يتسلل إلى القلب مع أول رنين ينطلق من صوته، ولا تجد مهربا منه سوى بالغرام الذي يوحدك مباشرة مع الدهشة، ولن تكف عن الصراخ داخل قلبك لتشكر صوته الغارق في الوجد، فلا يمكن لمن لم يسمع الشيخ محمد الهلباوي، أن يتخيل كيف تبدأ المحبة بين الخالق والمبتهل، الأخير يقف بمحاذاة الصمت الطويل الذي يوحده بالخالق، تدريبات كثيرة توصله لصوفية تدرك الفرق جيدًا في المسافة بين الخالق والمخلوق، مسافة تمحى حين يشتعل الوجد، ولكنها تكون حاضرة في ذهن المبتهل حتى لا يكون فريسة لوحدة الوجود التي تذيب ما بين الخالق والمخلوق من تأدب، وقبل الوصل الجميل يقف الشيخ بتأدب كامل وهو يقول لله: سأحبك كما لم يحبك أحدًا من قبلي ولا بعدي. وقبل أن يهدأ قلبه يشتعل بالحب الصافي، ويبدأ في سرد قصة المحبة ليفتش عن ماهية الخالق برؤية المؤمن الذي يقف عاجزًا عن الوصف، فيقول له: قل لمن يفهم عني ما أقول، فسر القول فذا شرح يطول أنت لا تعرف إياك ولا تدرى من أنت ولا كيف الوصول كيف تدري من على العرش استوى" وقبل أن يستمر في الأسئلة يباغتك بتسليمه بعظمة خالقه وهو يبتهل: لا تقل كيف استوى كيف النذور؟ كيف تجلى الله أم كيف يرى؟ فالعمر ليس ذا إلا فضول هول ا أين ولا كيف وهو في كل النواحي لا يزول جل ذاتا وصفاتا وسماء وتعالى قدره عما نقول وهنا يفاجئك بإدراكه الكامل أنه لم يبدأ دعوته بحثًا عن ماهية الخالق كما يخادعك بالأسئلة في بداية ابتهاله، بل يضعك مباشرة في مواجهة عظمة القداسة التي تمحو الشك، فكيف نشك ونحن غير قادرين على تصور تجلي عظمته على الأرض حتى نفتش في ماهية الخالق. لا يتركك الشيخ الهلباوي إلا ويغرقك أكثر في المحبة، فهو رجل كريم لا يحب أن يتمتع بسرد جماليات الخالق دون أن تشاركه هذا البهاء الكامل، وهو يقف مذهولًا بجماله فيغرق في دوائر من القداسة، ويحكى لنا تفاصيل الوجد الذي ألم بقلبه فجعله أسيرًا لتلك المحبة الأبدية، وهو يحكى ولعه: ذكرك في عيني وذكرك في فمي.. وحبك في قلبي فأين تغيب وسرك في روحي وذاتي وخاطري.. وكلى محتاج وأنت قريب فجوز لي بعوف منك يا مبدع الورى.. فأنت سميع للدعاء مجيب الوصول إلى هذا البهاء في الابتهال ليس مستندًا إلى الكسل، فالهلباوي قبل أن يصل إلى الله ظل سنوات كثيرة يتحمل مشقة الوصول، وهو يدرس المقامات الشرقية في معهد الموسيقي العربية لدراسة علم النغم والسولفيج، لدرجة جعلت إحدى مدرسات الكونسرفتوار تنبهر بأدائه، وتقول له: كيف تتنقل بين المقامات دون آلة مساعدة أو نوتة تذكرك، فقال لها وكيف تقبلتم أنتم هذا الإنشاد رغم أنكم لا تعرفون العربية، فكان ردها: لقد أخذتنا إلى عالم نحسه ولا ندرك مداه. هذا المدى سيلازم ابتهال الشيخ الجليل الذي سيخلص في مشواره ولا يكف عن النداء رباااااااااااااه.. أنا ذا خلصت من الهوى.. واستقبل القلب الخلى هواك وتركت أنسى بالحياة.. ولقيت كل الأنس في نجواك"... رحلة الإخلاص في مشوار"الهلباوى" ستكون دافعًا له لدراسة قواعد وأصول الابتهال، لأنه أدرك أن المبتهل هو سفير للإسلام وليس بالضرورة أن يغرق في متاهات ودوائر السياسة التي تلوث أرواح الأبرياء. أدرك "الهلباوى" أن رسالته لا يمكن أن تكون سجينة نطاق بلاده فقط، وهو ما دفعه إلى نشر الابتهال خارج العالم العربي، وسافر إلى عدد كبير من دول العالم ليكون سفيرًا للإسلام عن جدارة وعندما كان يبتهل: يا من عليه مددت يدى.. استر ما أنت به أعلم واغفر يا ربى خطايانا.. من يقصد عفوك لا يندم كانت الأجساد تتمايل مع الرجاء وهى ترقص مع صوت الوجد الذي يخاطب كل البرية ولا يقتصر على قلب المسلم فقط. أدرك الشيخ المتفتح الأفق أن الابتهال هو دائرة تتسع لكل القلوب التي تنشد السلام فأخلص له وكان أشد ما يحزنه في مشوار حياته أنه لا توجد مدرسة واحدة لتعليم الابتهال، في الوقت التي انتشرت المدارس لتعليم هذا الفن في كل ربوع العالم. لا يمكن تذكر "الهلباوى" - رحمه الله عليه - دون العودة إلى طفولته التي لا يمكن إنكار دورها في بناء جسد شخصيته، سنجد أن الطفل تربى وسط إخوة بلغ عددهم 17، وكان الوالد منشغلا بالبحث عن الرزق لإطعام أطفاله، ولكنه لم يهمل في الوقت نفسه تربيه أبنائه رغم كثرة عددهم فكان الكتاب ملجئا لهم لتعليمهم ونبغ فيه "الهلباوى" ليكون أبرز إخوته ليتم حفظ القرآن وهو لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره ومن هنا انطلقت رحلته لسماع مشايخ القراء وكبار الموشحين ليلتحق بعدها بمعهد القراءات بالأزهر الشريف، ثم يلتحق بمعهد الموسيقى ليستقر في النهاية بمدرسة المشايخ لأنه أدرك أنها الأصل، فالابتهال كان لديه صنو الدين وكان يعرف أن الهدف الوحيد منه هو ترقيق القلب والارتقاء بالروح إلى عالم السمو في الكون الفسيح إلى ما لا نهاية. لقد أيقن المنشد التنويري أن ما صدر من القلب لا بد أن يصل إلى القلب وهو يصر على إدخال النغم إلى الإنشاد الديني لأنها اللغة الوحيدة التي يفهمها كل الناس. سيحب شعر "لبيد ابن ربيعة" وهو من شعراء المعلقات الذي كانت تعلق أشعاره في جوف الكعبة المشرفة في الجاهلية وغيره من شعراء المعلقات وخلال رحلته سيعاهد نفسه على أن يعشق الشعر ويتقن مخارج الألفاظ وسيتعلم المقامات ليخلق تنوعا وإبهارا في الأداء.