فى مكتبه بالأهرام هىكل وعبدالناصر والسادات ماذا يحدث حينما يكون السياسي صفحياً.. أو العكس! »المعلومات«.. السلاح الذي أوصل هيكل إلي قمة العمل السياسي من هي المرأة التي قال لها عبد الناصر: »أريد أن أتصور معك.. كان نفسي أشوفك من زمان«؟ خالد محيي الدين: عبد الناصر أبدي منذ اليوم الأول للثورة حرصا فائقا علي توطيد العلاقة مع كبار الصحفيين المصريين بعد أن دخل هيكل دار أخبار اليوم في ربيع عام 1946، قدم عددا من التحقيقات الصحفية حققت نجاحا كبيرا ولفتت إليه أنظار كثيرين في مصر، ولاقي تشجيعا كبيرا توج بفوزه بجائزة »فاروق الأول للصحافة العربية« وكانت جائزة لها شأنها في ذلك الوقت. وأراد هيكل أن يضاعف نجاحه المهني ويفتح له حدودا دولية خارج مصر فينفرد بين زملائه جميعا في إجراء تحقيقات خارج بلده، وساعده علي أمين في تحقيق رغبته بعد أن تحمس لاقتراحه رغم أنه لم تجازف أي دار صحفية أخري بمثل ما فعلته »أخبار اليوم« مع هيكل. قام الصحفي الشاب بتغطية الحوادث الساخنة في الشرق الأوسط وفي العالم، ففي الحرب الأهلية في اليونان ومنطقة البلقان وحرب فلسطين من أولها إلي آخرها، وكذلك سلسلة الانقلابات العسكرية في أوربا، وأيضا عمليات الاغتيال الكبري في المنطقة، من اغتيال الملك عبد الله إلي اغتيال رياض الصلح في عمان إلي قتل حسني الزعيم في دمشق ثم إلي ثورة مصدق في إيران، ثم اتسعت المسافات فإذا به يغطي المشاكل الملتهبة في قلب أفريقيا ثم حرب كوريا وحرب الهند الصينية الأولي. وبعد خمس سنوات من التجوال استقر به المقام في القاهرة بعد أن حصل علي جائزة فاروق الأول للصحافة العربية ثلاث مرات، ثم قرر بعدها ألا يتقدم للجائزة ويتركها لغيره. لقد حقق نجاحا كبيرا جعله تقريبا من ألمع الصحفيين الشبان في مصر، وتمكن من ربط مجموعة من العلاقات الخاصة مع كبار الساسة والصحفيين في العالم. رئيسا لتحرير آخر ساعة وفي داخل مؤسسة أخبار اليوم كافأه علي ومصطفي أمين بأن عرضا عليه رئاسة تحرير آخر ساعة ومنصب مساعد رئيس تحرير »أخبار اليوم« وقبل عرضهما.. وكان أستاذه محمد التابعي أكثرهم سعادة فقد دعاهم جميعا إلي العشاء ليلتها في بيته ومعهم أم كلثوم. ويصف هيكل هذه الفترة قائلا: »كانت أخبار اليوم هي محور حياتي كلها وتحولت العلاقة التي تربطني بأصحابها إلي مايشبه علاقة أخوة خصوصا بالنسبة لعلي أمين الذي كنت شاهد زواجه الأول ثم أصبح بدوره شاهد زواجي بعد ذلك عام 1955«. هيكل.. وعبدالناصر ومع قيام ثورة 23 يوليو 1952، وجد هيكل نفسه قريبا جدا من قائد الثورة جمال عبد الناصر خاصة أن علاقة نشأت بينهما منذ فترة سبقت الثورة، وتطورت الأحداث بسرعة. إن ظاهرة السياسي الذي عمل في الصحافة، ظاهرة متكررة عبر التاريخ، فهؤلاء الساسة يستخدمون الصحافة كوسيلة للدعاية لأفكارهم ونشرها عبر أجهزة الإعلام الجماهيري، ويستفيدون من هذه المهنة لما توفره لهم من علاقات اجتماعية كثيرة، تقربهم من ساحة التفاعل الاجتماعي إن لم تجعلهم في قلبها.. هؤلاء كانوا محترفي سياسة، وظفوا الصحافة لنشاطهم السياسي، والأمثلة عبر التاريخ كثيرة. فكارل ماركس »أب الفكر الشيوعي« عمل في بداية حياته في (مجلة الراين) حتي منعتها السلطات البروسية عام 1843.. وكذلك فلاديمير التيش أوليانوف لينين، الذي قاد أكبر الثورات التي هزت العالم في القرن العشرين، فقد فطن إلي أهمية الصحافة، فأسس سنة 1900 صحيفة »اسكرا« بألمانيا، ثم أسس الصحيفة الشهيرة (برافدا) سنة 1912 بروسيا. وأيضا بينيتو موسيليني الذي ترأس صحيفة »إلي الأمام« سنة 1908، ثم أسس صحيفة »شعب إيطاليا« التي ساعدته علي نشر أفكاره ومن ثمة الوصول إلي السلطة في 30 أكتوبر 1922. إن هذه النماذج المتكررة عبر التاريخ تطرح مسألة معقدة وهامة، وهي علاقة الصحافة بالسياسة عندما يمارسها نفس الفرد.. أي ماذا يحدث حينما يكون السياسي صحفيا.. أو العكس؟ لكن في حالتنا هذه.. نلاحظ أن محمد حسنين هيكل كان صحفيا محترفا مقدرا، محبا، لمهنته، وفيا لها، قبل أن ينشط في الحقل السياسي، وأكثر من أن يهتم بمستقبله في السياسة، بل يكاد يكون عكس النماذج التي ذكرناها، فهو كثيرا ما وظف السياسة لصالح الصحافة، لأنه يعتبر نفسه صحفيا قبل أي شيء آخر.. ورغم ذلك فهو، عاش مثلهم تجربة السياسة والصحافة معا بتشعباتها وتعقيداتها المختلفة. وإذا كان هيكل قد عاش حياته صحفيا وسياسيا طيلة الثلاثين سنة تقريبا (من سنة 1952 إلي سنة 1981).. فإن »المعلومات« كانت السلاح الأساسي الذي أوصل هيكل إلي قمة العمل السياسي وجعلته مقربا لصانع القرار، فأعطي معلومات للقيادة، وسرعان ما فتحت له بعد مدة أسرار الدولة علي مصراعيها. ومن الواجب أن نؤكد علي أن علاقته بالعهد الناصري كانت أساسا علاقة شخصية بينه وبين الرئيس جمال عبدالناصر. عبدالناصر .. في الأهرام وحسب رواية نوال المحلاوي - سكرتيرة هيكل، وقد عملت مع هيكل منذ دخوله الأهرام وبقيت معه 13 سنة ولم يبعدها عنه إلا كارثة سياسية من النوع الثقيل.. وقد تخرجت في الجامعة الأمريكية في عام 1956 بعد أن درست الصحافة والإدارة.. وأجادت اللغة الإنجليزية.. لكن كانت أهم مواهبها حفظ وكتمان الأسرار.. وحتي وفاتها بالسرطان في عام 1999 ظلت ترفض كتابة مذكراتها.. وماتت معها معظم الأسرار.. وكل ما عرف عنها أنها عملت لمدة عام واحد محررة في وكالة أنباء الشرق الأوسط.. ثم تركتها إلي مكتب هيكل، لتصبح الشخصية القوية في الأهرام بعد رئيسها.. لدرجة أن جمال عبد الناصر عندما جاء لزيارة الأهرام لم يعترض عندما أعدت له بيدها فنجانا من القهوة وقدمته له.. وكان مقررا ألا يشرب.. ولا يأكل شيئا.. وتناول جمال عبد الناصر القهوة وقال لها: »أريد أن أتصور معك.. كان نفسي أشوفك من زمان.. كنت أسمع صوتك في التليفون بس«. ونعود إلي رواية نوال المحلاوي.. فإن جمال عبد الناصر عندما دخل مكتب هيكل وهو يفتتح المبني الجديد للأهرام وجد أنور السادات الذي كان مرافقا له في الزيارة يشير إلي المقعد الذي يجلس عليه هيكل ويقول: »شايف.. يا ريس.. محمد بيقعد علي كرسي شكله إيه؟«.. وكان الكرسي من تصميم »جينو« (وقد وضع هذا الكرسي في مخازن الأهرام بعد خروج هيكل منه في الساعة الثانية والنصف بعد ظهر يوم أول فبراير سنة 4791). وإذا كان أنور السادات قد أنتبه إلي الكرسي فإن جمال عبدالناصر قد انتبه إلي الأهرام كله.. فقد قال لهيكل مازحا في هذه الزيارة: »أنا عاوز أرفدك علشان أخذ مكانك في رئاسة التحرير«. عاشق الصحافة مقولة عبدالناصر لهيكل تقودنا إلي سؤال مهم: كيف كانت علاقة عبد الناصر بالصحافة والصحفيين؟ في مذكراته.. »والآن أتكلم« تحدث خالد محيي الدين وهو أحد ضباط ثورة 23 يوليو 52 - عن الاهتمامات للرئيس جمال عبدالناصر فقال: أن عبدالناصر أبدي - منذ اليوم الأول للثورة حرصا فائقا علي توطيد العلاقة مع كبار الصحفيين المصريين المعروفين أمثال الأخوين مصطفي وعلي أمين ومحمد التابعي ومحمد حسنين هيكل وحسين فهمي وجلال الحمامصي.. كما حرص علي إصدار جريدة باسم »الجمهورية« واختار لها رئيس تحرير متمكنا هو حسين فهمي.. وكان يتوجه كل مساء إلي دار الجمهورية ليراجع المانشيتات الرئيسية.. وكان يواظب علي قراءة الطبعة الأولي من كل الصحف اليومية. ولم يكن اهتمام عبدالناصر بالصحف المصرية فقط، بل كان يتابع الصحف العربية وخاصة اللبنانية ويقول أنه من خلالها يستطيع رصد التوجهات السياسية العربية. واعتاد عبدالناصر قراءة الصحف الأجنبية ومنها الغربية وكان يقرأ ملخصات مترجمة منها.. ومما يؤكده خالد محيي الدين أن عبدالناصر كان يتصل به وهو يعمل في جريدة »المساء« أو في جريدة »أخبار اليوم« أكثر من مرة في اليوم ليعرف أهم الأخبار ويبدي توجيهاته في كل ماهو مهم. ويختتم خالد محيي الدين قائلا: الخلاصة كان عبدالناصر قارئا جيدا، ومتابعا متميزا، ومهتما غاية الاهتمام بما يكتب في الصحافة وأجهزة الإعلام الأخري باعتبارها أدوات تشكيل الرأي العام وتحقيق التواصل معه. من جهة أخري فإن »روبرت سان جون« وهو من أبرز الصحفيين والمؤلفين الأمريكيين.. جاء إلي مصر شتاء عام 1959 - 1960 وقابل عبدالناصر أكثر من مرة، كما التقي مع أكثر من مائة شخصية لجمع المعلومات والوقائع التي ضمنها كتابه عن عبدالناصر بعنوان »الريس«. في تقديمه للكتاب قال المؤلف: »هذه سيرة دقيقة كاملة تتعمق بإمعان في حياة ناصر من مرحلة صباه حتي بزوغ نجمه علي المسرح الدولي. الكتاب صدر في أربعة أجزاء (524 صفحة).. وسوف نعرض سطورا من الفصل الثامن عشر، الذي يقترب من عبدالناصر الإنسان والزوج والأب والمهموم بالأدب والفن. أهم ما في هذا الكتاب أنه يكشف بشكل دقيق علاقة عبدالناصر بالصحافة ويؤكد أن عبد الناصر قارئ دقيق للصحف والمجلات أكثر من الرقباء. ذات مرة قال له عبدالحكيم عامر وهو يراه يزور »المصري« و»آخر ساعة« و»روز اليوسف« فيقرأ المقالات والأخبار قبل طبعها: »كان ينبغي أن تكون صحفيا«.