لنمض إلى ما وراء تفاصيل الاختلاف الفقهى بشأن علائق السلطات بالقضاء، ومن خلاله بالشريعة.. فلم يكن الجوينى وحده الذى تحدث عن «سَنن الأكاسرة».. ثم إنّ تلك التفرقة التى ما سلّم بها الجميع بين نهج الشريعة ونهج السياسة، تنضوى على إحباطٍ عميقٍ أمام الطبيعة الدهرية والدُنيانية للسلطة أو الدولة.. وهذه مسألةٌ تتجاوز بكثير مخالفة بعض الوُلاة لأحكام الشريعة، أو تجاهُلهم للقضاء.. وهذا الإدراك المقبض ما أمكن التخفيفُ منه باستعادة ذكريات النبى والراشدين، واستحثاث السلطات على اتّباعها.. ولذا ما كان بدون دلالة صيرورة الفقهاء بعد تردد إلى الاعتراف بالاختلاف بين النهجين: السياسة النبوية أو الشرعية والسياسة الملكية.. فتحدث الماوردى متأثراً بكتب الأخلاقيات الفلسفية عن مهمتين للإمامة: حراسة الدين وسياسة الدنيا.. والسياسة غير الحراسة.. ثم تحدث عن «أدب الشريعة» و«أدب السياسة»: «فأدب الشريعة ما أدّى الفرض، وأدبُ السياسة ما عَمَرَ الأرض»! ولذلك سُرعان ما تجاوز الفقهاء تعريف السياسة بأنه تغليظٌ للعقوبة، وإلى اعتباره نهجاً مستقلاً وسائداً فى كل الدول، ولا بد من الاستجابة له بطرائق أُخرى غير الإنكار.. يقول الطرطوشى وهو فقيهٌ مالكيٌّ بارز ومن كُتّاب نصائح الملوك؛ فى كتابه الفقهى الوعظى المسمَّى «سراج الملوك» إنّ السياسات قسمان وروحهما العدل وإن تفاوتت مقاديره ومقاييسه: سياسة نبوية، وأُخرى اصطلاحية.. فالسياسة النبوية نهجها نهج العدل الإلهى وقد عرفها الناس أيام دولة النبى فى المدينة.. وأما الدولة ذات السياسات الاصطلاحية، فيُشترط فى القائمين عليها تطبيق ما يُشبه العدل الذى فى متناول الناس من «أهل الحكم والحلم الذين يضعون الضوابط والقوانين وفق اجتهادهم». لقد سبق الفقهاء إلى هذا الاعتراف الفاصل بين المجالين فريقان من الكتاب والمؤلّفين غير المتفلسفين العاملين للنموذجين اليونانى والساسانى.. الفريق الأول هو فريقُ كُتّاب نصائح الملوك.. وهذا جنسٌ أدبيٌّ كلاسيكى سارع عديدون منذ ابن المقفَّع إلى الكتابة فيه تحت عنوانين: «ضرورة السلطة، أيِّ سلطة للمجتمع البشرى ومن هنا يأتى عِظَم شأن الملوك - وضرورة الالتزام بالعدل لبقاء المُلْك، واحتمال الناس».. أما الفريق الثانى فهو فريقُ الأخلاقيين الذين قالوا أيضاً بدهرانية السلطة، لكنهم تحدثوا طويلاً عن ضرورة الالتزام بالقيم الأخلاقية وفى طليعتها العدل.. ووصل الأمر أخيراً إلى ابن خلدون الذى تحدث صراحةً عن «طبيعة المُلْك»، وقسّم الدول إلى ثلاثة أنواعٍ أو أقسام: المُلْك الطبيعى، والمُلْك السياسى، والخلافة أوالمُلْك الدينى أو الإسلامى.. ويُناظرُ ذلك التقسيم الثُلاثى للحكومات لدى أفلاطون وأرسطو: رئاسة الأفاضل (= الخلافة)، ورئاسة الكرامة (= المُلْك السياسي)، ورئاسة الخِسّة الفارابية(= المُلْك الطبيعي).. ولأنّ المدينة الفاضلة بحسب هذه القسمة تؤول أو آل التصور إلى يوتوبيا لن تتحقق (طوبى الخلافة بحسب عبدالله العروي)، ولأنّ المُلْك الطبيعى بسبب توحشه مؤدٍ لخراب الاجتماع الإنساني؛ فإنّ الذى يبقى هو المُلْك السياسى أو الوسط الذهبى بين الإفراط والتفريط! كيف اعترف الفقهاء (والماوردى من الشافعية) بالانفصال بين نهجى الشريعة والسياسة، وكيف حاولوا رغم ذلك المُلاءمة بينهما، دون أن يزول تذمُّرُهم، ودون أن تزولَ لدى بعضهم الشكوك فى الطبيعة الدهرانية للسلطة؟ نظرية السياسة الشرعية: وضع ابن عقيل الحنبلى فى كتابه: «الفنون» فصلاً بعنوان: «فى العمل فى السلطنة بالسياسة الشرعية» أورد فيه للمرة الأُولى لدى الفقهاء تعريفاً للسياسة هذا نصه: «السياسةُ ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعْهُ الرسول صلى الله عليه وسلّم ولا نزل به وحى».. وهكذا انتهى التردد لدى الفقهاء فى معنى السياسة وهل هى تغليظُ العقوبة وحسْب، أم أنها تتعلق أيضاً بإدارة الشأن العام القضائى والسياسى.. وبذلك جرى الاعتراف بسياسات السلطنة -كما قال- باعتبارها سبيلاً أيضاً لتحقيق العدالة حتى إن لم تستند إلى نصٍ قرآنى أو نبوى أو حكمٍ فقهى.. وإنما العبرة بالمقاصد والغايات والمآلات.. بحيث يؤدى ذلك التصرف السياسى إلى صلاح حال الناس، وإبعادهم عن الفساد.. لقد ظهرت الحاجةُ إلى «السياسة» لبروز عُوارين: التقصير من جهة فريقٍ من الفقهاء الناجم عن تضييقهم لمجالات العمل الفقهى والحكم الفقهى، وبالتالى التقصير فى تمكين الاجتهاد الفكرى والفقهى والقضائى من تحقيق العدالة.. والعُوارُ الآخرُ استغلال طائفة من الوُلاة والسياسيين للتقصير الفقهى فى تجاوز الفقه والشريعة معاً حتّى «سوّغت من ذلك ما يُنافى حكم الله ورسوله».. وقد فتح اعتراف ابن عقيل بشرعية السياسة والعمل السياسى الأُفق لدى الفقهاء فى عدة اتجاهات: الاعتراف بوجود مجالٍ مشتركٍ يتعاون فيه الفقهاءُ والساسة لتحقيق العدالة والصلاح الاجتماعى، بدلاً من الاستمرار فى الجدال بين الفقهاء أنفسهم من جهة، وبين الفقهاء وسياسيى «السلطنة» من جهةٍ ثانية.. فزمنُ ابن عقيل، ومن قبله إمام الحرمين، هو زمنُ السلطنة السلجوقية، التى غلبت على عاصمة الخلافة بعد انحسار البويهيين.. والسلطنةُ سلطةٌ دهريةٌ صريحة، وإن استظلّت شكلاً بالخلافة العباسية.. وما كان إمام الحرمين الجوينى منطقياً فى استمرار اعتراضه على «حكم السياسة» تبعاً لمذهبه الفقهى الشافعي؛ وخاصةٍ أنه أدرك المشكلة الحاصلة فى «شرعية» الدولة منذ ظهور السلطنات، ومن أجل ذلك أَلَّف كتابه الشهير «غياث الأُمم فى التياث الظُلَم».. والظُلَم التى قصدها إمكان انتفاء الشرعية مطلقاً على فَرْض فقد الأئمة الكُفاة (= الخلفاء)، وفقد الفقهاء المجتهدين.. وهذا احتمالٌ بالغُ الهول، لأنه قد يعنى انتهاء دولة الإسلام، وربما زوال الدين! وقد رفض الجوينى فى كتاب الأزمة هذا موقف زميله ومعاصره الفقيه الشافعى الكبير أبى الحسن الماوردى صاحب «الأحكام السلطانية» الذى اعتبر «الشرعية» مستمرةً ومتحققةً بالخلافة والسلطنة معاً استناداً إلى استمرار الأمة والجماعة والدين، وإلى الاعتراف المتبادَل بين الخلافة والسلطنة.. وقد لمَّح الجوينى إلى إمكان الاستغناء عن الخلافة بأصحاب الشوكة الجُدُد دون أن يجرؤ على المُضيّ بالأمر إلى نهاياته؛ فى الوقت الذى ظلَّ يُنكر فيه مشروعية «سياسات» السلطنة على سبيل الاستقلال، ليس عن الخلفاء، بل عن الفقهاء حَمَلة الشريعة.. وقد رأينا أنّ الماورديَّ ألمح إلى ذاك الاعتراف المتبادَل عندما تحدث عن أدب الشريعة (الذى يحفظ الفرض، أى الشأن الدينى والتعبدي)، وأدب السياسة (الذى يعمُرُ الأرض).. كما أنّ الطرطوشى المالكى تحدث بعده عن السياسة النبوية، والسياسة الاصطلاحية أو التى يتلاقى ويتعارف الناسُ على القبول بها.