى جامعة القاهرة، لقد سمى مختار تمثاله «نهضة مصر» لأنه رأى أن الثورة كانت التعبير الحى عن روح النهضة الشاملة والبعث الوطنى، فجاء التمثال على هيئة فلاحة مصرية تستنهض «أبو الهول» من ثباته العميق ليربط بذلك بين نهضتنا المعاصرة وتراثنا المصرى القديم. وكان إنجاز مختار للتمثال مواكبا لسفر الوفد المصرى لعرض قضية البلاد فى باريس ولندن والدعوة لاستقلال مصر، فتعرف أعضاء الوفد على مختار وشاهدوا التمثال قبل عرضه على الجمهور. وقد أعجب الزعيم سعد زغلول بالتمثال وعبر عن إعجابه هذا فى رسالة بخط يده بعث بها إلى مختار أشاد فيها بالعمل وبالمعنى الرمزى الذى يحمله، فقال سعد فى رسالته: «حضرة المصور الماهر مختار» شاهدت المثال الذى رمزت به لنهضة مصر فوجدت أبلغ رمز للحقيقة، وانهض حجة على صحتها، فأهنئك على هذا الخيال الواسع، وهذا الذوق السليم وهذا الفن الساحر، وأهنئ مصر بأنك من أبنائها العاملين على إعادة مجدها وأرجو الله أن يعين هذه النهضة حتى تبلغ كمالها فتشفع مثال النهضة بمثال الاستقلال والسلام سعد زغلول «باريز 6 مايو سنة 1920» لقد كان لعرض التمثال فى فرنسا أصداء فى الصحافة الفنية الأوروبية، فتوالت مقالات الإشادة بالعمل الفنى الجديد خاصة أنه أول تمثال صرحى لنحات مصرى يراه العالم بعد تماثيل قدماء المصريين. أما فى مصر فقد عرف الناس التمثال من خلال أربعة مقالات كتبها مجد الدين حفنى ناصف فى جريدة الأخبار، التى كان يصدرها أمين الرافعى، واتخذ لها عنوانا واحدا: «النهضة الفنية فى مصر». وفى أعقاب هذه المقالات الأربعة أرسل الدكتور حافظ عفيفى، وكان من ضمن أعضاء الوفد المصرى، برسالة إلى أمين الرافعى رئيس تحرير الأخبار يقترح فيها أن تتبنى الجريدة الدعوة لاكتتاب عام لإقامة تمثال النهضة فى أحد ميادين العاصمة، وتلقف الرافعى الفكرة وتبنى الدعوة لها، فنشر فى اليوم التالى بجريدة الأخبار نداء لاكتتاب قومى عام تحت عنوان: «نهضة مصر دعوة إلى الأمة المصرية»، وساند فكرة الاكتتاب اثنان من أعضاء الوفد المصرى هما ويصا واصف وواصف غالى، فنشر الأول مقالا بعنوان «محمود مختار والنهضة الفنية فى مصر»، ونشر الثانى مقالا تحت عنوان «واجبنا نحو مختار». وتلقت الأمة الدعوة فتوالت التبرعات على جريدة الأخبار من كل أنحاء مصر.. مدنها وقراها... قروشا وملاليم قليلة، لكنها تعبر عن يقظة الروح المصرية، كانت حركة الاكتتاب لإقامة التمثال حالة حشد للجماهير خلف الثورة وأهدافها تماما مثلم كانت حركة جمع التوقيعات على توكيل الوفد لتمثيل الأمة منذ انطلاقها عقب مقابلة 13نوفمبر سنة 1918 الشهيرة حرثا للأرض وحشدا للشعب على طريق الثورة. ومن بين الرسائل التى بعث بها المكتتبون مع قروشهم القليلة اخترت رسالة لعامل اسمه الشحات إبراهيم الكيلانى، كان فاعلا بهندسة السكة الحديد بالزقازيق، تكشف رسالته عن الروح الجديدة، التى سرت فى جسد الأمة، تقول الرسالة التى نشرتها الأخبار: «إننى رجل فقير جدا، أشتغل بهندسة السكة الحديد الأميرية بوظيفة فاعل، ويوميتى 70 مليما، ومتزوج بيتيمه الأب، وأم زوجتى تبيع ترمسا، ولى شغف بقراءة الصحف عن عهد النهضة المصرية الأخيرة، بينما كنت جالسا أقرأ جريدتكم الغراء بكيت بكاءً شديدا، فسألتنى زوجتى عن سبب بكائى فأخبرتها عن التبرع لتمثال نهضة مصر، ولم يكن معى نقود أتبرع بها خلاف 200 مليم، فقالت زوجتى: إنها تتبرع بمائة مليم أيضا، وقالت أمها مثلها، وكذلك فعل أخوها وعمره 15سنة، أما أختها البالغة من العمر 13 سنة فقالت إنها لا تملك إلا 50 مليما فتبرعت بها، ولى طفل عمره سنة ونصف كانت أمه وفرت له 50 مليما فأحضرتهم، فأصبح المجموع 600 مليم، فأرجوكم أن تتقبلوا منا هذا المبلغ القليل لتوصيله إلى أمين صندوق تمثال نهضة مصر، وتتوسطوا فى قبوله ونكون لكم من الشاكرين، هذا وإنى أدعو جميع الفعلة زملائى فى الزقازيق وخلافها وأدعو أيضا جميع العمال للتبرع لتمثال نهضة مصر لنتسابق مع أسيادنا الأغنياء زادهم الله من فضله». ملاحظة بين قوسين (بعد سنوات قليلة يظهر اسم الشحات إبراهيم فى الصحف مرة أخرى كواحد من قادة الحزب الشيوعى المصرى، الذين اعتقلوا فى أول قضية شيوعية فى مصر سنة 1924، بعد حركة إضرابات عمالية واسعة). لقد كانت هذه هى الروح التى فجرتها ثورة 1919 فى الشعب المصرى فاستنهضت داخله أنبل وأقوى ما فيه، لقد اجتمع من الاكتتاب الشعبى مبلغ 6500 جنيه، وطلبت اللجنة المشكلة لتنفيذ التمثال من الحكومة الترخيص بإقامته فى ميدان المحطة فى مدخل العاصمة، ميدان رمسيس حاليا. فقرر مجلس الوزراء فى 25 يونيو سنة 1921 الموافقة على ذلك، وأن يكون إنشاء القاعدة وإقامة التمثال تحت إشراف وزارة الأشغال، وأكملت الحكومة المبالغ المالية اللازمة لتنفيذ المشروع. لقد كان تمثال النهضة تعبيرا عن عصر جديد وروح جديدة فى العمل الوطنى وفى تطور الفن المصرى، وعن التمثال يقول الناقد التشكيلى بدر الدين أبو غازى فى كتابه المثال مختار: «تمثال نهضة مصر هو أول تمثال أقيم فى العصر الحديث، هو بدء عودة الحياة إلى الأزميل الذى هوى من يد آخر فنان فرعونى، وقد جاء تعبيرا عن فكرة قومية، ومعنى هز مشاعر الجموع، وبه بدأ الإحساس بالفن كضرورة قومية، وكان لظهور التمثال وإقامته من أحجار الجرانيت دلالات رمزية ردت إلى الناس الثقة وجعلته نشيدا من أناشيد الأمل فى عصر النهضة، لقد سيطر تمثال نهضة مصر على حقبة من الحياة المصرية، كان الشعب يعتبر هذا التمثال تمثاله، وكان المفكرون يدركون دلالة إقامته وما يحمله من معنى انتصار فكرة الحرية وإرادة الشعب. ومن هذه الاعتبارات استمد التمثال قيمته التاريخية فضلا عن قيمته الفنية». كان اللقاء الثانى بين مختار وثورة 1919 بعد الثورة بثمانى سنوات، وعلى وجه التحديد فى عام 1927 عقب وفاة سعد زغلول، حيث قررت الحكومة تخليد ذكراه، بإقامة ضريح له، وتمثالين واحد بالقاهرة والثانى بالإسكندرية، ثم بعد ذلك تحويل بيت سعد «بيت الأمة» بعد رحيل أم المصريين إلى متحف ومزار قومى، وقد تم تكليف مختار بإقامة التمثالين، وكانت لمختار مقولة شهيرة، إن فى ذهن كل مصرى تمثال لسعد زغلول، وبالفعل قام مختار بإنجاز ما كلف به، وما زال تمثالاه لسعد زغلول شامخين يشهدان على قدرة الفنان ومكانة الزعيم فى آن واحد. من خلال تمثالى سعد بالقاهرةوالإسكندرية سجل مختار مجموعة من القيم والمفاهيم السياسية والوطنية، فلم يكن التمثالان مجرد تجسيد لشكل الزعيم وملامحه الشخصية، ولم يكونا مجرد تمثالى ميدان كغيرهما من التماثيل, التى جمّلت ميادين القاهرة منذ القرن 19. لقد كانت المرة الأولى التى يحول فيها فنان مصرى تمثال الميدان الشخصى إلى عمل ملحمى يعبر عن ثورة شعب وطموحاته وأهدافه وأمانيه القومية، فقاعدة تمثال الإسكندرية قامت على مشاهد تسجيلية لأحداث ثورة 1919، ورمزين مجسمين للوجهين البحرى والقبلى. وحين صور مختار العدالة والدستور والاستقلال على قاعدة تمثال القاهرة كان يسجل أهدافا يسعى الشعب المصرى إلى تحقيقها من خلال نضاله الوطنى وحين صور أصحاب الحرف ومشاهد العمل فى الريف وعلى صفحة النهر كان يخلد أبناء هذا الشعب الذين ثاروا سنة 1919 فى نحت جدارى ميدانى لأول مرة، لقد كان بناء قاعدة تمثال سعد الجرانيتية فى القاهرة تشكيلا متكاملا مع تمثال الزعيم الذى يعلوها، إنها ليست مجرد قاعدة ترفع التمثال, ولكنها تحمل إشارة واضحة إلى أن القاعدة بما فيها من بشر وقيم وأهداف هى التى رفعت الزعيم وحملته ليحتل مكانه البارز فى وجدان وتاريخ الأمة. فعاد مختار ابن ثورة 1919، الذى أعادت الثورة تشكيله ليشكل مرة أخرى ملحمة الشعب والثورة ويخلد من خلال أعماله الميدانية الثلاثة الثورة المصرية العظيمة ثورة 1919.