2- حرب 56: عملية قادش من جديد ستصبح أرض سيناء مسرحًا للنزاع بين هاتين الاستراتيجيتين، فمع قيام ثورة 23 يوليو 1952 والنجاح المتزايد لخطوات الثورة في سنواتها الأولى، سيبدأ تزايد القلق الإسرائيلي من تنامي القوة المصرية، لا سيما مع صفقة الأسلحة التشيكية وتبني ناصر لسياسات عروبية لمصر، من هنا سيبدأ التحرش الإسرائيلي بالقوات المصرية في غزة وفي سيناء، في محاولةٍ لتوصيل رسالة إلى مصر بضرورة العزلة من جديد وعدم مساعدة قواعد الفدائيين الموجودة في شبه جزيرة سيناء والتي كانت تعمل ضد إسرائيل، والعمل على تفريغ شبه جزيرة سيناء وجعلها منطقة منزوعة السلاح. وتبدأ إسرائيل بآليات دعائية عدائية ضد مصر، ستظل ترددها منذ ذلك الوقت وحتى الآن، إذ تدعي أن مصر تساعد على تسلل الفدائيين الفلسطينيين عبر خطوط الهدنة من سيناء إلى إسرائيل، كما أن مصر التي تدير قطاع غزة تساعد أهله بالسلاح والمعلومات، ما يشكل خطرًا على المستوطنات الإسرائيلية في منطقة النقب، بالتالي سيبدأ التصعيد من جانب إسرائيل تجاه مصر في محاولةٍ لتطبيق استراتيجية "بن جوريون" في جعل سيناء منطقة عازلة بين مصر وإسرائيل، بل بين مصر والمشرق العربي بأكمله. لذلك ستستغل إسرائيل فرصة تأميم ناصر لقناة السويس، وخلافه مع انجلترا وفرنسا لتنضم إليهما فيما عرف بالعدوان الثلاثي، من هنا ستبدأ إسرائيل هجومها العسكري الموسع على سيناء في 29 أكتوبر 1956. واللافت للنظر هو الاسم الذي أطلقته إسرائيل على هذه الحملة العسكرية "عملية قادش". هكذا تستدعي إسرائيل التاريخ القديم بأكمله في الصراع المصري الإسرائيلي، إذ تصبح إسرائيل هي وريثة الحيثيين الغزاة الآسيويين في فلسطين، ويصبح ناصر هو رمسيس الثاني - أو ربما فرعون الخروج ، الذي أخرج اليهود من مصر- واللعب على اسم قادش له دلالات تاريخية هامة وخطيرة في الفكر الصهيوني، فهو من وجهة نظر الصهيونية تبَّنٍ لدور الحيثيين في المنطقة والادعاءات القديمة بهزيمة الحيثيين لرمسيس الثاني في قادش، أمام ما تثبته النقوش الفرعونية من انتصار رمسيس الثاني في تلك المعركة. هكذا تدخل سيناء من جديد لعبة الأساطير والتاريخ، فقد لعب الفكر الصهيوني قبل ذلك على سيناء في الكتاب المقدس والخروج من مصر وسيناء أرض التيه وجبل موسى وعيون موسى، وها هو يلعب أيضًا على التاريخ القديم وصراع الحيثيين والفراعنة. على أية حال فوجئ عبد الناصر بهذا الهجوم الإسرائيلي غير المبرر على سيناء، حيث كانت توقعات عبد الناصر تنحصر في تدخل عسكري بريطاني فرنسي ضد مصر، لكن إسرائيل لجأت في الحقيقة لنفس الاستراتيجية القديمة للغزاة: اقتحام سريع لسيناء وتهديد شرق الدلتا، وبالفعل استطاعت إسرائيل أن تخترق سيناء وتصل إلى قناة السويس، وتمثل تهديدًا مباشرًا لها. وهنا تكتمل أطراف المؤامرة الدولية، حيث تقدمت بريطانيا وفرنسا بإنذار لسحب القوات عن قناة السويس مما أعطاهما المبرر لتدخل قواتهما لتأمين القناة. وعادت إسرائيل "وريثة الهكسوس والحيثيين" إلى أطماعها القديمة، وتجرأ بن جوريون ليعلن عدم الاعتراف بالحدود الدولية بين مصر وإسرائيل، وبالتالي ضم سيناء إلى إسرائيل وأصبحت من وجهة نظره جزءا لا يتجزأ من إسرائيل الكبرى. هكذا وضحت تمامًا الأطماع الصهيونية في سيناء، وبدا واضحًا أن "بن جوريون" يسير على خطى أستاذه هرتزل "المُنظِّر الأكبر للدولة اليهودية"، والذي وضع مشروع لإقامة وطن قومي لليهود في سيناء، ومنذ ذلك الوقت لم تغب سيناء أبدًا عن أحلام التوسع الصهيوني. إسرائيل وسيناء: التخلي مؤقتًا عن الحلم لم يهنأ بن جوريون بانتصاره وإعلانه الهزلي بضم سيناء إلى دولة إسرائيل، إذ أثارت هذه الحرب حفيظة الرأي العام الدولي وضغطت كل القوى السياسية، وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفيتي، لوقف الحرب والبدء فورًا في الانسحاب من الأراضي المحتلة. حيث أرسل الرئيس الأمريكي "إيزنهاور" رسالة لبن جوريون في 3 فبراير 1957 يدعو فيها إسرائيل إلى الانسحاب إلى ما وراء خطوط الهدنة واحترام الحدود الدولية بين مصر وإسرائيل، كما صوتَّت أمريكا لصالح الهدنة وانسحاب إسرائيل من سيناء. وبالفعل ستضطر إسرائيل إلى الانسحاب من سيناء والتخلي مؤقتًا عن أحلامها الصهيونية التوسعية فيها، لكنها ستحصل على مكاسب ومزايا جراء اشتراكها في حرب 1956 لعل من أهمها انتشار قوات الطوارئ الدولية على الأراضي الحدودية المصرية فقط، إذ سترفض إسرائيل وجود قوات طوارئ دولية على أراضيها. وبالتالي ستنجح إسرائيل في خلق منطقة عازلة على الحدود وداخل الأراضي المصرية هي منطقة قوات الطوارئ الدولية. وهو جزء من الفكر الاستراتيجي الصهيوني في جعل سيناء منطقة عازلة بين مصر "أكبر قوة في العالم العربي"، وبين إسرائيل والمشرق العربي، كما ستأخذ إسرائيل اعترافًا دوليًا بحق المرور في خليج العقبة، هذا الأمر الذي سيصبح من أهم أسباب اندلاع حرب يونيو 1967، حيث دأب بعض الزعماء العرب في حملاتهم الدعائية ضد ناصر على معايرته بأن السفن الإسرائيلية تمر من خلال خليج العقبة أمام عينيه رافعةً للعلم الإسرائيلي. ولذلك سيتورط عبد الناصر بعد ذلك وقبيل حرب 1967 في عملية إنهاء عمل قوات الطوارئ الدولية في المنطقة العازلة بين مصر وإسرائيل مما يعني حالة الحرب؛ كما سترفع مصر شعار "خليج العقبة قطع رقبة"، كنايةً عن رفضها مرور السفن الإسرائيلية عبر هذا الخليج. وهكذا تدخل سيناء من جديد في فصل من فصول الصراع العربي الإسرائيلي، لكنه فصل أشد وطأة مما قبله وهو حرب 1967 أو النكسة.