وقف العامل محمود مرعوبا وسط العشرات من أهالى مدينة السلام، الذين أمسكوا به قبل أن ينجح فى الفرار، بعدما ترك جثة رضيع على باب أحد المساجد فى المنطقة، سلموه إلى قسم الشرطة، ومن هناك أحيل إلى النيابة العامة، التى أمرت بالإفراج عنه على الفور، عندما استمعت إلى مأساته التى دفعته إلى محاولة التخلص من جثمان رضيعه، لعجزه عن تحمل نفقات دفنه. «لو كان الفقر رجلا لقتلته»، تلخص تلك المقولة الكثير من مشاعر محمود، الذى حرمه الفقر من وضع رضيعه فى القبر، فتركه أمام المسجد، على أمل أن يجد من يتصدق عليه بالدفن.. وعندما بدأت «البوابة» رحلة البحث عن محمود فى مدينة السلام، لم يكن الوصول إليه صعبا، فالرجل أصبح معروفا بالنسبة لمعظم الأهالى، الذين حاولوا الفتك به فى البداية، قبل أن يتعاطفوا مع قصته. فور وصولنا إلى المسجد الذى شهد الواقعة، قادنا أحد شباب المنطقة إلى منزل العامل مباشرة، ومن الوهلة الأولى ظهرت ملامح الفقر على كل ركن فى الغرفة التى يسكنها الرجل مع أسرته المطحونة، وهى غرفة تحت مستوى سطح الأرض، تحيط بها مياه الصرف الصحى من كل جانب، بينما وقف الأب بملابس متهالكة منحنى الظهر أمامنا، كأن كل هموم الدنيا تجمعت على رأسه. فى البداية، رفض الحديث معنا، وانهمرت دموعه سريعا، عندما تذكر ما حدث، لكن بعد لحظات قليلة استعاد هدوءه، ثم صمت قليلا، وقال «عم تريدون أن أتحدث؟، عن ابنى الذى راح منى دون أن أراه بسبب الفقر، وبعد عامين من الانتظار؟، أم عن والدته التى تعانى ألم الفراق حتى الآن؟، أم عن سيرتى التى أصبحت على لسان الجميع؟، أم عن الفقر الذى أكل جسدى، وحولنى إلى جماد، لا أشعر بشيء، لدرجة أن ألقى جثة ابنى بهذا الشكل؟». واستكمل محمود مأساته قائلا «منذ عام تقريبا، تعرضت للفصل التعسفى من عملى، ومن وقتها لم أعد أملك قوت يومى، وكانت الأيام تمر على أنا وزوجتى دون أن نجد لقمة العيش الحاف، وعندما حملت زوجتى، لم نتمكن من تحمل مصروفات وأدوية الحمل، وكنا نعلم أن الطفل معرض للخطر، لأن الأم كانت هزيلة جدا، ولا تتغذى بالشكل المطلوب، ومرت أشهر الحمل دون متابعة الطبيب للحالة، وجاء موعد الولادة الذى كنت أخشى قدومه، فكيف سأنفق على الرضيع بينما محفظتى خالية من الأموال، ورغم ذلك نقلت زوجتى إلى المستشفى، وفور الولادة، أبلغنى الطبيب بأن حالة الطفل خطيرة، وبعد دقائق قليلة لفظ أنفاسه الأخيرة». وأضاف «وقتها تضاربت مشاعرى بين الحزن على طفلى الذى قتله الفقر، والفرح بأنه رحم من الحياة كالأموات مثل والديه، واستلمت الجثمان من المستشفى لأدفنه، رغم أننى لم أكن أحتكم على جنيه واحد، وبعد أن سرت على قدمى لساعتين متواصلتين، والدموع تغرق وجهى، لم أجد ما أفعله، فقررت أن أتركه بجوار أحد المساجد، دون أن يشعر أحد، حتى يجد من يدفنه». وعندما اقترب محمود من أحد المساجد، شاهد جنازة تخرج منه، فترك ابنه بالقرب منها، حتى يلتفت له أحد المارة، ويتولى دفنه مع الميت، إلا أن الأهالى شاهدوه، وسلموه إلى الشرطة، لاعتقادهم أن الجثة لابن حرام، ويقول محمود عن تلك اللحظة «فى النيابة، تأكدوا أن الرضيع ابنى، بعد الاطلاع على شهادة الصحة، وقسيمة الزواج، فتركونى وشأنى، وتولى إمام المسجد مصروفات الدفن»، واختتم الأب كلامه قائلا «ضنايا راح ضحية الفقر، أما أنا ووالدته فمازلنا نعيش كالأموات تحت سطح الأرض».