إيران تعلن اعتقال عملاء للموساد وضبط كميات كبيرة من المتفجرات    "بعد جراحة ناجحة"..إمام عاشور يعود إلى فندق إقامة الأهلي بميامي (صور)    لطيفة تؤجل طرح ألبومها الجديد بعد وفاة شقيقها نور الدين    محافظ الإسماعيلية يناقش مشكلات مياه الشرب بالمراكز والمدن والأحياء    مجلس اليد يحفز منتخب الشباب قبل انطلاق ماراثون المونديال    جلسة منتظرة بين جالاتا سراي ووكيل تشالهانوجلو    طارق يحيى: الأهلي خسر نقطتين أمام انتر ميامي.. وتغييرات ريبيرو لغز    لدغة ثعبان تُنهي حياة تلميذ في قنا    مصدر: إصابة رئيس ومعاون مباحث أطفيح و5 شرطيين وسائق في مداهمة أمنية    اعتماد نتائج برامج كلية التجارة الدولية واللغات بجامعة الإسماعيلية الأهلية    عرض «صورة الكوكب» و«الطينة» في الموسم المسرحي لقصور الثقافة بجنوب الصعيد    أحمد سعد يبدأ صيف غنائي حافل من الساحل.. ويحتفل مع طلاب الجامعة الأمريكية    ظهور مختلف ل كريم فهمي في «220 يوم».. والعرض قريبًا    عبير الشرقاوي: مش بفكر أتجوز مرة تانية    أسباب الوزن الزائد رغم اتباع نظام الريجيم    أمل مبدي: الشخص المصاب بمتلازمة داون مؤهل لتكوين أسرة بشرط    رحلة إلى الحياة الأخرى.. متحف شرم الشيخ يطلق برنامجه الصيفي لتعريف الأطفال بالحضارة المصرية القديمة    لميس الحديدي: كرة اللهب تتناوب بين تل أبيب وطهران.. ولا نهاية قريبة للحرب    شباب القلب.. 4 أبراج تتمتع بروح الطفولة    أمين الفتوى يوضح حكم الزيادة في البيع بالتقسيط.. ربا أم ربح مشروع؟    «الشروق» تكشف موقف بن شرقي بعد الغياب عن مباراة إنتر ميامي    عضو بالبرلمان التونسي: «الإخوان» اخترقوا قافلة الصمود وحولوها لمنصة تهاجم مصر وليبيا    وزير الشئون النيابية يحضر جلسة النواب بشأن قانون تنظيم بعض الأحكام المتعلقة بملكية الدولة في الشركات المملوكة لها    كيف تنظم المرأة وقتها بين العبادة والأمور الدنيوية؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    أوليس أفضل لاعب بمباراة بايرن ميونخ ضد أوكلاند سيتى فى كأس العالم للأندية    السعودية: وصول طلائع الحجاج الإيرانيين إلى مطار "عرعر" تمهيدًا لمغادرتهم    العمليات العسكرية الإسرائيلية وتوجيهات رئاسية جديدة تتصدر نشاط السيسي اليوم    رسمياً.. جينارو جاتوزو مديراً فنياً لمنتخب إيطاليا    جبل القلالي يحتفل بتجليس الأنبا باخوميوس أسقفًا ورئيسًا للدير (صور)    تنسيقية شباب الأحزاب تحتفل بمرور 7 سنوات على تأسيسها.. وتؤكد: مستمرين كركيزة سياسية في الجمهورية الجديدة    التعليم: تدريب مجاني لمعلمي الإنجليزية بالتنسيق مع السفارة الأمريكية -(مستند)    عائلة تطرح جزيرة في اسكتلندا للبيع بسعر أقل من 8 مليون دولار    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    صراع مع آلة لا تعرف الرحمة.. «نيويورك تايمز»: الذكاء الاصطناعي يدفع البشر للجنون    ضبط المتهمين بقتل سائق توك توك وإلقاء جثته بمقابر أسوان    التنظيم والإدارة يعلن ترتيب امتحانات مسابقات التوظيف بالجهاز الإداري للدولة    رئيس جامعة المنوفية يرأس لجنة مقابلات لتجديد مناصب مديري العموم وأمناء الكليات    إيران تنفي إرسال أيّ طلب إلى قبرص لنقل «رسائل» إلى إسرائيل    محافظ الغربية يجرى جولة مفاجئة داخل مبنى الوحدة المحلية بسبرباى بمركز طنطا    الجريدة الرسمية تنشر قرارا جديدا ل رئيس الوزراء (تفاصيل)    طب قصر العيني تُحقق انجازًا في الكشف المبكر عن مضاعفات فقر الدم المنجلي لدى الأطفال    طريقة عمل فطيرة السكر باللبن في خطوات بسيطة    قوافل الأحوال المدنية تواصل تقديم خدماتها للمواطنين بالمحافظات    في عيد ميلاده ال33.. محمد صلاح يخلد اسمه في سجلات المجد    توتنهام يضم الفرنسي ماتيل تيل بشكل نهائي من بايرن ميونخ    سعادة بين طلاب الثانوية العامة في أول أيام مارثون الامتحانات بالقليوبية    "لا للملوك": شعار الاحتجاجات الرافضة لترامب بالتزامن مع احتفال ذكرى تأسيس الجيش الأمريكي    قرارات إزالة لمخالفات بناء وتعديات بالقاهرة وبورسعيد والساحل الشمالي    استمرار استقبال محصول القمح المحلي للمواقع التخزينية بالشرقية    يسري جبر يوضح تفسير الرؤيا في تعذيب العصاة    "طوارئ" بشركات الكهرباء تزامنًا مع امتحانات الثانوية العامة    ترقب وقلق.. الأهالي ينتظرون أبناءهم في أول أيام امتحانات الثانوية العامة| شاهد    محافظ أسيوط يشهد فعاليات اليوم العلمي الأول للتوعية بمرض الديمنشيا    «خلافات أسرية».. «الداخلية» تكشف ملابسات مشاجرة بالأسلحة البيضاء في البحيرة    تداول امتحان التربية الدينية بجروبات الغش بعد توزيعه في لجان الثانوية العامة    أولياء أمور طلاب الثانوية العامة يرافقون أبنائهم.. وتشديد أمنى لتأمين اللجان بالجيزة    بمناسبة العام الهجري الجديد 1447.. عبارات تعليمية وإيمانية بسيطة للأطفال    الغارات الإسرائيلية على طهران تستهدف مستودعا للنفط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوسف القعيد يكتب: هيكل وعبد الناصر
نشر في الدستور الأصلي يوم 23 - 07 - 2010

علاقة هيكل بثورة يوليو ألا تلخصها علاقته بعبدالناصر؟!
اللقاء الأول في عراق المنشية بالفالوجا بفلسطين أغسطس 1948
فرش عبدالناصر بطانية ولف أخري علي شكل مخدة لينام عليهما
كان عبدالناصر ناقداً للصحفيين بسبب تناولهم للحرب
هيكل وعبد الناصر
كان هدفي الكتابة عن علاقة الأستاذ محمد حسنين هيكل بثورة يوليو التي نحتفل هذه الأيام بذكراها. ولكني اكتشفت أن علاقة هيكل بالثورة يلخصها علاقة هيكل بعبدالناصر. ليس في الأمر أي اختصار أو اختزال أو محاولة للترميز. ولا جري وراء تضخيم دور الفرد في التاريخ. ولكن العلاقة التي نشأت بين عبدالناصر وهيكل كان وجهها الآخر علاقة هيكل بثورة يوليو من ألفها حتي يائها. وإن كنا نعرف بدايات الألف وتكونه في رحم مصر. فإننا لم نصل بعد إلي الياء ولا نتمني أن نصل إليها أبداً.
1- عبد الناصر لأول مرة
تلك هي تفاصيل العلاقة الإنسانية في جانبها العملي كما سمعتها من الأستاذ هيكل أكثر من مرة. وكما كتبها هو فيما كتبه. كان اللقاء الأول بينهما قد تم بصورة عابرة. كان هيكل في عراق المنشية، في الفالوجا، في فلسطين، بالتحديد في قسم بوليس عراق المنشية. هيكل في ذلك الوقت كان صحفياً يغطي أحداث حرب فلسطين. وله سلسلة مقالات عنوانها: نار فوق الأراضي المقدسة. وفي البدروم، وقد كان هذا بالتحديد في شهر أغسطس سنة 1948، وكان مع هيكل مصطفي كمال صدقي، وكان هيكل عائداً من عند قوات البطل أحمد عبدالعزيز، وفي طريقه إلي المجدل، توقف في منطقة عراق المنشية. ولأنه كانت هناك معركة تجري في وقت مروره؛ توقف وسأل: من الذي يقود هذه المعركة؟ وخاصة أنهم يتكلمون عن معركة مجيدة مع العدو الإسرائيلي قادها ضابط شاب. قالوا له إن الذي قادها هو الصاغ جمال عبدالناصر. كان معه المصور الزميل الأستاذ محمد يوسف، وكانا في سيارة جيب تقطع القطاع الأوسط من شمال النقب وبيت جبريل إلي المجدل. سأل عن مكان الصاغ جمال عبدالناصر، قالوا إنه في القيادة في عراق المنشية. ذهبا إلي هناك.
كان المكان عبارة عن قسم بوليس من أقسام بوليس الفلسطينيين القديمة التي أقامها الإنجليز. وجمال عبدالناصر كان قد نزل أسفل في البدروم، وفرش بطانية، ولف بطانية أخري علي شكل مخدة، من أجل أن ينام ويضع رأسه عليها.
دخل هيكل عليه للكلام معه. كان عبدالناصر ناقداً للصحافة بصورة شديدة. من زاوية تناولها لأخبار وتطورات الحرب، كان الصحفيون من وجهة نظره يبالغون ويكتبون كلاماً غير مضبوط، سأل هيكل عبدالناصر: هل قرأت ما أكتبه عن الحرب؟! قال له: لا. ثم أكمل: أنا لا أقصدك أنت، كلامي بصفة عامة، ونحن نعرف الأمور من الجرائد، وما ينشر فيها لا يصلح ولا يصح.
جلسا نصف ساعة، لم تكن سعيدة أبداً. ثم أكمل هيكل طريقه إلي المجدل.
2- عبد الناصر لثاني مرة
ثم كان اللقاء الثاني. جاء عبدالناصر إليه مع زكريا محيي الدين. كان زكريا محيي الدين يريد أن يطلع هيكل علي مسألة تتعلق بما تقوم به إسرائيل، أما جمال عبدالناصر فقد جاء يطلب منه نسخة من كتابة «إيران فوق بركان» لأن ثمنه كان غالياً بالنسبة له. هل تعرفون ماذا كان ثمن الكتاب؟ كان عشرة قروش. وقد قدم هيكل الكتاب له فعلاً. واكتشف هيكل ساعتها أنه يري رجلاً يريد أن يقرأ، وإن كان لم يعرف في هذا الوقت إن كان مثقفاً أم لا.
بالعودة إلي أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات في القرن الماضي ندرك أن العشرة قروش كانت مبلغاً كبيراً في هذا الوقت حتي لو كان ذلك بالنسبة لضابط في القوات المسلحة. ربما كان مرتبه أربعين جنيهاً، وعشرة قروش من أجل كتاب، قد تكون مبلغاً كبيراً فعلاً، عندما تحاول أن تفكر بقيمة النقود. في ذلك الوقت. فإن عشرة قروش سنة 1949 تساوي علي أقل تقدير 12 أو 15 جنيهاً اليوم. لكن المهم في اللقاء الثاني أن جمال عبدالناصر الضابط بالقوات المسلحة المصرية. أو الجيش الملكي في ذلك الوقت كان مشغولاً بقراءة كتاب. وبحث عن الكتاب وذهب إلي مؤلف هذا الكتاب يطلب نسخة منه. وجود ثمن الكتاب معه من عدمه تبدو قصة فرعية ليست هي الأساس. لكن الجوهر البحث عن المعرفة وعن الثقافة.
3- عبد الناصر لثالث مرة
كان هذا اللقاء يوم 18 يوليو، قبل قيام الثورة بأيام. وقد تم في منزل محمد نجيب. وقد ناقش عبدالناصر هيكل في هذه المرة حول قضية كانت تشغله: هل يمكن أن يتدخل الإنجليز أم لا في حالة قيام الثورة؟ لم يقل عبدالناصر لهيكل كلمة الثورة. وهو المعروف بحذره في الكلام وبقدرته علي اختيار كلماته بدقة. قال له بدقة إن عمل الجيش أي شيء، دون أن يحدد هذا الشئ. كانوا - كما قلنا - في بيت محمد نجيب، في الوقت الذي كانت فيه أزمة نادي الضباط مشتعلة. وجاء جمال عبدالناصر، وجاء معه عبدالحكيم عامر. جاء جمال عبدالناصر يسأل: ماذا يمكن عمله في أزمة نادي الضباط؟!
أخذ جمال عبدالناصر محمد نجيب إلي ركن بعيد عنهم، وتكلم معه. ثم خرج مع عبدالحكيم عامر، وخرج هيكل بعدهما، وعندما شاهدهما يقفان علي محطة الأتوبيس القريبة من بيت محمد نجيب. لأن سيارة عبدالناصر الأوستين الشهيرة كانت معطلة. وكان هيكل يستقل سيارته عرض عليهما أن يوصلهما في طريقه. وعرف أن طريقهما إلي باب الحديد، محطة السكة الحديد.
في الطريق أكمل عبدالناصر كلامه مع هيكل، لأنه عندما كنا في بيت محمد نجيب، كان هيكل قد قال إن الجيش عجز في فلسطين عن أن يدافع عن كرامة البلد، واليوم فإن كرامة الجيش نفسه مطروحة، ولكن في الميزان.
بدأ هيكل يتكلم ويشرح لماذا لا يتدخل الإنجليز وبدأ الكلام - كلام هيكل - يرن في أذني عبدالناصر. وبدأ عبدالناصر يسمعه ويسأله. وكانت من مزايا عبدالناصر قدرته الفريدة علي الإنصات للآخرين مهما كان كلامهم طويلاً. ثم قدرته علي طرح الأسئلة عما يسمعه.
لقد شعر هيكل لحظتها أنه هنا أمام إنسان عنده شيء مختلف عن الآخرين. لست متأكداً بعد من باقي قصة هذا اليوم. فقد عرفت أنهم وصلوا محطة السكة الحديد دون أن ينتهي الكلام، فعرض هيكل علي عبدالناصر أن يذهبا معه إلي أخبار اليوم، رحب عبدالحكيم عامر ولكن عبدالناصر لم يكن مرحباً، لذلك اتجهوا إلي منزل هيكل في شارع شجر الدر بالزمالك لاستكمال الكلام، وقدم هيكل خلال الكلام أدلة دقيقة علي استحالة تدخل الإنجليز فيما لو حدث أمر ما في مصر، قدم حقائق ووقائع ولم يقدم تحليلات ورؤي، وهكذا حدثت الشرارة الأولي بين عقل الصحفي وعقلية الضابط، وهي الشرارة التي أصبحت توهجاً سنوات طويلة بعد ذلك
4- عبد الناصر لرابع مرة
ثم قامت الثورة في آخر ليل يوم الثلاثاء 22 يوليو سنة 1952 ليلاً، وفجر وصباح الأربعاء 23 يوليو، كان هيكل في مقر القيادة منذ الفجر، واتصل بأخبار اليوم لكي يري ماذا سيفعلون مع خبر الثورة؟ كان في أخبار اليوم حسين فريد سكرتير التحرير الذي قال لهيكل إن علي أمين ومصطفي أمين سألا عنه من فندق سيسل في الإسكندرية حوالي عشر مرات، وفوجئ هيكل بأن مصطفي بيه علي الخط. سأله: إنت فين؟ وقبل أن يرد ألا تعرف ما جري؟ قال له هيكل ما مؤداه تقريباً أنه قريب مما يجر، ثم طلب منه عدم القلق. لكن المهم أن يعرفا ماذا سيفعلان في الجريدة إزاء هذا الذي يجري، واتفقا بعد مشاورات أنهما لم ينشرا شيئاً في الغد، ثم طلب منه مصطفي أمين الرقم الذي كان يتكلم منه. سأل هيكل الضابط الذي كان يقف بجواره عن الرقم، وكان هذا الضابط هو سعد توفيق. وقال له إن الرقم هو: 45445 وكان رقم تليفون مكتب رئيس أركان حرب الجيش، في هذه اللحظة دخل عليهم عبدالحكيم عامر وكانت الأعصاب مشدودة، ووصلت الشدة إلي الذروة. وضع هيكل يده علي السماعة وقال لعبدالحكيم عامر إنني أكلم مصطفي أمين في الإسكندرية، وفي هذه اللحظة جاء جمال عبدالناصر فقال له هيكل: ده مصطفي أمين يطلب النمرة التي يمكن أن يعرف منها مكان وجودي بالضبط، رفض عبدالحكيم عامر وهاج وماج، ورفض إعطاء النمرة لمصطفي أمين، ولكن جمال عبدالناصر قال بهدوء شديد أعطه النمرة، وأضاف علي أقل تقدير نعرف كيف يفكرون في الإسكندرية الآن؟
اكتشف هيكل أنه أمام إنسان يعمل عقله بهدوء، ويفكر فيما يجري في مكان بعيد عنهم، لأنه في الطرف الآخر من القضية والوجه الآخر من الصورة ومن المعادلة كلها في ذلك الوقت.
5- عبد الناصر لخانس مرة
يوم الجمعة 25 يوليو، وهو اليوم السابق علي السبت 26 يوليو، وجمال عبدالناصر يتكلم في موضوع الملك فاروق، كان الموضوع مطروحاً بقوة، ماذا يمكن أن يتم مع الملك؟! كانت هناك مناقشات جارية، وكان هناك معسكران منقسمان في مجلس قيادة الثورة. كان ذلك في منشية البكري وليس في مبني مجلس قيادة الثورة الذي في الجزيرة، وكان اسمه وقتها القيادة.
أمام هيكل، كان هناك اثنان يتكلمان: جمال عبدالناصر يتكلم من ناحية، وجمال سالم العائد في ذلك الوقت من العريش، أو ربما كان عائداً من خارج القاهرة، كان جمال سالم يتكلم من الناحية الأخري.
في هذا الوقت كان زكريا محيي الدين يقود القوات من القاهرة إلي الإسكندرية، لكي يوجه الإنذار المعروف - بعد ذلك - إلي الملك فاروق، ويطلب تنازله عن العرش.
جمال سالم كان يقول: لا بد من محاكمة الملك، ثم إعدامه، وجمال عبدالناصر كان يقول: إن كنا سنعدمه، لماذا نحاكمه؟ وإن قررنا محاكمته فما الداعي لإعلان إعدامه قبل المحاكمة؟ وكان رأي جمال عبدالناصر، أن أحسن تصرف أن نتركه يخرج من البلاد.
كان هذا هو الموقف الذي لفت نظر هيكل في شخصية عبدالناصر منذ البداية، بالتحديد الموقف الخاص بثقافته، قال عبدالناصر: إن الدماء ستأتي بالمزيد من الدماء. ويا جماعة افتكروا قصة مدينتين لتشارلز ديكنز، إنها الرواية الشهيرة عن الثورة الفرنسية.
أول ما لفت نظر هيكل في هذا الاستشهاد، هو أن جمال عبدالناصر. أول ما يمكن قوله عن شخص مثقف. إنه يفهم لغة الرموز بالكلمة أو لغة الرموز بالصوت، أو لغة الرموز باللون. كان أول تعبير استوقف هيكل في كل ما قاله، باعتباره من الأمور الغريبة جداً. كان هذا في يوم الجمعة الخامس والعشرين من يوليو سنة 1952، وكان الوقت بعد الظهر ولا يظن هيكل أنه بمفرده الذي استلفت نظره هذا الأمر. يخيل إليه أن سليمان حافظ الذي جاء من الإسكندرية لساعة واحدة، توقف أمام هذا التعبير مثلما توقف غيره. كان ذلك عندما قال جمال عبدالناصر «يا جماعة اقرءوا قصة مدينتين. الدم سيأتي بمزيد من الدماء».
شعر هيكل أنه أمام إنسان قرأ رواية، وتقبل التعبير الذي تقدمه، ووصل إليه الرمز الذي فيها وفهمه، وبقي موجوداً في وعيه، وعبر عنه في لحظة معينة. هذا أول ما لفت نظره.
ثم لفت نظر هيكل بعد ذلك الصورة المشهورة لهذا الرجل، والتي توشك أن تكون جزءاً من صورته الذهنية له عند الناس الذين عاصروه، إنه يبدو جالساً ويستمع في حالة إنصات وتأمل. من يستطيع أن ينسي هذه الصورة بالذات؟ إن أهم شيء في المثقف - من وجهة نظر هيكل - إنه هو الذي يستطيع أن تكون عنده القدرة علي الاستماع والإنصات، لابد أن يلفت النظر في الأيام الأولي من الثورة. كان عبدالناصر يستمع فقط.
أولاً: إنه يستطيع أن يستخدم الأدب في تصوير مواقف مثل استخدامه لمواقف رواية قصة مدينتين.
ثانياً: كذلك التعبير عن قضية ما، مستخدماً قراءات أدبية سابقة له، سواء بالسخرية أو المأساوية، ولكن مجرد الاستعانة بالتعبير الأدبي، مسألة لافتة للنظر، ولا بد من أخذها في الاعتبار.
ثالثاً: إنه يحاول أن يكتب رواية.
رابعاً: كلامه عن المشروعات التي استخدمت فيها أموال أسرة محمد علي، المصادرة، ومشروعات مجلس الخدمات. وعندما أحضر له هيكل محمد فؤاد جلال من أجل إنهاء هذا المجلس تجد جمال عبدالناصر يقول:
- من الأشياء التي لا بد أن تعملوها. نفسي في دار كتب جديدة، ويقول بتحديد أكثر: أنا كنت أذهب إلي دار الكتب القديمة في باب الخلق، وكنت أحلم أن تكون هناك دار كتب علي النيل.
وقد حدث هذا سنة 1952، بتحديد أكثر كان في أواخر سنة 1952، أي بعد شهور قليلة من قيام الثورة. الكل يعرف أن هذا المشروع تأخر كثيراً. ولكن الكلام عنه بدأ في أواخر 1952 - مع محمد فؤاد جلال. وخلال الحديث عن المدارس والمراكز الصحية والوحدات المجمعة للخدمات في الريف المصري، يفاجئك جمال عبدالناصر بعدة أمور:
1- إنه ذهب إلي دار الكتب القديمة في باب الخلق كثيراً.
2- إنه استعار كتباً كثيراً جداً، وكان من المترددين علي الدار، أي أنه لم يذهب مرة واحدة - ربما كانت صدفة - ثم يذهب في حال سبيله.
3- إنه قرأ في هذا الدار كتباً كثيرة.
4- أصبح لديه حلم وجود دار كتب مختلفة عن الدار القديمة.
5- أن تطل علي نهر النيل. وهنا أيضاً رمز من الرموز، رمز مصر. وهذا الرمز الحلم يظل متذاكراً له، ويقول لمن ينفذون في أرض الواقع، وينفذونه فعلاً بعد ذلك.
يؤكد هيكل أكثر من مرة أن عبد الناصر قال له: سوف تكتب أنت وحدك قصتنا فما أظن أن العمر سيصل بي إلي مرحلة الشيخوخة.
وقد حدث الشق الثاني من النبوءة. فعبدالناصر لم يصل للشيخوخة.
يبقي الشق الأول من طلب عبدالناصر. فهل يكتب هيكل قصتهما معاً التي هي قصة يوليو 1952؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.