يبدو العنوان غريبًا للوهلة الأولى. أن تدعو وسيلة إعلامية لإغلاق موقع إخبارى. نقف هنا أمام مساحة زلقة فى الحديث عن حدود حرية الإعلام. بالنسبة إلينا فإن حرية الإعلام مطلقة ما لم تقترب من التحريض، أو تتورط فى إشعال فتن طائفية. بنص المادة 71 من دستور 2014 فإنه «يحظر بأى وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها. ويجوز استثناء فرض رقابة محددة عليها فى زَمن الحرب أو التعبئة العامة. ولا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن فى أعراض الأفراد، فيحدد عقوباتها القانون». لماذا ندعو إلى حجب موقع «هافينجتون بوست» بنسخته العربية فى مصر إذن؟ لنرو القصة من البداية. كان ذلك فى السابع والعشرين من يوليو 2015 حينما أعلن الإعلامى الفلسطينى الأشهر، وضاح خنفر، المدير العام لقناة الجزيرة بين عامى 2003 و2011، المدير العام لشركة إنتجرال ميديا ستراتيجيس IMS، عن شراكة بهدف إطلاق النسخة العربية من الموقع الشهير «هافنجتون بوست» للمدونات والأخبار الذى أسسته آريانا هافينجتون عام 2005، وحمل اسمها وبدأ نشاطه كموقع للتدوين وتجميع الأخبار. بحسب ما ذكرته مديرته أريانا هافينجتون، فى كلمتها بحفل إشهار الموقع الجديد الذى أقيم فى العاصمة البريطانية لندن، فإن الفريق التحريرى للموقع يضم صحفيين ومحررين محترفين، ويترأس تحريره الصحفى المصرى أنس فودة. ثارت شكوك واسعة حول توجهات الموقع الجديد عززها اختيار رئاسة التحرير الانطلاقة العربية بإجراء حوار مع الرئيس التونسى السابق، المنصف المرزوقى، كشف فيه موقفه الداعم للرئيس المعزول محمد مرسي، مهاجمًا السلطات القائمة فى مصر بعد 30 يونيو. قبل أن ندخل إلى أسانيد دعوتنا إلى حجب «هافينجتون بوست» لنتعرف أولا على وضاح خنفر، وأنس فودة. الأول «إخوانى الهوى»، كان المدير العام لقناة «الجزيرة» لسبع سنوات تقريبًا قبل أن ينزل عن عرشه عام 2011 على خلفية كشف وثائق «ويكيليكس» عن وجود تعاون وثيق بينه وبين وكالة الاستخبارات العسكرية الأمريكية، وعن تلقيه تقارير شهرية من الوكالة عن أداء «الجزيرة» فى تغطية الأحداث المرتبطة بأمريكا ومصالحها. وكان موقع «ويكيليكس» قد نشر وثيقة برقم 05DOHA1765 وتاريخها 20/10/2005، أشارت الى تعاون وثيق بين المدير العام ل«الجزيرة» والسلطات الأمريكية لإزالة مواد تضر بصورة الجيش الامريكى فى العراق. فى التفاصيل أن مسئول الشئون العامة فى المخابرات العسكرية بالسفارة الأمريكية بالدوحة التقى «خنفر»، يوم 19 أكتوبر 2005، لمناقشة أحدث تقرير لوكالة الاستخبارات، والموضوعات المقلقة فى موقع الجزيرة على الإنترنت. وفق الوثيقة فإن «خنفر» أحضر ردًا مكتوبًا على نقاط وكالة الاستخبارات العسكرية فى تقاريرها لأشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر من عام 2005، ذكر فيه أن «أحدث الموضوعات التى تثير قلق الحكومة الأمريكية فى موقع القناة قد تم تهذيبه وتهدئة لهجته وأنه سوف يزيله فى خلال يومين أو ثلاثة». وأبلغ مسئول الشئون العامة «خنفر» بأن تغطية «الجزيرة» لاستفتاء العراق على مسودة الدستور فى أكتوبر 2005 أظهر صورة أوراق ملطخة بالدماء ومثقبة بالرصاص فى إشارة إلى العمليات العسكرية الأمريكية بالبشعة فى العراق، فرد عليه «خنفر» أنه أزال الصورة. وقتها اشتعلت النار من تحت أقدام «خنفر» حتى قرر مجلس إدارة شبكة الجزيرة إقالته – بإيعاز من الأمير السابق، حمد بن خليفة - وعين بدلاً عنه الشيخ أحمد بن جاسم آل ثاني. ماذا عن أنس فودة؟ أنس فودة صحفى مصرى ألقى القبض عليه فى دولة الإمارات العربية المتحدة سنة 2013، لمدة 35 يومًا، بسبب شبهات حول علاقته بجماعة الإخوان المسلمين. ولنعرف تفاصيل ما حدث وقتها. عاش أنس فودة فى الإمارات لمدة 10 سنوات تقريبًا، حتى ألقى القبض عليه يوم 27 يونيو 2013 أثناء توجهه للقاهرة لقضاء إجازة. بعد الإفراج عنه - بتدخل رسمى مصرى - تحدث «فودة» لوكالة أنباء الأناضول التركية، حيث ذكر أن «السؤال الرئيسى الذى كان يطرح عليّ فى التحقيقات هو: هل أنت إخوان؟»، وقال إنه لم ينكر خلال التحقيقات انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين منذ عام 1988، مشيرًا إلى أنه أكد للمحقق أنه منذ عام 1995 ليس له وضع إدارى بالجماعة. أما كيف عرفت سلطات الإمارات بانتمائه ل«الإخوان» فكان بعد مكالمة تليفونية تلقاها من مراد على، المستشار الإعلامى لحزب الحرية والعدالة المنحل، الذراع السياسية ل«الإخوان»، طلب فيها لقاءه خلال زيارة الأخير للإمارات. ويشار هنا إلى أن «هافنجتون بوست عربي» يتخذ من إسطنبولولندن مقرين رئيسيين، وتمويله يأتى بشكل أساسى من دولة قطر. هذا عن مؤسس الموقع ورئيس تحريره فلنذهب إلى المحتوى. فى تغطيته للأحداث فى مصر، أمس، اهتم الموقع بخبرين أساسيين. الأول جاء تحت عنوان: «القاهرة تستقبل وفدًا يتبع جبهة البوليساريو الانفصالية.. هل تتوتر علاقة مصر بالمغرب مجددًا؟». تحدث الموقع عن استقبال مصر، الجمعة 14 أكتوبر 2016، وفدًا عن الجمهورية العربية الصحراوية المعروفة ب«البوليساريو» للمشاركة فى أعمال المؤتمر البرلمانى العربى الإفريقى المنظم فى مدينة شرم الشيخ، مشيرًا إلى أن «استقبال مصر لوفد البوليساريو، التى تطالب باستقلال الصحراء الغربية من أيدى المغرب، قد يجعل العلاقة بين مصر والمغرب تعرف منحى آخر». نقل أيضًا عن الباحث الأكاديمى المتخصص فى قضايا الساحل والصحراء، الدكتور عبدالفتاح الفاتحي، أن إقدام مصر على السماح للبرلمان الصحراوى التابع لجبهة البوليساريو - التى يعتبرها المغرب دولة وهمية - فى أعمال المؤتمر البرلمانى العربى - الإفريقى بشرم الشيخ «هو سلوك معادٍ للوحدة الترابية للمملكة المغربية». عبدالفتاح الفاتحى هذا رأى أن تضمين بيان هذا المؤتمر (المؤتمر البرلمانى العربى الإفريقي) توصية لدعم ومساندة حق الشعوب فى تقرير مصيرها والعيش فى سلام طبقًا لمبادئ القانون الدولى وقرارات الشرعية الدولية وقرارات الأممالمتحدة، يجعل مصر حاضنة لفئة لا شرعية لها حتى تشارك فى هذا المؤتمر. ما حقيقة ما حدث فى المؤتمر البرلمانى العربى الإفريقى؟ لنتوقف أمام رئيس البرلمان الإفريقى، روجيه نكودو. بعد الأزمة التى أثيرت عقب نشر خبر استقبال القاهرة وفدًا يتبع جبهة البوليساريو الانفصالية، أكد رئيس البرلمان الإفريقى أن علم وفد البوليساريو لم يتم رفعه نهائيًا فى احتفال مصر ب150 سنة برلمان، أو فى الجلسة الافتتاحية المشتركة للبرلمانيين العربى والإفريقى، لكن تم رفعه فقط فى جلسات البرلمان الإفريقى والاتحاد الإفريقى. «نكودو» أكد أيضًا أن «مصر رفضت رفع العلم فى الجلسات التى نظمتها، نظرًا لعدم اعترافها واعتراف العرب بجبهة البوليساريو»، موضحًا أن «تم رفع العلم فى جلسات البرلمان الإفريقى والاتحاد الإفريقى فقط، وذلك يرجع إلى أن جبهة البوليساريو عضو فى البرلمان الإفريقى». الخبر الثانى تحدث عن مزاعم دعم مصر المتمردين الحوثيين فى اليمن ب«زوارق حربية متطورة»، وذلك نقلًا عن مصادر عسكرية يمينة من دون ذكر أسمائها. بأى منطق لا يمكن لوسيلة إعلامية أن تنشر مثل هذا الخبر. كيف لدولة تشارك فى معركة حربية ضد الحوثيين تحت لواء «التحالف العربى» أن تمد أعداءها المفترضين ب«زوراق حربية»؟. ثم إن مصر بالأساس معنية بوقف أى تقدم ل«الحوثيين» بالنظر إلى مصالحها الاستراتيجية وقد أعلنت - أكثر من مرة - أنها لن تسمح بأى شكل من الأشكال بسيطرة الحوثيين فى اليمن على مضيق باب المندب، وأنها سترد بالطريقة التى تراها مناسبة. بل إننا لا نكشف سرًا حينما نذكر أن مصر أعدت قوة تدخل سريع يمكنها التدخل فى حال هدد الحوثيون الممرات الملاحية الاستراتيجية فى البحر الأحمر. وهذه القوة تابعة للجيش الثالث الذى يدير العمليات الأمنية والمخابراتية فى البحر الأحمر من مقره فى محافظة السويس. ما الذى يقصده «هافنجتون بوست عربي» بهذا الخبر؟ ما يقصده تحديدًا هو ضرب العلاقات المصرية السعودية، أن تقول للسعودية إن حليفكم فى القاهرة يمد الواقفين عند خاصرتكم الجنوبية بأسلحة لاستهدافكم. نحن إذن أمام منصة تحريض موجهة ضد بلد وليست وسيلة إعلامية بأى شكل من الأشكال. منصة تحريض تبغى إشعال قلاقل داخلية ولنا فى تغطيتها للأخبار أو ما تنشره من مقالات حجة. منصة تحريض تسعى لتدمير علاقات مصر من الدول الأخرى. لهذه الأساب تحديدًا ندعو لحجب هذا الموقع المسموم ولا يهتز لنا رمش.