عندما حطم المقاتل المصري خط بارليف المنيع في حرب اكتوبر المجيدة عام 1973 فإنه كان يحطم أيضا نظرية الأمن الإسرائيلية التي كانت وليدة الثقافة الصهيونية وإحدى تجلياتها الاحتلالية، فيما تواجه هذه الثقافة اليوم تحديات لافتة داخل إسرائيل. في الذكرى ال 41 لحرب أكتوبر المجيدة تعبر مصر من عتمة ليل إلى انبلاج فجر وإشراقات أمل وتتمسك بالسلام العادل وتدرك أن الحكمة الإنسانية ستنتصر والأهداف النبيلة لابد وأن تتحقق يوما ما في منطقة عانت طويلا من الظلم والخيارات المشوهة والايديولوجيات المتطرفة حتى بلغت الحيرة مداها واستبدت الفوضى في الإقليم. وفي ذكرى هذه الحرب الماجدة لتحرير الأرض تمر الصهيونية كثقافة احتلالية وعقيدة استيطانية وايديولوجية للدولة العبرية بمتغيرات بقدر ماتواجه تحديات وتفرز ظواهر وظواهر مضادة حتى بات السؤال يتردد اليوم :"الصهيونية إلى أين"؟. ومن الأهمية بمكان قراءة الصهيونية في سياق عالمي يتفق كثير من المحللين على أنه يمر بلحظات تحول من نظام قديم يسقط لنظام جديد لم تتضح بعد كل ملامحه في عالم ملييء بالمتغيرات وقد لاتنفرد الولاياتالمتحدة بقيادته المستقبلية وإذا كان مفكر سياسي مصري مثل الدكتور بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة قد وضع يوما ما طروحات بشأن إمكانية حل الصراع العربي - الإسرائيلي عبر تفريغ إسرائيل من ايديولوجيتها الصهيونية فإن السفير السابق والكاتب والمثقف المصري معصوم مرزوق قد أبدى أيضا اهتماما بهذه القضية وان اجتهد الآن بصورة مختلفة مع اختلاف المشهد وتوالي المتغيرات . وفيما يرى معصوم مرزوق أن الممارسات العنصرية لإسرائيل تشكل مع الفقر والتخلف الجذور الحقيقية لظاهرة الإرهاب فإنه قال إن "إسرائيل اليوم غير قادرة بنفسها على التخلي عن رسالتها أو تعديلها لأن القوى الصهيونية التي انشأتها قد حبستها في هذا الطريق الذي هو طريق الصهيونية" كما ان قادة اسرائيل لايريدون ذلك لأنهم هم انفسهم كانوا اعضاء في الحركة الصهيونية. وبالتالي-كما يقول مرزوق-فان اي مبادرة يجب ان تواجه وتعدل بشكل حاسم مايسمى "مهمة اسرائيل الصهيونية" وهذه المبادرة لايمكن ان تنبع من داخل اسرائيل وانما من خارجها كوسيلة لتفادي حرب كبيرة او حتى حرب عالمية يحتمل ان تستخدم فيها اسلحة الدمار الشامل. ومن المنظور التاريخي وفي ضوء التراث النضالي لكل حركات المقاومة والتحرر الوطني في العالم فان الشعب الفلسطيني كان يحق له الشروع في المقاومة منذ ان بدأت الصهيونية في تنفيذ الموجة الأولى لهجرتها المنظمة الى فلسطين عام 1882 منذرة بخطر الاستعمار الاستيطاني في ارض عربية وهو نوع من الاستعمار يختلف نوعيا عما تعرض له اغلب الوطن العربي من احتلال اجنبي. وغني عن البيان ان هذا الاحتلال الصهيوني الاستيطاني في موجاته المتتالية ومستجداته المفاجئة يستدعي حركة مقاومة على اعلى مستوى من الوعي النضالي وامتلاك البوصلة التي توجه المقاومة في الاتجاه الصحيح لتحرير الأرض الفلسطينية من اقسى انواع الاستعمار دون السقوط في مستنقع الانقسام او الوقوع في خطيئة التدخل في الشؤون الداخلية لدول عربية من بينها من قدم شعبها اغلى التضحيات وجاد بالأرواح من اجل قضية فلسطين. وواقع الحال ان محللين امريكيين من بينهم ناثان ثرال المتخصص في قضايا منطقة الشرق الاوسط يتفقون على ان التطورات في المنطقة ومن بينها المواجهة العسكرية الأخيرة في قطاع غزة تثبت ان الوقت قد حان للتعامل بجدية مع عملية السلام ودفعها للأمام. واذا كان الاستيطان اليهودي يدخل في صميم الايديولوجية الصهيونية بأبعادها الأسطورية فان ناثان ثرال الذي يتخذ من القدس مقرا له قد رصد تململا واضحا وانتقادات غير خفية في مؤسسات واوساط امريكية هامة حيال الأنشطة الاستيطانية فيما تشمل هذه المؤسسات والأوساط البيت الأبيض واجهزة الأمن القومي وهيئة تحرير صحيفة نيويورك تايمز. وعشية الذكرى ال 41 لحرب اكتوبر توالت الأنباء حول عزم السلطات الاسرائيلية تنفيذ مشروع استيطاني جديد في القدسالشرقيةالمحتلة يتضمن بناء اكثر من 2600 وحدة سكنية فيما تحدث رئيس حكومة اسرائيل بنيامين نتنياهو عن "تغيرات جوهرية " تشهدها منطقة الشرق الأوسط فيما تمسك بضرورة "اعتراف الفلسطينيين بالهوية اليهودية لدولة اسرائيل". ويكشف استمرار الممارسات الاستيطانية عن عدم تخلي الصهيونية عن مقولتها الفجة والتلفيقية التي زعمت ان "فلسطين ارض بلا شعب" وان لليهود حقهم التاريخي في هذه الأرض فيما تتجه حكومة بنيامين نتنياهو بوضوح نحو تبني مايعرف "بالصهيونية الجديدة" كنسخة اكثر يمينية وعدوانية استيطانية من الصهيونية الكلاسيكية بمفاهيمها التقليدية. وباديء ذي بدء لاحاجة للتأكيد من جديد على ان العرب هم مثل اليهود من الساميين كما انه غني عن البيان ان الديانة اليهودية هي ديانة سماوية تحظى بكل الاحترام اما الصهيونية فهي حركة سياسية عانى العرب من افكارها وممارساتها بل انها في قلب المظلومية التاريخية التي تعرض لها شعب بأكمله هو الشعب الفلسطيني. ومن هنا يقول معصوم مرزوق ان الشعوب العربية ترى اسرائيل "كعميل للقومية الصهيونية التي ارتكبت في حقهم العديد من المظالم" مؤكدا على ان العرب لايعادون اليهود كأفراد او اليهودية كدين وانما الاشكالية تبقى في الطابع العدواني للصهيونية وهو موضوع حظى من قبل باهتمام قلة من المثقفين المصريين مثل الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري فضلا عن الاديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني . ومن نافلة القول ان حرب اكتوبر شجعت تيارات داخل اسرائيل تدعو للسلام بعد ان ادركت مدى مايمكن ان يتسبب فيه التطرف الصهيوني من خسائر فادحة للاسرائيليين وبعد ان اسقطت هذه الحرب المجيدة عمليا نظرية الأمن الاسرائيلية التي تقوم على التوسع واحتلال اكبر قدر ممكن من الأرض العربية. وكان نتنياهو قد اتهم "حركة السلام الآن" الاسرائيلية ضمنا ودون ان يذكرها بالاسم بأنها تقف وراء التسريبات بشأن التحرك الاستيطاني الجديد لحكومته في القدسالشرقية بقصد تخريب مباحثاته مع الرئيس الأمريكي باراك اوباما. وفي هذا السياق أيضا فان ثمة حاجة ثقافية فلسطينية وعربية لملاحظة ظواهر داخل المجتمع الاسرائيلي قد تساعد في تفكيك الصهيونية كايديولوجية خطرة على اليهود انفسهم بقدر خطورتها على المنطقة والعالم ككل , ومن بين هذه الظواهر مايعرف بظاهرة المؤرخين اليهود الجدد. وهذه الظاهرة التي تستنكرها الصهيونية تعيد قراءة التاريخ بصورة اكثر انصافا عبر مثقفين اسرائيليين مثل الأكاديمي ايلان بابيه صاحب كتاب "الفلسطينيون المنسيون" والذي يجهر بحق العودة للفلسطينيين فضلا عن حقهم المشروع في المقاومة مادامت اراضيهم محتلة. ويعتبر مثقفون يهود عن حق ان الصهيونية كايديولوجية قومية استيطانية منغلقة تهدد الاستنارة وتخاصم الليبرالية بمعناها الحقيقي كما انها لايمكن ان تنتصر للعقل وهي تعلي من افكار التفوق العرقي وفلسفات القوة الغاشمة. ويبدو التاريخ ميدانا للمواجهة بين ظاهرة المؤرخين اليهود الجدد والصهيونية الجديدة التي تفرض حضورها الايديولوجي في مناهج التعليم داخل اسرائيل لتنكر تماما اي وجود تاريخي وحقيقي للشعب الفلسطيني فيما يمكن تلمس بذور هذا الاتجاه الصهيوني الجديد في مقولة اطلقتها رئيسة وزراء اسرائيل الراحلة جولدا مائير في مطلع سبعينيات القرن الماضي وتضمنت سؤالا استنكاريا عما اذا كان هناك شعب يدعى بالشعب الفلسطيني! . وفي ضوء انتماء جولدا مائير لحزب العمل الذي يحلو له التشدق بمقولات اشتراكية وارتداء زي اليسار يمكن القول بأن الصهيونية الجديدة تجمع كما جمعت الصهيونية القديمة مابين من ينسبون انفسهم لليسار او لليمين او يتوزعون مابين حزب العمل وكتلة الليكود. وفي المقابل ، فان ظاهرة المؤرخين الجدد التي تتحول الى تيار ثقافي يضم اسماء عديدة لمثقفين في اسرائيل مثل ميشيل مزراحي و ثيودور كاتز وبينى موريس وشلومو ساند لها تجلياتها في الطروحات التاريخية والابداعات الشعرية والروائية وكلها مضادة للصهيونية وداعية "لحل انساني ومنصف للصراع الاسرائيلي-الفلسطيني" وقد تشكل مع تناميها سببا من اسباب مراجعة حقيقية في الغرب وخاصة الولاياتالمتحدة للسياسات المؤيدة لاسرائيل بصورة مطلقة وان كان لايمكن واقعيا افتراض ان تؤدي في المدى القريب لتخلي الغرب عن هذه السياسات بصورة جذرية. ويقول المحلل الأمريكي ناثان ثرال في طرح بدورية "نيويورك ريفيو اوف بوكس" ان هناك قناعة داخل تيار يتبلور في السياسة الخارجية الأمريكية ويدعو من منطلق نقد الذات لمراجعة العلاقات مع اسرائيل بأنه "في غياب اي ضغط امريكي على الاسرائيليين فانهم سيفضلون استمرار الوضع القائم". واذا كان هذا التيار كما اوضح ثرال يضم شخصيات امريكية نافذة ومن بينها الرئيس باراك اوباما ذاته وهو ملتزم بالحفاظ على امن اسرائيل رغم ملاحظاته النقدية والمنتقدة احيانا لسياساتها فقد ذهب معصوم مرزوق في طرح بجريدة الاهرام الى ان الدول التي تدعم اسرائيل وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة لايزال بيدها مفتاح السلام لأنها هي التي تملك التأثير على سلوكها بوسائل لاتصل الى حد الحرب. وهذا التأثير كبير لأن وجود اسرائيل نفسها-كما يؤكد مرزوق- لايزال معتمدا على دعم هذه الدول التي يمكنها ممارسة هذا التأثير من خلال ربط دعمها المستقبلي بآداء اسرائيل في افعال محددة مطلوبة لانهاء الصراع بشكل يشبه موقف المجتمع الدولي من نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا. وتابع مرزوق ليقول ان افضل من يتخذ مبادرة تقود الى هذا الهدف هو الولاياتالمتحدةالأمريكية لأنها الدولة التي تعتمد عليها اسرائيل في وجودها ونقطة البداية في هذا الاتجاه قد تكون من خلال ايضاح امريكا لموقفها فيما يتعلق بمفهوم "قومية الشعب اليهودي" بما يتضمنه ذلك من معان تتعلق بالولاء المزدوج والجنسية المزدوجة والاعفاء من ضرائب الدخل على الأموال التي تجمع في امريكا من اجل اسرائيل لتستخدم في انشطتها السياسية والعسكرية في اطار المفهوم الصهيوني. في هذا السياق ، يمكن توقع التعاون من الشعب العربي عندما يقتنع-على حد قول معصوم مرزوق-بأن هذا الاتجاه لحل الصراع مؤسس على النوايا الحسنة اما فيما يتعلق باسرائيل فهو يتوقع انها لن توافق على هذا المدخل على الأقل في المرحلة الأولية لأنه يتضمن فكرة تفكيك الصهيونية اليهودية وهي اساس نشأتها. غير ان معصوم مرزوق الذي تولى من قبل منصب رئيس تحرير مجلة الدبلوماسي التي تصدر عن وزارة الخارجية المصرية اعتبر انه من الضروري ان يكون هناك استعداد للمجتمع الدولي لفرض اجراءات ضد اسرائيل وقال :"المطلوب هو جهد محدد بشكل جيد تقوده الولاياتالمتحدةالأمريكية لأن اغفال خطورة الوضع الحالي قد يؤدي الى مخاطر هائلة على العالم ولايمكن لأحد ان يتصور ان تستمر معاناة الشعب الفلسطيني بلا نهاية". بطابع الحال هذه الرؤية تتطلب نوعا من الاصطفاف العربي بما يحفز او يضغط على الولاياتالمتحدة لممارسة ضغوط على اسرائيل غير ان المشهد العربي الراهن والمثخن بالجراح والتهديدات الوجودية للكيانات الوطنية لايبدو مواتيا لمثل هذه الرؤية وبالتأكيد فهو يختلف عما كان عليه اثناء حرب السادس من اكتوبر. والثقافة الصهيونية يهمها كثيرا "آلا يتعانق الهلال مع الصليب" في كل دول المنطقة ويسعدها اشتعال الفتن الطائفية والمذهبية كبرهان على فشل نموذج الدولة القومية الحديثة في العالم العربي والترويج لهندسة سياسية جديدة تقسم هذا العالم على اسس طائفية ومذهبية بزعم انها اكثر واقعية وادعى للاستقرار. وقد تذهب النفوس حسرات على ماحل ببلدين عربيين كانا في مقدمة الدول العربية الداعمة عسكريا لمصر وسوريا في حرب اكتوبر وهما العراق وليبيا ناهيك عما يحدث الآن على التراب السوري ذاته فيما يبدو الفكر الاستراتيجي العربي مدعوا لمزيد من الاستبصار والتحليل حول قضية "توظيف التطرف بسبل مختلفة ومعقدة لصالح اعداء الأمة". ومن أهم الأسماء التي تعبر عما يسمى بالصهيونية الجديدة اليوم وتثير العديد من التساؤلات الكاتب والناشط الفرنسي برنارد ليفي الذي لايتورع عن اتهام الاسلام كدين بالفاشية فيما قام بدور مشبوه لتحريف الربيع العربي عن مساراته الثورية النقية ومحاولة توظيف انتفاضات الشعوب العربية بما يخدم اعداء هذه الشعوب. وفي كتابه عن الثورة الليبية بعنوان "الحرب دون ان تحبها..يوميات كاتب في قلب الربيع العربي" يتحدث برنار هنري ليفي عن تأثيره الكبير على الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزى لاتخاذ القرار بالتدخل العسكري في ليبيا واسقاط نظام معمر القذافي. وبرنار هنري ليفي ولد يوم الخامس من نوفمبر عام 1948 في الجزائر الخاضعة حينئذ للاحتلال الفرنسي ينتمي لعائلة يهودية ثرية فيما عرف بدفاعه المستميت عما يسمى "بالديمقراطية الاسرائيلية" ضمن الايديولوجية الصهيونية غير ان الملاحظة اللافتة حقا ان انشطته تكاد تتركز بالدرجة الأولى في العالم العربي-الاسلامي. فهو الحاضر في قلب احداث شبه القارة الهندية اثناء حرب 1971 التي اسفرت عن تقسيم باكستان وظهور دولة بنجلاديش بينما يصف برنار هنري ليفي هذه الحرب في كتابه "بنجلاديش القومية والثورة" "بحرب التحرير ضد باكستان" . واذا كان برنار ليفي قد حرص على زيارة ميدان التحرير في قلب القاهرة لتلتقط له صور تذكارية في هذا المكان برمزيته الثورية السامية فهو لم يكن بعيدا عن احداث خطيرة في افغانستان ودارفور فيما يسرد في كتابه يومياته عن الثورة الليبية وهو الذي لم يتحرج من ان يجهر بالقول امام مؤتمر نظمه مجلس المنظمات اليهودية في فرنسا :"لقد شاركت في هذه المغامرة السياسية بصفتي يهوديا" . وواقع الحال ان مثقفين فرنسيين من اصحاب القامات العالية تصدوا لمغالطات ليفي مثل عالم الاجتماع الشهير ريمون آرون الذي فند اباطيل كثيرة في كتاب "الايديولوجية الفرنسية" كنموذج لتحيز وعنصرية برنار ليفي وكذلك الفيلسوف بيير فيدال الذي حدد عبر تشريح موضوعي لكتاب برنار ليفي "وصية الله" الصادر عام 1978 الأخطاء التي وقع فيها ليفي بل انه اعتبر هذا الكتاب بمثابة نوع من الدجل الفكري ان جاز التعبير. وفي الحياة الثقافية الفرنسية الثرية يبدو ان برنار هنري ليفي مصاب بعقدة "سارتر ومالرو" فهو يحاول عبثا ان يكون في شهرة او تأثير الفيلسوف والمفكر الفرنسي الراحل جان بول سارتر او يصل لقامة المفكر والروائي والوزير الراحل اندريه مالرو حتى انه استهل كتابه عن الثورة الليبية بعبارة لمالرو يقول فيها :"آه ليت النصر يظل مع الذين يقومون بالحرب دون حبها"!. لكن اندريه مالرو لم يكن ابدا ينتمي لتيار الصهيونية الثقافية وافكاره ثورية بحق ولاعلاقة لها بما يقوله برنار ليفي عن دوره المزعوم في الربيع العربي وانه ماكان يقوم بهذا الدور لو لم يكن يهوديا ناهيك عن تفاخره "برفع راية الاخلاص والولاء للصهيونية ولاسرائيل"!. ولو اراد برنار هنري ليفي ان يبحث عن نموذج يقتدي به فعليه ان يتجه بلا عناء للمستشرق البريطاني-الأمريكي برنارد لويس كعلم من اعلام تيار الصهيونية الثقافية وبأفكاره الداعية لتأجيج الصراعات المذهبية واشعال الحروب الطائفية في العالم الاسلامي. وتيار الصهيونية الثقافية الذي ينتمى له برنار هنري ليفي يسعي عامدا للخلط بين العداء للسامية وهي مسألة مرفوضة ومدانة بلا اي تحفظات وبين رفض الممارسات الاسرائيلية بحيث تتحول اسرائيل الى "وثن مقدس لايجوز نقده مهما ارتكبت من جرائم"!. وحالات الترويع الاسرائيلية للمثقفين والفنانين والمبدعين حول العالم حاضرة وطازجة في الذاكرة فيما تحدثت صحف ووسائل اعلام منذ فترة ليست بالبعيدة عن حملة عاتية تعرض لها كيان ثقافي للسينما المستقلة في فرنسا يعرف بالاختصار :"أوتوبيا" بسبب تضامن هذا الكيان مع القضية الفلسطينية بل ان الأمر وصل لحد ان تخصص صحيفة لوموند افتتاحية للهجوم على "أوتوتبيا"!. وفيما لفتت قضية "أوتوبيا" اهتمام صحيفة نيويورك تايمز غير انها تعاملت معها بحيادية كما تقول آن ماري فوكون احد مؤسسي هذا الكيان السينمائى الفرنسي المستقل والذي تنتشر صالاته السينمائية في خمس مدن بفرنسا فان اسم المفكر الأمريكي اليهودي وعالم اللغويات الكبير نعوم تشومسكى سيبقى مضيئا بمواقفه المدافعة عن الحق والمضادة للثقافة الصهيونية. هذا مثقف لايعرف اي حسابات يمكن ان تنال من قيمة المثقف وصدقيته والتزامه بالدفاع عن العدالة والحرية والمساواه في زمن الحسابات الذي قد لايبدو فيه غريبا ان تحجم صحيفة مثل "لومانيتيه" الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الفرنسي عن اتخاذ موقف مساند للكيان السينمائي المستقل "أوتوبيا" في مواجهة هجمات تحريضية ضارية من المجلس التمثيلي للمنظمات اليهودية في فرنسا والمعروف بالاختصار "كريف"!. ومن الأهمية بمكان في هذا السياق ملاحظة ان "أوتوبيا" التي لم تسلم من اتهامات بالعداء للسامية تعرض افلاما اسرائيلية عديدة لكنها افلام مناهضة للثقافة الصهيوني رغم ان كل المشاركين فيها من اليهود. ولعل النظرة الأكثر عمقا في هذا السياق وبما ينطوي عليه من اسئلة والتباسات-تستدعي العودة لمفكر كبير في حجم وقامة جان بول سارتر الذي ساند قضايا تحرر الزنوج في امريكا كما ساند الجزائريين في ثورتهم ضد الاستعمار الفرنسي وثورات شعوب الهند الصينية فضلا عن الثورة الكوبية . في عام 1944 كتب جان بول سارتر كتابا نشره بعد ذلك بعنوان :"اليهودي والمعادي للسامية" وفي هذا الكتاب يدافع عن اليهود ويؤكد على ان "العداء للسامية ليس رأيا ولايستحق التسامح معه باسم حرية الرأى فيما رفض سارتر النظر لليهود كجنس او قومية لكنه يرى ان اليهودية "حالة او موقف" وان الذي خلق هذا الموقف الخاص هم "الآخرون الذين وضعوا اليهود داخل اطار محدد او رسموا لهم سياجهم". فسارتر يعتبر ان المشكلة اليهودية هي مشكلة الآخرين قبل ان تكون مشكلة اليهود وعدو السامية عند سارتر هو رجل خائف لايخاف من غيره ولكنه يخاف من نفسه ومن غرائزه وهو جبان لايريد ان يعترف بجبنه لنفسه ولذلك يفسر العالم تفسيرات غير عاقلة. في كل ذلك كان جان بول سارتر يتحدث عن اليهود في سياق اوروبي لاعلاقة للعرب الساميين به فيما ركز على وضع اليهود في فرنسا لأنه يتحدث عن ظاهرة الاضطهاد في بلاده معتبرا ان العلاج هو استيعاب اليهود في المجتمع الفرنسي وضرورة ان تتسع الديمقراطية في هذا المجتمع الى أقصى الحدود حتى لاتميز بين الفرنسي الكاثوليكي والفرنسي اليهودي. واذا كان تحليل سارتر قد انطلق من البعد النفسي فان المفكر الشهير كارل ماركس سعى لتحليل القضية في دراسة صدرت عام 1844 بعنوان:" المسألة اليهودية" بمنهج اجتماعي بينما اتجه المفكر والمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي للتحليل التاريخي. وفيما التزم سارتر الصمت حيال اسرائيل وممارساتها وجرائمها بما في ذلك تشريد ملايين الفلسطينيين ليتناقض بذلك مع مواقفه الآخرى الرائعة حيال قضايا مثل الجزائر والزنوج في امريكاوالهند الصينية فان توينبي كانت خلاصة رأيه "ان اسرائيل خطأ يعالج خطأ اخر وان الصهيونية طرحت العداء الذي تعرض له اليهود في السياق التاريخي الأوروبي على شعب عربي ليس مسؤولا عن هذا العداء ولم يشارك فيه ابدا". ولقد قالها احد الآباء الثقافيين المصريين وهو عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين :"لقد كانت فلسطين دائما عربية وينبغي ان تبقى كذلك"..ولعل المشهد اليوم يدعو للقول بأنه ينبغي للاسرائيليين انفسهم مواجهة الصهيونية كثقافة من اجل السلام لهم ولكل شعوب المنطقة. انها الثقافة التي اهتزت منذ 41 عاما بعد ان هزم المقاتل المصري واسقط مع شقيقه السوري وكل المقاتلين العرب نظرية الأمن الاسرائيلية كثمرة مريرة من ثمار هذه الثقافة الاحتلالية العدوانية..فتحية اكبار لهذا المقاتل الذي ركب عواصف النار والدم وعبر القناة ليحرر الأرض وينتصر للسلام العادل..تحية لمن حطم نظرية الأمن لمحتل غاصب وثقافة عدوانية وحولها لصرخة هالعة من حصون متهاوية.