لابد أن ندرك أن المتأسلم هو إنسان تلبسته فكرة خاطئة صورت له أنه كلما تشدد وتطرف كان الأقرب إلى الله، وأنه بمزيد من التأسلم سيمضي حتمًا إلى الجنة، ومن ثم فلا سبيل إلا تبيان صحيح الإسلام له، وإلا فهو ماض إلى المزيد والمزيد من التطرف والرفض للآخر والاستعلاء على الجميع والإفراط في العداء لهم. يقول ابن الجوزي إن قادة الخوارج كانوا يملأونهم حماسًا أثناء القتال ضد غيرهم من المسلمين فيصيحون بهم “,”وتهيأ للقاء الرب، الرواح الرواح إلى الجنة“,” [ص94] . ويحدثنا عبدالله بن عباس وقد زارهم في حروراء قرب الكوفة، مبعوثًا من علي بن أبي طالب لمجادلتهم وهدايتهم إلى صحيح الإسلام فيقول “,”فدخلت على قوم لم أر أشد منهم اجتهادًا، وجباههم قرحة من السجود، وأياديهم كأنها ثفن الإبل [أي أخفاف الجمال] وعليهم قمصان طاهرة، مشمرين أياديهم، ووجوههم مسهمة من كثرة السهر“,” [ص91] . ويقول جندب المرادي “,”لما توجهنا إلى الخوارج ونحن مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وإذ وصلنا إلى معسكرهم فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن“,” [المرجع السابق – ص94] . لكن الشهرستاني لا يصدق فيهم التجرد من المصلحة ويؤكد أنهم إنما كانوا يطمعون في السلطة والإمامة ويقول “,”ولقد كان خلاف الخوارج في أصله خلافًا على الإمامة والسلطة، وأعظم خلاف بين الأمة الإسلامية هو الخلاف على الإمامة في كل زمان“,” [أبو الفتح الشهرستاني – الملل والنحل – ص22] . ولعل فضيلة الشيخ أبوزهرة قد منحنا المزيد من القدرة على فهم هذا التأسلم، إذ قال في كتابه “,”تاريخ الجدل“,” “,”هم كاليعاقبة في الثورة الفرنسية، حيث نادوا بالحرية والإخاء والمساواة وباسم ذلك كله ارتكبوا أفظع الشنائع في حق الأبرياء والأعداء، فالخوارج استولوا على عقول الناس بخطاب مشحون بعبارات الإيمان والعدالة والحاكمية لله، والبراءة من الظلم والظالمين وباسمها جميعًا أباحوا دماء المسلمين من الأبرياء ومن مخالفيهم في الرأي“,” وهكذا يقتادنا الشيخ أبوزهرة وببصيرة نافذة استطاعت أن تصل بنا إلى أعمق أعماق الفكر المتأسلم وكأنه يتحدث تمامًا عن متأسلمي زماننا، وإذا تابعنا أدبيات جماعة الإخوان فإننا نقرأ ما يوقظ في نفوس الأتباع هذه النزعة المتأسلمة والتي تصب عنفها وبطشها على مخالفيهم في الرأي. ونطالع في مقال افتتاحي للعدد الأول من مجلة “,”النذير“,” لسان حال جماعة الإخوان في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي دعوة وجهها الشيخ عبدالرحمن الساعاتي، وهو والد الأستاذ حسن البنا المرشد الأول والمؤسس لجماعة الإخوان بما يعطي لهذه الدعوة مكانة ومهابة لا تضاهيها مهابة في نظر أعضاء الجماعة. ويقول الشيخ الساعاتي “,”استعدوا يا جنود، وليأخذ كل منكم أهبته، ويعد سلاحه، ولا يلتفت منكم أحد، أمضوا إلى حيث تأمرون، وخذوا هذه الأمة برفق فما أحوجها إلى العناية والتدليل، وصفوا لها الدواء فكم على ضفاف النيل من قلب يعاني وجسم عليل، واعكفوا على إعداده في صيدليتكم، ولتقم على إعطائه فرقة الإنقاذ منكم، فإذا الأمة أبت فأوثقوا يديها بالقيود وأثقلوا ظهرها بالحديد، وجرعوها الدواء بالقوة، وإن وجدتم في جسمها عضوًا خبيثًا فاقطعوه أو سرطانًا خطيرًا فأزيلوه، استعدوا يا جنود، فكثير من أبناء هذا الشعب في آذانهم وقر وفي عيونهم عمى“,” [النذير – العدد الأول – أول محرم – 1357ه - الافتتاحية] ولست أريد لهذا المقال أن يمر دون تحليل فكل حرف فيه توجيه ومعنى مقصود وهو نموذج نموذجي لما تمارسه جماعة الإخوان حتى اليوم بما يؤكد أنها لا تتغير.. وأنها صارمة صادمة كما يفعلون الآن، عنيفة عنفهم، فالحديث موجه بصيغة الأمر، لمن ؟ “,”للجنود“,” وليعد كل منهم “,”سلاحه“,” وليس من حق أحد منهم أن “,”يلتفت“,” وإنما يجب أن يمضي الجميع، “,”إلى حيث يأمرون“,”.. “,”ثم صفوا للأمة الدواء“,” واعكفوا على إعداده في صيدليتكم.. ولتقم على إعطائه فرقة الإنقاذ من الجماعة.. وإذا أبت الأمة أن تتقبل هذا الدواء فمن الضروري أن يوثقوا يديها بالقيود وأن يثقلوا ظهرها بالحديد.. ويتم إكراهها على أن تتجرع الدواء الإخواني بالقوة، وفوق ذلك كله إذا وجد الإخوان في هذه الأمة عضوًا خبيثًا يقطعونه أو سرطانًا خطيرًا يزيلونه.. ذلك أن الشعب فيه الكثير من الطرشان والعميان.. هذه الوثيقة هي بالضبط التعاليم الإخوانية المقررة والجميع يأمرون بالالتزام بها وتنفيذها. كان ذلك في عام 1936.. وكان طوال تاريخ الإخوان، واستمر حتى الآن ولم يزل يطبق حتى الآن، وكان الابن الأستاذ حسن البنا على ذات الدرب فيكتب “,”وما كانت القوة إلا كالدواء المر الذي تحمل عليه الإنسانية العابثة المتهالكة حملاً ليرد جماحها ويكسر جبروتها وطغيانها، وهكذا كانت نظرية السيف في الإسلام، ولم يكن السيف في يد المسلم إلا كالمشرط في يد الجراح لحسم الأداء الاجتماعي“,” [النذير – رمضان 1357ه - حسن البنا] ثم تتمادى الادعاءات ويتمادى التحول من القول المتأسلم إلى الفعل المتأسلم، فنقرأ لقائد إخواني هو الأستاذ محمود الصباغ وكان أحد قادة الجهاز السري للإخوان “,”إن أعضاء الجهاز يمتلكون ودون إذن من أحد الحق في اغتيال من يشاءون من خصومهم السياسيين، فكلهم قارئ لسنة رسول الله في إباحة اغتيال أعداء الله“,” [محمود الصباغ – حقيقة التنظيم الخاص ودورة في جماعة الإخوان – ص132] .. ألا أنهم يفترون على الله ورسوله كذبًا. .. ونمضي نحو مزيد من الدراسة.