ما بين سيفٍ يلمع على خاصرة السلطان، وبين مسبحةٍ تدور في أنامل وليٍّ مطمئن، يمتد تاريخ خفيّ، موازٍ لما تحفظه الكتب وتدوّنه الحوليات؛ تاريخٌ تسري فيه خيوط النور لا الحبر، ويُكتَب بالغياب أكثر مما يُكتب بالحضور، وتُقام دوله في القلوب لا على الخرائط. ذلك هو التاريخ الذي يسعى كتاب "سلاطين المتصوفة" للدكتورة نظلة أحمد الجبوري إلى بعثه من أعماقه، لا باعتباره مجرد سردٍ لسِيَر رجالٍ لبسوا الخرق وتزيّنوا بالفقر، بل كرحلةٍ في جوهر السيادة حين تتحرر من السلطة، وفي معنى السلطان حين ينبت من التواضع، وفي عمق الإنسان حين يكتشف أن الملك الحقيقي لا يُورَّث بل يُوهب، ولا يُنتزع بل يُستحق. إن هذا الكتاب لا ينتمي إلى تصنيفٍ تاريخيٍّ صرف، ولا يُقارب التصوف كمجرّد نسك أو عزوف، بل يغوص في تلك المنطقة الملتبسة التي يلتقي فيها الباطن بالظاهر، حيث يكتسب الشيخُ مهابته لا من عمامته، بل من سرّه؛ وتُفتَح له الأبواب لا لأن الملوك أمَروا، بل لأن الأرواح أذعنت. فما السلطان، إذًا، في هذا السياق؟ أهو من يحكم الأجساد، أم من يسوس الأرواح؟ أهو من تُرفع له الرايات، أم من تتهدّج عند ذكره القلوب؟. في أزمنة الترف والطغيان، كان المتصوفة حُراس المعنى، يُذكّرون الأمة أن الغاية ليست في البناء، بل في البصيرة؛ لا في القصر، بل في القلب؛ لا في القوة، بل في الإشارة. فليس في هذا الكتاب وصفٌ لسلاطين الزمان، بل إعادة تعريفٍ لفكرة السلطنة ذاتها، تلك التي لا تقوم على الجباية، بل على الجاذبية الروحية؛ ولا على الغلبة، بل على الغيبة؛ ولا على الهيمنة، بل على الهيبة.
لقد نشأ التصوف في قلب التجربة الإسلامية كاستجابة روحية عميقة للحيرة الوجودية، ولم يكن، كما يُخيّل لبعض السطحيين، مَهربًا من العالم، بل تجلّيًا داخليًا لمعنى التورّط فيه. فالعالم لا يُقهر بالقوة، بل يُعاد تأويله بالمحبة؛ والعدل لا يتحقق بالعقوبة، بل بالإحسان؛ والسلطان لا يُبنى على الهيمنة، بل على التجلي. وفي هذا الأفق، نبتت شخصيات المتصوفة التي يستعرضها الكتاب، لا بصفتهم "مُدرّبي طرق"، بل كرموزٍ كونية، كأقطاب جذبٍ روحيّ، يدور حولهم الناس لا ليُصلّوا فقط، بل ليستعيدوا توازنهم في عالمٍ ينهار. فعبد القادر الجيلاني لم يكن رجلًا من لحمٍ ودم، بل صار، كما يصوّره الكتاب، طيفًا نورانيًا، مرجعيةً يتقاطع عندها الشأن الروحي بالشأن الاجتماعي. وأبو الحسن الشاذلي لم يكن مؤسس طريقة فحسب، بل كان معلّمًا للحكمة في زمنٍ اشتدّ فيه التيه، ومُنقذًا للذوق حين شحّ الماء. ومحيي الدين بن عربي، ذاك الذي نعته بعض الفقهاء بالزندقة، هو في جوهره، كما يتجلّى هنا، إمبراطور الرموز، وسلطان المتخيّل، وصوت الإنسان الكامل في عالمٍ مجتزأ. هذا الكتاب، إذ يستعيد هذه الشخصيات، لا يفعل ذلك بأسلوب تسجيل الحضور، بل بمنهج الإحياء؛ كأنّه يوشوش لنا أن الحقيقة ليست في النص، بل في النَفَس؛ ليست في الوقائع، بل في الصدى. فما كُتب هنا ليس مجرد تاريخ، بل أسطورة مؤسسة، سردية موازية لما أُهمل من سرديات الأمة، حين اختزلت التاريخ في خلفاء وسلاطين وفتوحات. إننا في "سلاطين المتصوفة" أمام كتابٍ يُعيد ترتيب العالم: فيجعلك ترى الفقر مَجدًا، والغيبة حضورًا، والزاوية مركزًا، والخِرقة تاجًا، والتواضع طريقًا إلى السلطان. وهذا ما يضرب مفهوم "السيادة" في عمقه. فأن تكون سيدًا في التصوف لا يعني أن تُطاع، بل أن تُحب؛ لا أن تُخشى، بل أن تُتّبع؛ لا أن تُهاب، بل أن يسيرون في ركابك. الوليّ لا يأمر، لكنه يُشير؛ لا يُحاسب، لكنه يُربّي؛ لا يُعاقب، لكنه يُهذّب. هو ظل الله في الأرض، لا لأنه يمثله، بل لأنه يتلاشى فيه. أجل، لقد أقام التصوف مُلكًا عابرًا للزمن، لا تحكمه الخرائط، بل التجليات. ولذلك، فإن الذين سمّاهم الكتاب "سلاطين" هم في الحقيقة سادة الباطن، أولئك الذين فهموا أن العالم لا يُهزَم بالسيف، بل يُفكّك بالحكمة، ويُعاد تشكيله من الداخل، على مهل، كما تعود الروح من التيه. إنه كتابٌ عن الذين حكَموا دون أن يملكوا، وسادوا دون أن يسودوا، وماتوا دون أن يغيبوا. ولأننا نعيش في زمنٍ يتكالب فيه السلاطين وتتراكم فيه الطغاة، فإن استعادة هذا المعنى للسلطان — سلطان البصيرة لا البصمة، وسلطان الكرامة لا القرار — تصبح ضرورة وجودية لا مجرد ترفٍ معرفي. ما من لحظة في التاريخ الإسلامي تخلو من ذلك التوتر الخفي بين السلطان الظاهر والسلطان الباطن، بين الدولة والزهد، بين القصر والزّاوية. في البدء، تَشكّل الإسلام كدعوة أخلاقية وانبجس من رحمها نموذج سياسي، سرعان ما ترسّخ في الخلافة وامتد في الأمصار. لكنّ الروح، بطبيعتها، لا تنقاد للسيف، ولا تنضوي بسهولة تحت القانون؛ فكان التصوف، منذ نشأته، تعبيرًا عميقًا عن رفض التماثل مع السلطة الصلبة، وبحثًا عن سلطة أخرى، أكثر خفاءً وعمقًا: سلطة المثال، والفيض، والبصيرة. وفي كتاب "سلاطين المتصوفة"، نقف أمام نماذج من أولئك الذين مثّلوا هذه السلطة الروحية. هُم لم يطلبوا حُكمًا، لكن الحكم استقرّ عند أعتابهم. لم يقيموا جيوشًا، لكنّ جموعًا من الأرواح قد سارت خلفهم. لم يرفعوا راياتٍ ولا نشروا مراسيم، لكنّهم غيّروا وجدان الأمة، وكتبوا على هوامش التاريخ أعمق ما لم تستطع الدولة أن تقوله. عبد القادر الجيلاني: السلطنة حين تسكن الزهد في شخصية الشيخ عبد القادر الجيلاني، تتجسّد المفارقة: رجلٌ وُصف بالفقر المدقع، لكنه بنى واحدة من أكثر الطرق انتشارًا ونفوذًا في العالم الإسلامي. ما الذي جعل الجيلاني سلطانًا؟ ليس نسبه ولا نسبته، ولا علومه وحدها، بل ذلك الانجذاب العجيب الذي مارسه على الأرواح، كأنّه استنطق فيهم شيئًا أعمق من المعرفة، وأشدّ من الإعجاب: التوق. لم يكن حضوره، كما يقدّمه الكتاب، حضورًا سياسيًا، بل "سياديًا" من نوع آخر: سيادة الذكر على النسيان، والمحبة على الخوف، والكرم على الجباية. لقد كان الزهد عنده ليس امتناعًا، بل نوعًا من التمكين المضمر. حين يُعرض عليه المال فيرفضه، فهو لا يخسر، بل يتوّج نفسه رمزًا في مواجهة عالمٍ ينهار. وفي كل سطر من سطور الكتاب عن الجيلاني، نجد هذه الثنائية: الزاهد الذي لا يملك شيئًا، والمُلك الذي لا يستطيع الفكاك من دائرته. أحمد الرفاعي.. السلطان الذي يمشي حافيًا أما الرفاعي، فهو بورتريه آخر لصورة السلطان المتصوف. كان أكثر قربًا من الناس، يمشي بينهم، يأكل معهم، يعظهم في الأسواق، دون مظاهر العزلة النخبوية التي عرفها بعض مشايخ عصره. لكنّ قربه هذا لم ينتقص من سلطانه، بل رسّخه. فقد فهم الرفاعي أن القوة ليست في الاعتزال، بل في النزول إلى الناس بمستوى يسع قلوبهم، لا عقولهم فقط. وفي هذا، فإن الكتاب يُلمح إلى فكرة لافتة: أن السلطان الصوفي ليس من يصنع هالةً حوله، بل من يكسر الهالة ليصبح جزءًا من المعنى الجماعي. الرفاعي كان يخترق الحشود لا ليؤسّس طقوسًا، بل ليعيد للناس كرامتهم، حين جعل من الكلمة بلسمًا، ومن الخشوع منزلة، ومن الفقر فخرًا. أبو الحسن الشاذلي.. السلطنة المشبّعة بالمعرفة وعلى نقيض الجيلاني والرفاعي في نمط الظهور، يقف أبو الحسن الشاذلي، الذي تنقّل بين المغرب ومصر، وجمع بين العلم الباطن والعقل الظاهر، بين الشريعة والحقيقة، بين التجربة والحكمة. لم يكن محبوبًا بسبب كراماته، بل بسبب وضوحه وصلابته الأخلاقية ورجاحة عقله الروحي. يظهر الشاذلي في الكتاب كمن صاغ سلطنة معرفية، لا تحكم بالجذب، بل بالإقناع. فهو القائل: "اعمل لله ما دمت في دار العمل، ولا تلتفت إلى المقامات والكرامات، فكلها ظلال إن لم تكن ممهورة بالإخلاص." ولعلّ هذه الجملة وحدها تصلح شعارًا لما يمكن تسميته ب"السلطان الأخلاقي"، حيث الحكم ليس توجيهًا من فوق، بل تربية من الداخل. إذا كان التاريخ الرسمي يكتب سير السلاطين على جدران القصور، فإنّ التصوف يكتب سيرة الأولياء على صفحات الأرواح. وما بين التاريخ الصلب والتاريخ الرفّاف، يقوم هذا الكتاب، "سلاطين المتصوفة"، كمخطوطة من نور، لا تكتفي بتسجيل الوقائع، بل تُعيد بناء الشخصيات بوصفها رموزًا لا أفرادًا، وأنساقًا معنوية لا مجرد حكايات. إنه كتاب لا ينحاز إلى الرواية التسجيليّة، بل يستعيد الأولياء كبورتريهات حيّة، كصُوَرٍ روحية محفورة في الذاكرة الجماعية، تطوف بين الخيال والحقيقة، بين الحضور والغياب، بين الزهد الذي يُفني الجسد، والهيبة التي تسكن في الصمت. فالمتصوفة في هذا العمل ليسوا أعلامًا وحسب، بل أنماط وجود، تقمّصوا التاريخ لا من خارجه، بل من أعماقه. وتحوّلوا من بشرٍ عاشوا وماتوا إلى رموزٍ تسكن الوجدان الإسلامي، تلعب أدوارًا مزدوجة: تربوية وطقسية، رمزية ووجودية، تاريخية وأسطورية في آن. في كل بورتريه يقدمه الكتاب، هناك شيء يتجاوز السرد، شيء أشبه بالحكمة المتخفّية. فالوليّ، في هذا السياق، ليس فقط من يُروى عنه، بل من يُحتذى به؛ هو تمثيلٌ لحالة مثالية، يشتاق إليها المريد ويُربّي بها نفسه. الوليّ هنا هو مرآةُ الذات كما ينبغي أن تكون، وحين يُروى عنه أنه مشى على الماء أو طار في الهواء، فليست هذه المعجزة هي المقصودة، بل الإشارة إلى إمكان التجاوز، والقدرة على كسر المألوف، وإعلان السيادة الداخلية على قوانين المادة. في هذا الإطار، تصير الحكايات عن الكرامات، لا مجرد سرديات إعجازية، بل كنايات عن اكتمال الإنسان، عن تحقق المثال في الواقع، عن انتصار الروح على قيود الجسد. وهكذا يتحوّل البورتريه الصوفي إلى صورة تربوية: صورة الإنسان الذي "كان كما يجب أن يكون"، فصار سلطانًا من غير أن يطلب، وأيقونة من غير أن تصنعها السلطة. لا يكتفي الكتاب بسرد الكرامات، بل يزرع في قلب كل حكاية سؤالًا باطنيًا، وتأويلًا رمزيًا، وإشعاعًا غير منطوق. فعندما يُروى أن الشيخ الرفاعي صافح يد النبي (ص) في الروضة، فإن الحكاية ليست بالضرورة تسجيلًا لعجيبة، بل ترميزٌ للتماس بين المقامات، بين الكمال الإنساني والمثال النبوي، بين الأرضي والسماوي. وعندما يُذكر أن أحد الأولياء يردّ السلام على الغائبين، فإن ما يُراد قوله هو أن الوليّ مقام، وليس فقط شخصًا؛ أن حضوره لا يرتبط بالمكان، بل بالمرتبة؛ وأنه بمصطلح ابن عربي "إنسان كامل" يفيض على الزمان بصفائه. فالكرامة، إذًا، ليست سحرًا ولا خرقًا للطبيعة، بل شهادة على حضورٍ مغاير، على وعيٍ مختلف، على إنسانٍ يرى ما لا يُرى، ويسمع ما لا يُسمع. هي إعلان غير معلَن عن وجود طبقة أخرى من الوجود، موازية لعالم الأشياء، فيها كل شيء مشفَّر بالنور. تتبدّى في الكتاب لحظةٌ مدهشة: لحظة تحوّل الوليّ من شخص إلى مكان، من كائن إلى مرجع. المقامات والزوايا والقبور ليست آثارًا سياحية، بل مرايا لذاكرة الجماعة، وشواهد على توقها إلى المعنى. فحين يزور الناس ضريح الشاذلي أو الجيلاني، لا يزورون رفاتًا، بل ينصتون إلى صدى قديم، إلى وعدٍ لم يتحقق بعد، إلى حضورٍ لا يزال يُقيم في النور. من هنا، فإن الأولياء هم أيضًا صناع الأمكنة، وحُماة الطقوس، ومهندسو الوجدان. وقد فهمت الجماعة، ولو بلا وعي، أن هؤلاء "السلاطين" لم يكونوا ملوكًا على الأرض، لكنهم شيدوا في باطن الوعي مدنًا من الحب، وشوارع من العزاء، وساحات من البكاء العذب. وهكذا، فإن بورتريهات الأولياء في كتاب "سلاطين المتصوفة" ليست سردياتٍ ماضوية، بل أيقونات حيّة، تتحرك في اللاوعي الإسلامي، وتشير دائمًا إلى ما هو أسمى: الإنسان حين يُصبح مرآةً للإله، والرمز حين يُصبح أقوى من الواقع، والسلطان حين يُولد من خِرقة. التصوف، كما يتبدّى في الكتاب، ليس طريق نجاة فردي فحسب، بل مشروع حضاري متكامل، يعيد ترتيب الوجود، ويمنح الإنسان شيفرة داخلية للسمو على واقعٍ متهالك. وإذا كانت القوة التقليدية تعتمد على الإخضاع، فإن القوة الصوفية تقوم على الإقناع الهادئ، وعلى التربية من غير صوت، وعلى الهيمنة اللطيفة التي لا تقهر الجسد بل تُهذّب الروح. لا يكتفي الكتاب بعرض الأولياء كأشخاص، بل يُلمح إلى الفضاءات التي تشكّلت حولهم: الزوايا، التكايا، المقامات، والحلقات. هذه ليست أماكن عبادة فقط، بل مراكز رمزية لتكوين مجتمع موازٍ، يتنفس خارج إيقاع الدولة، ويُعيد إنتاج قيم مختلفة: المساواة، الفقر، الحب، الإنصات، البصيرة. في الزاوية، لا توجد طبقات، بل مقامات؛ لا قانون مكتوب، بل أدبُ حال؛ لا عقوبة، بل تربية؛ لا سياسة، بل سياسة الروح. وكل زاويةٍ هي نقطة إشعاع، بل نواة لدولة رمزية غير مرئية، تحكمها البركة بدل القوة، ويحرسها الذكر لا العسكر. والناس، حين كانوا يُقصِّرون في ولائهم للدولة، لم يكونوا كذلك مع الشيخ؛ وحين تنكسر صورة السلطان، كانت صورة الولي تزداد توهجًا؛ وحين تموت القوانين في النفوس، تبقى وصايا الأولياء تتردّد على الألسن كالتراتيل. لا يمكن الحديث عن التصوف كقوة ناعمة دون الانتباه إلى توظيف السُلطة السياسية لها في بعض العصور. فقد أدرك السلاطين أن الزوايا، بما لها من هيبة وجاذبية، يمكن أن تكون وسيلةً لضبط الشارع، ووسيطًا لامتصاص الغضب، وجسرًا لاسترضاء الفقراء والضعفاء. وفي هذا المعنى، فإن العلاقة بين الوليّ والسلطان لم تكن دائمًا متوترة، بل دخلت أحيانًا في طور من التواطؤ الرمزي، فالسلطان يستظلّ بهيبة الشيخ، والشيخ يُبقي نفوذه الروحي من غير صدام. لكنّ المتصوفة، في جوهرهم، لم يكونوا أداةً في يد السلطة، بل ظلّوا حُرّاسًا للمعنى، يستعملون المداراة لا الخنوع، ويتوسّلون الصمت لا التواطؤ. وقد أظهر بعضهم، كما يورد الكتاب، مواقف صارمة تجاه الملوك، كمنع البيعة، أو تحريم الظلم، أو رفض الأعطيات. فالكرامة، حين تمتزج بالحكمة، تُصبح سيفًا غير منظور، يقطع بلا دم، ويحاسب بلا محكمة.