لم أعبأ من مواجهة رجل المباحث محتميا بصغر سنى، ولأنى لم أعرف أنه كان من المباحث. لكن أبى استدعانى بعدها لمكتبه وقد رأى مجلتى فسألنى هل تحب عبدالناصر فعلا؟. فوجئت بالسؤال ثم أجبت فورا (طبعا) سأل ببساطة: (لماذا؟). دارت الأرض تحت قدمى وجف حلقى بحثت عن سبب فلم أتذكر إلا بعض مبادئ الثورة التى حفظتها وكتبتها فى كراسة الإنشاء ونلت أعلى الدرجات (القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم، إقامة حياة ديمقراطية سليمة، إقامة عدالة اجتماعية، بناء جيش وطنى قوي). ضحك أبى بسخرية وقال (هذا ما لقنوك إياه بالمدرسة). اندفع الدم إلى وجهى صرخت لكن بينى وبين نفسى (أنت ديكتاتور أنت غير مؤمن!.. عبدالناصر موجود أدعو الله أن يغفر لك!). لكن أبى لم يتدخل بعد ذلك. ولم يناقشنى فى أى شيء لا أدرى هل كان ذلك خوفا على من المصير الذى وصل إليه؟. فقد عمل فى جريدتين ملك للدولة متجنبا أن يكتب فى السياسة ولكن فى المرتين وبعد فترة قليلة جدا كانوا يستغنون عن خدماته. وبمعنى آخر رفده. لكنه أخذ يشجعنى على الكتابة. وحدث أن مرضت وكان على أن ألزم الفراش لمدة طويلة ولما قرأ قصتى (ابن القباقيبي) بمجلة (الأحرار) حرضنى أن أكتبها بتوسع لينشرها لى فى كتاب وكنت قد قرأتها فى كتاب تاريخى أعطاه لى. وهو عن صبى صغير فى وقت الاحتلال الإنجليزى الأول لمصر قاوم الإنجليز بأن قذف على معسكرهم كرات مشتعلة ولكنهم تعرفوا عليه وسقط شهيدا. وبالفعل قضيت أيامى بالفراش أعيد كتابة القصة بتوسع. وقام جهاد أخى الأصغر برسم صورة الغلاف والرسوم الداخلية وعندما انتهيت راجع أبى العمل وأضاف إليه بعضا من الفلفل والبهارات من عنده ودون أن يخبرنى! ثم طبع الكتاب بمطبعة الصباح فى ألف نسخة بمبلغ عشرين جنيها وصدر فى فبراير 1958. ولم يكتف بهذا بل أخذنى لنمر على بعض أصحابه من الصحفيين الذين عملوا معه لأهدى الكتاب لهم علهم يكتبون عنه وبالفعل كتب حافظ محمود نقيب الصحفيين وقتها عامودا عن الكتاب يشيد بى. ولما نشر المقال لفت ذلك نظر المباحث فصادرت الكتاب لعشرة أيام وجاء فى أسبابها- كما حكى لى أبي- أن أسلوب الكاتب عنيف! لاحظ أننا كنا فى عام 58 بعد دحر العدوان الإنجليزى الفرنسى الإسرائيلى!. ثم أفرج عنه بعد عشرة أيام لأن الكتاب لم يوزع مع باعة الصحف. وبالتالى لا خطر منه. مع أن القصة تتحدث عن طفل وحوادثها جرت فى زمن بعيد وكان ضد الإنجليز الذين حاولوا احتلالنا. ولا حول ولا قوة إلا بالله!. لكن بعد حدوث المصادرة لم يكتب عنه شيء. ولأنى كنت قد أخذت جانب أمى التى طلبت الطلاق لما تزوج وانفصلا فلم أقدر له هذا الصنيع حتى كبرت وأدركت متأخرا أنه كان يأمل أن يجعل منى كاتبا معروفا فربما يكون هذا أهم أعماله فى الحياة وقد أجبر على ترك السياسة بل والكتابة نفسها فى أى مكان. ولذلك عندما ألحت على زوجة أبى وكانت سيدة طيبة لأفتتح الكتاب بأن أكتب كلمة أهديها إليه وعندما شعرت بفتورى أملتنى الإهداء بنفسها وكان نصه (إلى أبى الذى علمنى الإيمان بالتضحية أهدى كتابى الأول عن حياة طفل كان كبيرا بين الأبطال). بل إن السلطة كانت تضيق عليه الخناق حتى لا يجد ما يطعم به أولاده الثلاثة وزوجته. كان أبى الذى أصدر عدة صحف إلى جانب كتب متنوعة بل وقصص قد أعلن فى جريدته استفتاء عن تأميم قناة السويس أو عدم تأميمها وكان ذلك قبل ظهور حركة الجيش فى 23 يوليو بأعوام وجاء الاستفتاء يؤكد أن الغالبية مع التأميم وهو ما كان يحرض عليه. ومع ذلك دهم شقتنا ضابط شرطة وعساكر بعد الثورة بفترة ليفتشوا الشقة تفتيشا دقيقا ثم خرجوا ولم يعثروا على شيء مريب. رغم أن السلطة الوطنية كما قلت من قبل أجبرته على عدم الاشتغال بالسياسة. أما الرقيب التالى على أنا فكان هو أبى نفسه ثانية لكنه لم يكن يقصد!.