بقدر ما احتفلت مصر بعيد الفن بقدر ما احتفلت بثقافة الحرية وأعلت من أنبل وأجمل القيم الإنسانية فيما أثيرت قضايا ثقافية بالغة الأهمية في سياق ليلة لن تنسى في الذاكرة الثقافية المصرية. فقد تناول الرئيس عدلي منصور في سياق كلمته في الاحتفال بعيد الفن أمس الأول "الخميس" قضايا ثقافية بالغة الأهمية من بينها أن الفنون ليست بمعزل عن بعضها البعض "فمن قال أن جمال اللون وايماءة الاحساس في اللوحات الفنية ليست شعرا..ومن في وسعه أن ينكر أن مشهدا تمثيليا ينطق بالحيوية والاحساس لايمثل لوحة فنية أو أن مقطوعة موسيقية رائعة لاتفتح افاق الخيال لمشاهد حسية ومشاعر صادقة". وفلسفة الفن وتاريخ الفن أيضا شاهدان على أن الفنون قد تختلف باختلاف طرائقها الخاصة في التعبير ولكن ثمة عاملا مشتركا يجمع بين كل الأعمال الفنية آلا وهي "تلك القدرة الابداعية" التي يستقدم الفنان عن طريقها إلى عالم الوجود مخلوقات أو كائنات لم تكن منتظرة ولم يكن وجودها في الحسبان. وسواء آكانت اداة ذلك الفنان في الابداع هي الأنغام أو الكلام أو الألوان أو غير ذلك فان مايبدعه الفنان عن طريق ذلك النشاط الحر الذي يضطلع به لابد من أن يجيء عملا اصيلا له طابعه الخاص بحيث يصح وصفه بأنه "نسيج وحده". والفن في الوقت ذاته عمل اجتماعي "تخاطب فيه الأنا تلك النحن التي يعيش الفنان بين ظهرانيها" وكأن الفنان يضع خبرته الخاصة في خدمة تلك الحقيقة الاجتماعية التي يبدع من أجلها وتلك القيم التي يناضل في سبيلها. والقيم الناجحة هي اكتشافات حرة يرى فيها العالم انتصارات للجميع وسواء قدم لنا الفنان طعما جديدا أو رائحة جديدة أو موسيقى جديدة فإنها في كل هذه الحالات إنما يفتح امامنا عالم الفن بأسره ويقدم خدمة جليلة للإنسانية قاطبة. واذا كان المجتمع كما قال ارنست فيشر صاحب كتاب "ضرورة الفن" في حاجة إلى الفنان فما ذلك الا لأن الفن نفسه حقيقة اجتماعية وهو لايعين الإنسان على فهم الوجود فحسب وانما من شأنه أن يزيد مما لديه من تصميم على جعل العالم أكثر إنسانية واشد توافقا مع الكرامة. وفي دراسته التي صدرت بعنوان "الحرية وفلسفة الفن" يقول استاذ الفلسفة وصاحب المنهجية المميزة في الكتابة الدكتور زكريا إبراهيم:"حسبنا أن ننظر إلى لوحات رامبرانت أو اشعار شكسبير لكي نتحقق من أن الأشياء قد اصبحت تحت أمرة ذلك الشخص الذي استطاع أن يدرجها في عالمه الخاص". ويضيف:"وليست حرية الفنان سوى ذلك الانقلاب الحاسم الذي يتحقق في حياة الفنان حين تنقطع بينه وبين العالم علاقة سابقة..فيقظة الروح الفنية لابد من أن تقترن بذلك الكشف المفاجئ الذي يجيء فيرسم امام الفنان طريقا جديدا لاعادة خلق العالم". حقا أن البعض قد يهبط بالفنان إلى مستوى الصانع أو صاحب الحرفة ولكن من المؤكد أن الفنانين الحقيقيين هم الذين يبحثون عن القيم بقدر السعي الدائم للاكتشاف على امل الوصول لمرافيء جديدة واذا كان من الصحيح أن ثمة ضرورات تفرض نفسها على الفنان وفي مقدمتها اصول الحرفة وقواعد الصنعة أو التكتيك فمن الصحيح أيضا أن "الفن لايصبح فنا الا حين يهزأ بالحرفة ويستخف بالصنعة أي حين يتحرر من تلك الضرورات التقليدية لكي يخلق لنفسه قواعده وقوانينه". ولعل هذا ماعناه المثال الفرنسي العظيم رودان حين قال:"أن الموضوعات الجميلة كائنة امامكم في كل مكان ولكن كبار الفنانين إنما هم اولئك الذين ينظرون بعيونهم إلى مارآه الناس جميعا من قبل ويعرفون كيف يدركون الجمال فيما هو عادي مألوف في اذهان غيرهم". وهكذا فان "بيت القصيد" أن يهتز الفنان ويشعر ويعشق ويأمل ويرتجف ويحيا ومن المهم أن يكون إنسانا قبل أن يكون فنانا وكما أن البلاغة الحقيقية -على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال- "تهزأ من البلاغة فان الفن الحقيقي أيضا يسخر من الفن العادي". والفن من منظور فلسفي ثقافي "هو ذلك الشيء الذي لولاه لبقيت الأشياء على ماهي عليه وبالتالي لما تحول المحسوس الغفل إلى موضوع جمالي" فيما يقول المثقف الفرنسي الكبير اندريه مالرو والذي وصف في زمنه "بفيلسوف الفن المعاصر" أن "الفن ليس احلاما بل امتلاكا لناصية الأحلام". وكثير من الأحلام انبعثت في الاحتفال الكبير بعيد الفن في مصر والذي تضمن تكريم رعيل من فناني مصر ومبدعيها في مجالات الأدب وكتابة السيناريو والإخراج السينمائي والتمثيل والغناء ومنح وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى لأسماء الفنانين الراحلين محمد فوزي وعز الدين ذو الفقار وعبد الحي اديب ورشدي اباظة وأحمد منيب. كما منح هذا الوسام الرفيع للفنانات شادية وفاتن حمامة وماجدة وسميحة ايوب ونادية لطفي والمصور محسن نصر وكذلك للفنانين عزت العلايلي وحسن يوسف ومحمود يس فيما تشكل حياة الفنانين وسيرهم الذاتية مددا ثقافيا في الغرب للعديد من الكتب الجديدة وذات المستوى الرفيع من حيث التناول والصياغة والمقاصد واحيانا تكون هذه الكتب بأقلام الفنانين انفسهم. وهذا مايتجلي في كتاب "افا جاردنر: الحوارات السرية" وهو كتاب اعتمد على اوراق تركتها الممثلة الأمريكية الراحلة افا جاردنر ذاتها والتي كانت توصف "بأسطورة هوليوود" وعكف على تحريره بيتر ايفانز وهناك أيضا كتاب "حياة باربارا ستانويك" بقلم فيكتوريا ويلسون عن تلك الممثلة الأمريكية التي قضت عام 1990. وقضايا الفن جذبت اقلام مثقفين مصريين كبار مثل الدكتور زكريا إبراهيم الذي كان يوصف "بقديس الفلسفة" وترك قبل رحيله في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم كتابات وكتب بالغة الأهمية حول القضايا الفلسفية للفن فيما رأى أن "الفن يزود الموجود البشري للسيطرة على الطبيعة والعمل على تطوير بعض العلاقات الاجتماعية". وهكذا ارتبط الفن من منظور فلسفي منذ البداية بقدرة الإنسان على التحرر من اسر الضرورة "أو شعور الموجود البشري بنزوع قوي نحو التحكم في الواقع الخارجي" كما قال الدكتور زكريا إبراهيم في دراسة بعنوان "الحرية وفلسفة الفن" موضحا أن "النشاط الفني ليس نقلا وتقليدا بل هو خلق وابداع". وفي الاحتفال بعيد الفن في دار الأوبرا المصرية أوضح الرئيس عدلي منصور أن هذا الاحتفال هو احتفال بالقيم الإنسانية الجميلة ومعاني السمو بالروح والارتقاء بالوجدان فهو "ذكرى تثمين الجمال وتجديد الاعتراف بفضل الفنانين والمبدعين من ابناء الشعب المصري العظيم". وحضر هذا الاحتفال المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء والمشير عبد الفتاح السيسي النائب الأول لرئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربي وعدد من الوزراء والسفراء والشخصيات العامة والفنانين والمبدعين المصريين. وفيما وجه عدلي منصور التحية لمبدعي وفناني مصر معيدا للأذهان أن هذا التقليد الحميد في الاحتفال بعيد الفن كان قد توقف منذ مايزيد على ثلاثة عقود وقال "نحيي هذا التقليد لنساهم في اعادة الطبيعة السمحة لبلادنا واسترداد صورته البهية التي طالما الفناها في عقود مضت". وفي إشارة واضحة لمفهوم "القوة المصرية الناعمة"اعاد الرئيس عدلي منصور للأذهان أن مصر مثلت مركز اشعاع فني في العالم العربي بل والمنطقة بأسرها "حيث اسهم نتاج فنانيها ومبدعيها في نشر ثقافتها ولهجتها في ربوع وطننا العربي وكان ادبها منهلا ثقافيا يرتقي بالذوق العام في حين مثل مسرحها وفنها السابع ريادة فن التمثيل ومصدر الهام ونبوغ لمحيطها الاقليمي". وفيما قد يدعو السياق لاستعادة مقولة أن "الفن يصنع البشر بأكثر مما يصنع البشر الفن" والتأكيد على أن تاريخ الفن كما قال اندريه مالروو هو "تاريخ التحرر" فان مغزى ماقاله وزير الثقافة المصري الدكتور محمد صابر عرب أن "الفنون هي السفير الأكثر أهمية لمصر في ربوع العالم" لايمكن أن يغيب عن الأذهان. وكان الرئيس عدلي منصور قد ناشد فناني مصر الا يتركوا الساحة الفنية "فريسة للعبث بالذوق المصري العام" مشيرا إلى أن الفن إحدى المواهب التي تفرد بها الإنسان وتميز بها عن سائر المخلوقات "شأنه في ذلك شأن التفكير وحرية الارادة والاختيار". وخاطب عدلي منصور فناني مصر بقوله:"اعلموا أنه سيظل هناك مقياس للابداع الإنساني فنيا كان أو فكريا اوفلسفيا"..أنه مقياس رباني مصداقا لقوله تعالى " فأما الزبد فيذهب جفاء واما ماينفع الناس فيمكث في الأرض". وكان اتحاد نقابات المهن الفنية قد وقع اختياره على يوم الثالث عشر من مارس من كل عام ليكون يوما للاحتفال بعيد الفن وهو اليوم الذي يتوافق مع ذكرى ميلاد موسيقار الأجيال العبقري الراحل محمد عبد الوهاب والذي نوه الرئيس عدلي منصور بأن "صوته العذب والحانه الرائعة اضحت جزءا عزيزا من تراث مصر في الطرب والموسيقى بل وتراثنا العربي أيضا". واستعاد الرئيس عدلي منصور في هذا السياق مقولة موسيقار الأجيال:"التراث هو الأصل والمعاصرة هي الواقع ومن أجل أن نقدم فنا كاملا لايمكننا أن نتخلص من اصلنا ولايمكن أيضا أن نتجاهل معاصرتنا للواقع". ومن الصحيح في هذا السياق القول بأنه ليس ثمة عمل فني يمكن اعتباره اصيلا كل الأصالة لأن اعظم فنان لابد من أن يكون قد استند إلى تراث الماضي فضلا عن أنه ليس في الفن مجال للخلق من العدم أو من "لاشيء"ولكن اصالة الفنان إنما تتجلى في قدرته على التحرر من ربقة التقاليد الفنية من أجل معاودة التفكير في الفن لحساب رؤيته الفنية. أن المصريين الذين قال رئيسهم عدلي منصور انهم "اعتادوا الغناء فرحا وحزنا والشعر هجاء ومدحا سيظل الفن مكونا اساسيا في هويتهم وحياتهم" فيما أكد على دور الفنانين في "صياغة العقل الجمعي لشعبنا المصري العظيم". وبقدر مااستعاد الاحتفال بعيد الفن "الزمن المصري الجميل حيث لم يخل بيت مصري من لمسات الجمال وكان الشارع المصري مثالا للتحضر والانضباط "فان هذا المجتمع قام على قيم نبيلة "يسودها التسامح والشهامة والمروءة وقبول الآخر" كما ذكر الرئيس عدلي منصور. ونوه بأن "معين الابداع الفني المصري لاينضب ابدا..واذا كانت مقتضيات الحداثة واختلاف السياق التاريخي والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية فضلا عن التطور التكنولوجي في مجال الإنتاج الفني تحتم مسايرة مقتضيات العصر والانخراط في ركب التطور والتقدم إلا إن هذا التطور لايجب أن ينسينا أن لمصرنا العربية الإسلامية منظومتها القيمية النبيلة التي يتعين الحفاظ عليها والانتماء اليها". وهذه المنظومة القيمية النبيلة لاتضع قيودا أو تفرض شروطا على الابداع "بقدر ماتراعي عادات وتقاليد مجتمعنا لتكسبه مذاقه المتفرد وسماته المميزة" فالحرية ستظل مقرونة بالمسئولية و"مصرنا الجديدة" كما أكد الرئيس عدلي منصور "تقدر وتعي دور الفنانين والمبدعين" وحرية التعبير عن الرأي والابداع مكفولة في مختلف انواع الفنون. والمنظور الاسترجاعي للفكر العربي المعاصر وإعلامه مثل عباس محمود العقاد وسلامة موسى وأحمد حسن الزيات يؤكد بوضوح على صلة الفن بالحرية ودور النشاط الفني في عملية التحرر وهاهو العقاد قد شدد على دور الفنون الجميلة في تحرير الشعوب وقال "إنما تعرف الأمم الحرية حين تأخذ في التفضيل بين شيء جميل وشيء اجمل منه". وذهب العقاد إلى إلى أن إصلاح فن اية امة إنما هو إصلاح لحياتها ومعيشتها ومعنى هذا أنه لاحرية لأمة ليس لها نصيب من الفن الجميل مادامت الفنون الجميلة هي المعيار الأسمى لقياس درجة تحرر الأمم. واذا كانت سنة الله في خلق هذا الكون قد شاءت أن تجعل من قوانينه دعامة للحرية واصلا لكل شعور انطلاقي فليس بدعا أن يتلاقى في فن الشعر كما هو الحال في سائر الفنون الأخرى قيد الوزن وفرح اللعب وليس عجيبا أن يتلاقى الخيال الشارد والقافية المحبوسة. وكان المفكر المصري الراحل عباس محمود العقاد يعتبر الشعر اسمى الفنون كما فعل من قبل فلاسفة عديدون لعل اشهرهم هيجل فيما اتخذ من الحرية معيارا لقياس درجة سمو كل فن من الفنون بقدر ماجعل الحرية مقياسا للجمال ولهذا ذهب العقاد إلى أنه إذا اردنا أن نتعرف على حرية امة من الأمم فما علينا إلا إن نسأل عن نصيبها من الشعر ونوع هذا الشعر ودرجة انطلاقه. والحق كما قال الفيلسوف المصري الراحل زكريا إبراهيم أن "القانون الوحيد في الابداع الفني هو أنه ليس ثمة قانون: فالفن حليف الحرية والنشاط الفني نشاط ابداعي لايخضع لأية قاعدة" وان كان ذلك لايعني انكار أن الفن في جانب من جوانبه حرفة أو صنعة أو مهارة. وواقع الحال أن منظر الفنان ماكان ليستثيرنا وينتزع اعجابنا لو لم نكن نرى فيه ذلك الموجود البشري الحر الذي يصطرع مع المادة آملا من وراء هذا الصراع الحي أن يستثير طاقاتنا ويدعوها إلى التسامي فيما يشهد تاريخ الفن بأن التجديد كان حليف الجهود الجريئة التي استهان اصحابها بشتى الضرورات الفنية التقليدية. واذا كان الفنان الحق يبحث عن القيم فان هذا البحث لايمكن أن يتم الا في جو ملؤه الانطلاق والحرية وكما ذكر الدكتور زكريا إبراهيم "فليس في وسع الفنان أن أن يبدع الا إذا نشر قلاعه مع الريح باحثا عن قيم جديدة". وقد نتوهم أن كل قيمة الفن مقصورة على مايزودنا به الفنان من متع لم تكن في الحسبان ولكن الحقيقة-حسب قول الدكتور زكريا إبراهيم- أن "قيمة الفن الكبرى إنما تنحصر فيما يكشف لنا عنه الفنانون من قيم تمدنا بأسباب جديدة للحياة وحبها". والفن كما قال الرئيس عدلي منصور بحق "رافد محوري في تشكيل وعي وثقافة ووجدان المصريين ومحفز أساسي لهم للاقبال على العمل والإنتاج والاستمتاع بنتاج جهودهم اقتصادا مزدهرا وسياسة واعية وذوقا عاما راقيا يليق بأمة يعود تراثها الفني لأكثر من سبعة آلاف عام". واذا كانت مصر في مرحلة تغيير من أجل الأفضل فالواقع أن الفن رغبة عارمة في تغيير العالم والمجتمع لأنه في جوهره نشاط حر يستهدف تحرير الإنسان من ربقة الضرورة واسر الظروف..انها مصر المحلقة بأجنحة الحرية ترنو للمستقبل وبين عينيها البشارة.