من أهم الانتقادات التى يوجهها المفكر السورى الدكتور محمد شحرور، إلى «العقل العربي»، أنه «ترادفى» و«قياسي» و«تحريمي»، ويقصد بالأولى أنه لا يتحرى الدقة، فيظن أن الأب هو الوالد، ويقصد بالثانية أنه يسعى إلى نسخة أصلية من الأحكام ليقيس عليها أى مسألة يتعرض لها من دون تمحيص فى الفروق الجوهرية بين هذه الحالات، ويقصد بالثالثة أنه يعتبر أن الأصل فى الأشياء المنع إلى أن يثبت العكس، كأن يبادر بالسؤال عما إذا كانت هذه الآلة حلالا أم حراما، بدلا من أن يبحث فى كيفية استغلالها أو صناعة مثلها. وفى كتابه «نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي» حمل شحرور فقهاء الإسلام، مسئولية هذه الأزمات الثلاث، التى اعتبر أن كل واحدة منها تكفى لعرقلة مسيرة إنتاج المعرفة، وكيف لا وقد حددوا بفهمهم البشرى أصولا لما سموه «الفقه» فى 4 مصادر، هى القرآن والسنة والإجماع والقياس، وبصرف النظر عن أنهم أوقفوا دلالات نصوص الكتاب عند سقفهم المعرفى المنخفض، فإنهم لم يبحثوا عن بديل منطقى وعملى للخروج من إشكالية الإفتاء بأحكام جازمة يدخل بها الشخص الجنة أو النار، اعتمادا على نص نقله بشر عن بشر منسوبا إلى النبى محمد فى نهاية سلسلة الإسناد. الأنكى من ذلك أن المصدرين الثالث والرابع من أصول الفقه، جعلا من الفقيه بديلا لله ورسوله فى التشريع، فالإجماع مثلا، ويقصد به اتفاق العلماء لا تجوز مخالفته، وبالتالى فهو فى مرتبة المحرمات التى اختص الله نفسه بتحديدها، وذلك على الرغم من أنهم هم من اخترعوا هذا المفهوم وهم من اعتبره أحد الأصول، وهو عمل بشرى مائة بالمائة، شأنه شأن «القياس» الذى يوقف العقل عن العمل خارج إطار ما حدده الأولون من أدوات ومفاهيم. وحتى حين واجه الفقهاء قصورا شديدا فى منهجهم عند التطبيق العملي، اخترعوا أصلا خامسا هو «الاجتهاد»، وجعلوه حكرا على أنفسهم أيضا، واضعين شروطا لمن يستخدمه فى الإفتاء، معظمها تشدد على ضرورة الإحاطة والالتزام بما أصله السابقون من مناهج وأدوات فى التأويل والتفسير ومن ثم فى التشريع، ومنها الإلمام ب«الناسخ والمنسوخ» فى كتاب الله، وفقا لمفهومهم، الذى يجعلهم يعطلون آيات ثابتة ويحكمون بدلا عنها أحاديث نقلها بشر، أو ربما إجماع أو حتى اجتهاد لأحدهم. وقضية النسخ هذه، من أبرز النقاط التى قدم فيها «شحرور» آراء صادمة، من شأنها إحداث تغيير جذرى فى الخطاب الإسلامى بكل تفاصيله، فقد استخدم أدواته اللغوية والمنطقية بالتقاطع مع فكرة «الرحمة» الأصيلة فى الرسالة، ليتوصل إلى أن قوله تعالى: «ما ننسخ من آية أو نُنسها نأت بخير منها أو مثلها»، لا يعنى إلغاء آيات فى المصحف، بل تعطيل أحكام فى الشرائع السابقة، والإتيان بأحكام مثلها أو أفضل منها وأكثر رحمة وتخفيفا فى شريعة محمد. ومما رسخه المفكر السورى فى خطابه التجديدى لأصول الفقه، مفهوم «الأصل فى الأشياء الإباحة»، وقدم 3 مستويات للأفعال، الأول هو الحرام، وقد حددها الله فى 14 بندًا فقط، والثانى هو ما أمر الله بفعله أو اجتنابه أو نهى عنه المؤمنين، وهو يدخل فى إطار التوصية أو التفضيل، أى أنها ليست ملزمة من الله، فضلا عن أن تكون ملزمة من النبي، والثالث هو المباح أو الحلال، وهو فى وجهة نظره لا يمارسه البشر إلا مقيدا، وهذه القيود هى التى يضعها الحاكم لتنظيم المجتمع، بهدف الحفاظ على النظام العام للدولة. من خلال هذه الأصول الجديدة، انطلق الدكتور شحرور إلى آفاق أكثر رحابة فى مسائل الحرام والحلال الراسخة فى الفقه الإسلامى بمفهومه السائد، ليقلب الطاولة بآيات الكتاب نفسها على خصوم الدين وأنصاره التقليديين على حد السواء، فتوصل مثلا إلى أن شرب الخمر ليس حراما، لأن الله لم يذكره من بين المحرمات، وإنما جاء فى سياقات الأمر بالاجتناب. فبنزع فكرة «النسخ» بمفهوم الفقهاء، يتسع المقام لوضع كل واحدة من آيات الخمر فى مكانها الصحيح، فقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون» واضح الغرض والعلة، ولا يتنافى مع قوله «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما»، الذى لم يقدم تحريما أو تحليلا، إنما لفت الانتباه إلى أن فيهما منافع ومفاسد.