عبدالناصر خلال حديث أجراه معه فى 30 يونيو 1967 أنتونى ناتنج الذى كان وزيراً فى الحكومة البريطانية قبل أن يستقيل ويعمل فى الصحافة كان الرئيس جمال عبدالناصر يقرأ كثيرا.. الصحف أكثر من المجلات.. والمجلات أكثر من الكتب.. كان يقرأ »الأهرام« وثلاث صحف أمريكية، وأفضل المجلات الإنجليزية وأحيانا كثيرة إحدي الصحف البيروتية، لا سيما جريدة »الجريدة«. كان عبدالناصر يهوي الصحافة.. قال له عبدالحكيم عامر وهو يراه يزور »المصري« و»آخر ساعة« و»روزاليوسف« فيقرأ المقالات والأخبار قبل طبعها: »كان ينبغي أن تكون صحفيا«.. ولا عجب أن يكون أفضل صديق له في سنواته الأخيرة صحفيا هو محمد حسنين هيكل.. وأن يكون »المدني« الأقرب إليه في أوائل عهد الثورة رئيس تحرير »المصري« أحمد أبوالفتح.. بالتأكيد كان يحز في نفسه ألا تكون له موهبة كاتب. لم يكن جمال عبدالناصر متعطشا إلي معرفة العالم الخارجي، فهو لم يكن يقرأ الصحف الأنجلوسكسونية إلا كاستراتيجي نهم يتشوق إلي معرفة العدو، وكلاعب يتوجب عليه الاطلاع علي أسلوب منافسه في اللعب.. خلال سنوات حكمه الأولي كانت تسحره أحاديث ومسارات زائريه الأمريكيين، وقد أسر إلي »بنو ميشان« عام 8591: »عندما وصلت إلي الحكم كان الأمريكان يحبونني، فأنا أتكلم الإنجليزية وأقرأ صحفهم ومجلاتهم وأعجب لمنجزاتهم.. وكنت أعتقد أن »طريقة الحياة الأمريكية« هي الفضلي، وأن الأمريكان يناهضون الاستعمار«. لكنه كان معجبا بالانجليز، فما إن يظهر له أحدهم كالسفير السيد هارولد بيلي أو النائب ريتشارد كروسمان بعض الميل حتي يتغلب علي نفوره السياسي من الانجليز ويعترف بما حققوه في مصر. وكان يتصفح »باري ماتش«، لكنه كان يفضل التايمز أولايف، وتعلم في آخر أيامه الفرنسية ببعض الصعوبة وكان راغبا في متابعة برنامج أولاده الفرنسي.. لكن فرنسا ظلت بعيدة بالنسبة إليه علي الرغم من السياسة الديجولية المؤيدة للعالم العربي. في كتابه »الريس« للمؤلف »روبرت سان جون« وهو من أبرز الصحفيين والمؤلفين الأمريكيين، يقدم سيرة دقيقة كاملة تتعمق بإمعان في حياة عبدالناصر من مرحلة صباه حتي بزوغ نجمه علي المسرح الدولي. ثلاث جرائد صباحية في البداية يقول المؤلف إن »عبدالناصر« يستيقظ في الساعة السابعة صباحا، فيغتسل ويحلق ذقنه ويتناول إفطاره، وهو عبارة عن الشاي والجبنة البيضاء، وسلطانية من الخبز واللبن، وطبق من الفول.. وهو يستغرق وقتا طويلا أثناء وجبة الإفطار، لأن هذا هو الوقت الذي يقرأ فيه ثلاث جرائد صباحية تصدر في القاهرة، لكي يعرف ما وقع من أمور، ولكي يعرف ما إذا كان المحررون والرقباء علي الصحف قد أدوا عملهم علي وجه حسن أم لا، وإلا فيجب إبلاغهم أنباء ذلك فورا.. ثم يسير الخطوات التالية ما بين حجرة الطعام والمكتب حيث يقضي أربع ساعات أخري يقرأ تقارير وزرائه وبرقيات سفرائه وأي بريد آخر يري سكرتيره الخاص أنه يجب أن يعرض عليه، وهو متعود أثناء حديثه في التليفون أن يرسم علي النتيجة التي أمامه.. وإذا فحصت أوراق النتيجة خلال السنوات الأربع الماضية لوجدت أن رسوما معينة تتكرر مرة بعد أخري. وفي فترة الصباح تكثر تنقلات مساعديه بين المكتب ومبني السكرتارية المكون من طابقين علي الجانب الآخر من الطريق، وهذا هو قصر سكرتيريه الخصوصيين، ويعمل كل منهما مدة عشر ساعات، وعلي ذلك فهناك ساعات قليلة قبل طلوع النهار لايكون أحد منهما موجودا خلالها، ويساعدهما أربعة من المختزلين والستة كلهم ذكور.. وتصل الخطابات العادية من الخارج مباشرة إلي المقر السابق لمجلس قيادة الثورة في الجزيرة، ويصل من هذه الخطابات ألفان أو ثلاثة آلاف خطاب يوميا معنونة باسم ناصر نفسه، نصفها من الولاياتالمتحدة، وكثير منها من الدول الشيوعية، ويجيب عن هذه الخطابات جهاز مكون من 26 رجلا وهم في الغالب من ضباط الجيش السابقين.. وامرأتان تقدران علي قراءة وكتابة أي لغة في العالم تقريبا. وفي مبني الجزيرة يجلس جاويش سابق في الجيش علي مكتب لمدة عشر ساعات يكتب اسم ناصر علي صور ناصر، وأحيانا يكتبه علي ألف صورة في اليوم الواحد.. وقد أختير هذا الشخص لأن خطه يشبه خط الرئيس.. ويرسل هذا الجهاز بالبريد أيضا نسخا من قصة حياة ناصر، ونسخا مجانية من كتاب »فلسفة الثورة« وطوابع بريد لهواة جمع الطوابع. ولا يملي الرئيس عبدالناصر خطاباته أبدا، ولكنه يعطي سكرتيره فكرة عامة شفوية عما يريد قوله، ثم يكتبها السكرتير بعد ذلك في لهجة المخاطب. وبعد الغداء يقرأ ناصر كومة من الجرائد اليومية التي تأتي من مدن العالم العربي الأخري.. وربما يستمر ذلك ساعتين، ثم ينام بعدها حتي الخامسة مساء.. وعندما يبدأ عمله الحقيقي، فهو خلال الثماني أو التسع ساعات التالية يعقد الاجتماع تلو الآخر مع وزرائه ومع الدبلوماسيين الذين يعملون في القاهرة، ومع محرري الصحف المحليين والأجانب، وهو يحب أن يؤجل مقابلاته مع الأجانب إلي وقت متأخر من اليوم بقدر الإمكان، وكلما كانت الساعة متأخرة شعر أنه أحسن قدرة علي التفوق بدهائه علي دهائهم. سري جدا وفي الساعة التاسعة من مساء كل يوم يصل رسول من القاهرة يحمل النسخة الأولي من جريدة يحررها ويصدرها جهاز من الكتاب والمحررين والباحثين في مصلحة الاستعلامات، لناصر ومساعديه الكبار التسعة والتعسين، وتطبع منها مائة نسخة فقط، ثم توزع ومكتوب علي كل نسخة منها بأحرف كبيرة عبارة »سري جدا« ويسمح للوزراء وكبار الموظفين فقط بقراءة هذه النشرة لأنها تحتوي علي كل الهجمات الموجهة ضد نظام الحكم من أي مكان في العالم في الأربع والعشرين ساعة.. وإلي جانب هذا الملخص اليومي تعد مصلحة الاستعلامات ملخصا في عشرين صفحة لكل كتاب ينشر بأي لغة هامة وتعتبره المصلحة هاما، ويرسل لناصر واحد علي الأقل من هذه الملخصات يوميا. وتصله كومة من رسائل الأخبار الحديثة من ماكينات المطبعة مرتين يوميا، وإذا وصل تقرير له أهمية خاصة بالنسبة لمصر يرسل إليه مباشرة بصرف النظر عما يفعله، وعندما تصل إلي مساعديه رسالة له فإنهم لا يتهامسونها بل تكتب دائما علي قطة صغيرة من الورق وتسلم إليه دون تعليق. وبعد أن ينصرف آخر ضيف، وبعد أن يكون قد قرأ آخر تقرير، وأجاب عن كل مكالمة تليفونية فإنه يذهب إلي حجرة نومه، وذراعه محملة بالجرائد والمجلات الأمريكية والبريطانية والأوروبية والعربية، ويخلع ملابسه ويدير جهاز الراديو المجاور لسريره، ويقضي الساعة أو الساعتين التاليتين في القراءة. وهو يقول: »إن معظم ذلك تكرار لما هو في الملخص، ولكني أحب أن آراه في الأصل، إنني أعتبر قراءة الملخص واجبة، ولكن قراءة الجرائد والمجلات متعة، وهذه هي هوايتي الحقيقية، وأحيانا أري في الجرائد أشياء لم ترد في الملخص كقصص غير هامة، ولكنها تهمني.. إن مثل هذه القصص تربطني بالعالم، وإنني أستمتع بالمجلات مثل تايم ولايف، من أجل الإعلانات وأحب الصور الهزلية والصور في المجلات الفرنسية. وينتقده بعض معارفه فيما بينهم لأنه يقرأ كثيرا جدا، ففي بعض الأيام يقضي خمس أو ست ساعات يقلب صفحات الدوريات، وهم يشعرون أنه يمكن أن يستفيد من وقته أكثر من ذلك، لكنه يحب أن يري اسمه مكتوبا علي الصفحات، ويود دائما أن يقرأ النخسة الأولي الأصلية من كل مقال يكتب عنه، كما أنه يأخذ معه إلي حجرة نومه مجموعة من برقيات المراسلين الأجانب التي أرسلوها إلي جرائدهم خلال اليوم، وهو يقرؤها بدقة أكثر مما يفعل الرقباء. رجال المخابرات وبعيدا عن الصحافة.. كان الجيش القاعدة الأولي لسلطة عبدالناصر، لكن هذا الجيش اشتد ساعده عام 4591 وصار يشكل قوة من شأنها أن توازي قوة الرئيس.. من هنا يفهم اهتمام عبدالناصر بتجهيز الجيش بكل ما يحتاج إليه من أسلحة، وبمراقبته مراقبة فعالة من جهة أخري.. كان المشير عبدالحكيم عامر موكلا »بتدليل« الجيش في حين كانت المخابرات تراقب، وساهمت أساليب المراقبة في تعطيل فعالية الجيش، كانت الفرق تمنع من الاقتراب من المدن، بحيث تظل بعيدة عنها عشرين كيلو مترا، وكان تموينها بالبنزين محدودا مما شل في يونيو 7691 أفضل وحدة في الجيش »وحدة اللواء الشاذلي«. وباستثناء هيكل وعامر نجد أن الذين اعتمد عليهم عبدالناصر في حياته السياسية أتوا من »المخابرات«.. من زكريا محيي الدين وعلي صبري، ومن شمس بدران إلي شعراوي جمعة.. ومن سامي شرف إلي أمين هويدي.. كانت المخابرات تشكل قوة عبدالناصر الكبري في الجامعات والأحياء الشعبية، في دمشق وفي جنيف.. في بيروت وفي الجزائر، في كل مكان حتي في إسرائيل.. وبما أنه لم يكن ينبغي أن تكون المخابرات قوية جدا، فكان عبدالناصر يعتمد علي »المباحث العامة« (البوليس السياسي) لمراقبتها، وعلي »الدوائر المختصة« في القصر الرئاسي لتشرف علي الجميع.