قطاع الخدمات المالية غير المصرفية يتصدر نشاط البورصة المصرية الأسبوع الماضي    رئيس "قوى عاملة النواب" يشيد بالبيان المصري العربى الإسلامى برفض سيطرة إسرائيل على غزة    مرموش وهالاند يقودان هجوم مانشستر سيتي أمام باليرمو وديا    الشوط الأول.. الأهلي يتعادل مع مودرن سبورت سلبيًا في الدوري    قائمة منتخب مصر لخوض بطولة الأفروباسكت 2025    حبس صانعة المحتوى «نعمة أم إبراهيم» 4 أيام بتهمة نشر مقاطع خادشة    الإعدام شنقا ل3 عاطلين والسجن المشدد ل4 آخرين قتلوا شخصا وشرعوا في قتل شقيقه ببنها    بلاغ للنائب العام ضد التيك توكر "مانجو" بتهمة الفسق والفجور    فرقة أسوان للفنون الشعبية تقدم عروضها فى مهرجان ليالينا    رامز جلال يشارك في عزاء الفنان سيد صادق ويواسي نجله المؤلف لؤي    اللواء أيمن عبد المحسن: نتنياهو يعمل على إبعاد نفسه عن المسائلة    الدكتور محمد ضياء زين العابدين يكتب: معرض «أخبار اليوم للتعليم العالي».. منصة حيوية تربط الطلاب بالجماعات الرائدة    بوتين يطلع الرئيس البرازيلي على أهم نتائج محادثاته مع المبعوث الأمريكي ويتكوف    احتلال غزة!    البلوجر حسناء شعبان في قبضة الداخلية بتهمة التعدي على قيم المجتمع    شراكة جديدة بين محافظة المنيا والهيئة القبطية الإنجيلية لدعم الأسر الأولى بالرعاية    مجدي السعيد بدوي مديرًا لمنطقة الغربية الأزهرية    «وداعا سليمان العبيد».. محمد صلاح يشارك تعزية يويفا في وفاة «بيليه فلسطين»    حقيقة تدهور الجهاز المناعي ل «أنغام».. ما زالت في المستشفى    إليسا تٌشوق جمهور الساحل: «أخيرًا في مصر.. 14 أغسطس»    فضل صلاة قيام الليل.. تعرف عليه    يسري جبر: «الباءة» ليس القدرة المالية والبدنية فقط للزواج    أمين الفتوى يوضح حكم قراءة القرآن والتسبيح دون حجاب    تنسيق المرحلة الثالثة 2025.. توقعات كليات ومعاهد تقبل من 55% وحتى 50% أدبي    ضبط تشكيل «بياضة وطوبسية» بتهمة الاتجار في المواد المخدرة بالدقهلية    259 كرسيًا و6 أدوار.. مستشفى أسنان جامعة سوهاج يستعد للافتتاح قريبًا -صور    ينظم الضغط ويحمي القلب.. 6 فوائد ل عصير البطيخ    ترخيص 817 مركبة كهربائية خلال يوليو الماضي ..المركز الأول ل بى واى دى    "إنستاباي" ينهي تحديثاته الدورية بنجاح وعودة جميع الخدمات للعمل بكفاءة كاملة    الموز والتمر- أيهما أفضل لسكري الدم؟    رئيس لبنان: دماء شهدائنا الأبرار لن تذهب هدرا وستبقى منارة تضيء طريق النضال    ناصر القصبي يشارك في موسم الرياض.. وتركي آل الشيخ يعلق: مسرحية مهمة    ب"فستان أنيق".. أحدث ظهور ل نرمين الفقي والجمهور يغازلها (صور)    شيخ الأزهر يلتقى عدد من الطلاب ويستذكر معهم تجربته فى حفظ القرآن الكريم فى "كُتَّاب القرية"    «اتفق مع صديقه لإلصاق التهمة بزوج خالته».. كشف ملابسات مقتل شاب بطلق ناري في قنا    حبس مزارع وشقيقته تسببا في وفاة زوجته بالشرقية    «المستلزمات الطبية» تبحث الاثنين المقبل أزمة مديونية هيئة الشراء الموحد    وزير المالية: حريصون على الاستغلال الأمثل للموارد والأصول المملوكة للدولة    نائب رئيس هيئة الكتاب: الاحتفال باليوم العالمي لمحبي القراءة دعوة للثقافة    محافظ الإسماعيلية يستقبل سفير دولة الهند ويتفقدان مصانع EMBEE    الصحة: إحلال وتجديد 185 ماكينة غسيل كلوي    تتبقى 3 أيام.. «الضرائب» تعلن موعد انتهاء مهلة الاستفادة من التسهيلات الضريبية المقررة    رغم الغضب الدولى ضد إسرائيل.. قوات الاحتلال تواصل قتل الفلسطينيين فى غزة.. عدد الضحايا يقترب من 62 ألف شخصا والمصابين نحو 153 ألف آخرين.. سوء التغذية والمجاعة تحاصر أطفال القطاع وتحصد أرواح 212 شهيدا    أخبار الطقس في الإمارات.. صحو إلى غائم جزئي مع أمطار محتملة شرقًا وجنوبًا    محافظة الجيزة: أنشطة وبرامج مراكز الشباب من 10 إلى 15 أغسطس 2025    ما هو الصبر الجميل الذي أمر الله به؟.. يسري جبر يجيب    برلماني: موقف مصر ضد احتلال غزة رفض تام وحاسم لسياسات الإبادة والتجويع    موعد انطلاق الدعاية الانتخابية في انتخابات "الشيوخ" بجولة الإعادة    رئيس الوزراء يوجه بالاهتمام بالشكاوى المرتبطة بارتفاع درجات الحرارة    ارتفاع أسعار البيض اليوم السبت بالأسواق (موقع رسمي)    موعد قرعة دوري أبطال أفريقيا والكونفدرالية والقنوات الناقلة    تعرف على موعد فتح باب قبول تحويلات الطلاب إلى كليات جامعة القاهرة    «100 يوم صحة» قدمت 37 مليون خدمة طبية مجانية خلال 24 يوما    مكتب التنسيق الإلكتروني بجامعة العريش يستقبل طلاب المرحلة الثانية    وقف إبادة قطاع غزة أبرزها.. 3 ملفات رئيسية تتصدر المباحثات المصرية التركية بالقاهرة    الكوكي: فوز مهم أمام الاتحاد وشخصية المصري كانت كلمة السر في حصد النقاط الثلاث    علي معلول: جاءتني عروض من أوروبا قبل الأهلي ولم أنقطع عن متابعة الصفاقسي    «قعدتوا تتريقوا ولسة».. رسالة نارية من خالد الغندور بعد فوز الزمالك على سيراميكا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالناصروهيكل لقاء «الثائر » و «الجورنالجى » وسط النار والدموع
نشر في الصباح يوم 02 - 10 - 2013


علاقة تواصلت 22 سنة وشهرًا واحدًا
هيكل: كيف تعرفت على عبدالناصر؟!
اللقاء الأول فى عراق المنشية بالفالوجا بفلسطين أغسطس 1948
فرش عبدالناصر بطانية ولف أخرى على شكل مخدة لينام عليهما
كان عبدالناصر ناقدًا للصحفيين بسبب تناولهم للحرب
كان الصحفيون من وجهة نظر عبدالناصر يبالغون ويكتبون كلامًا غير مضبوط
قال عبدالناصر لهيكل: ما ينشر فى الصحف عن الحرب لا يصلح ولا يصح.
فى اللقاء الثانى ذهب عبدالناصر مع زكريا محيى الدين ليطلب من هيكل نسخة من كتابه: إيران فوق بركان
اللقاء الثالث كان يوم 18 يوليو 1952 فى بيت محمد نجيب
سأل عبدالناصر محمد نجيب: ماذا يمكن أن نفعل فى أزمة نادى الضباط؟
سأل عبدالناصر هيكل: ماذا يفعل الإنجليز لو حدث شىء ما فى مصر؟!
رد عليه هيكل: الإنجليز لن يتدخلوا وقدم الأدلة والبراهين على دقة هذا الكلام. فكانت الشرارة الأولى لصداقة العمر بينهما.
قال عبدالناصر لهيكل: سوف تكتب أنت وحدك قصتنا. فما أظن أن العمر سيصل بى إلى مرحلة الشيخوخة
يوسف القعيد
تلك هى تفاصيل العلاقة الإنسانية فى جانبها العملى كما سمعتها من الأستاذ هيكل أكثر من مرة. وكما كتبها هو فيما كتبه. كان اللقاء الأول بينهما قد تم بصورة عابرة. كان هيكل فى عراق المنشية، فى الفالوجا، فى فلسطين، بالتحديد فى قسم بوليس عراق المنشية. هيكل فى ذلك الوقت كان صحفيًا يغطى أحداث حرب فلسطين. وله سلسلة مقالات عنوانها: نار فوق الأراضى المقدسة. وفى البدروم، وقد كان هذا بالتحديد فى شهر أغسطس سنة 1948، وكان مع هيكل مصطفى كمال صدقى، وكان هيكل عائدًا من عند قوات البطل أحمد عبدالعزيز، وفى طريقه إلى المجدل، توقف فى منطقة عراق المنشية. ولأنه كانت هناك معركة تجرى فى وقت مروره؛ توقف وسأل: من الذى يقود هذه المعركة؟ خاصة أنهم يتكلمون عن معركة مجيدة مع العدو الإسرائيلى قادها ضابط شاب. قالوا له إن الذى قادها هو الصاغ جمال عبدالناصر. كان معه المصور الزميل الأستاذ محمد يوسف، وكانا فى سيارة جيب تقطع القطاع الأوسط من شمال النقب وبيت جبريل إلى المجدل. سأل عن مكان الصاغ جمال عبدالناصر، قالوا إنه فى القيادة فى عراق المنشية. ذهبا إلى هناك.
كان المكان عبارة عن قسم بوليس من أقسام بوليس الفلسطينيين القديمة التى أقامها الإنجليز. وجمال عبدالناصر كان قد نزل أسفل فى البدروم، وفرش بطانية، ولف بطانية أخرى على شكل مخدة، من أجل أن ينام ويضع رأسه عليها.
دخل هيكل عليه للكلام معه. كان عبدالناصر ناقدًا للصحافة بصورة شديدة. من زاوية تناولها لأخبار وتطورات الحرب، كان الصحفيون من وجهة نظره يبالغون ويكتبون كلامًا غير مضبوط، سأل هيكل عبدالناصر: هل قرأت ما أكتبه عن الحرب؟! قال له: لا. ثم أكمل: أنا لا أقصدك أنت، كلامى بصفة عامة، ونحن نعرف الأمور من الجرائد، وما ينشر فيها لا يصلح ولا يصح.
جلسا نصف ساعة، لم تكن سعيدة أبدًا. ثم أكمل هيكل طريقه إلى المجدل.
عبدالناصر لثانى مرة
ثم كان اللقاء الثانى. جاء عبدالناصر إليه مع زكريا محيى الدين. كان زكريا محيى الدين يريد أن يطلع هيكل على مسألة تتعلق بما تقوم به إسرائيل، أما جمال عبدالناصر فقد جاء يطلب منه نسخة من كتابى «إيران فوق بركان»، لأن ثمنه كان غاليًا بالنسبة له. هل تعرفون ماذا كان ثمن الكتاب؟ كان عشرة قروش. وقد قدم هيكل الكتاب له فعلًا. واكتشف هيكل ساعتها أنه يرى رجلًا يريد أن يقرأ، وإن كان لم يعرف فى هذا الوقت إن كان مثقفًا أم لا.
بالعودة إلى أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات فى القرن الماضى ندرك أن العشرة قروش كانت مبلغًا كبيرًا فى هذا الوقت حتى لو كان ذلك بالنسبة لضابط فى القوات المسلحة. ربما كان مرتبه أربعين جنيهًا، وعشرة قروش من أجل كتاب، قد تكون مبلغًا كبيرًا فعلًا، عندما تحاول أن تفكر بقيمة النقود. فى ذلك الوقت. فإن عشرة قروش سنة 1949 تساوى على أقل تقدير 12 أو 15 جنيهًا اليوم. لكن المهم فى اللقاء الثانى أن جمال عبدالناصر الضابط بالقوات المسلحة المصرية. أو الجيش الملكى فى ذلك الوقت كان مشغولًا بقراءة كتاب. وبحث عن الكتاب وذهب إلى مؤلف هذا الكتاب يطلب نسخة منه. وجود ثمن الكتاب معه من عدمه تبدو قصة فرعية ليست هى الأساس. لكن الجوهر البحث عن المعرفة وعن الثقافة.
عبدالناصر لثالث مرة
كان هذا اللقاء يوم 18 يوليو، قبل قيام الثورة بأيام. وقد تم فى منزل محمد نجيب. وقد ناقش عبدالناصر هيكل فى هذه المرة حول قضية كانت تشغله: هل يمكن أن يتدخل الإنجليز أم لا فى حالة قيام الثورة؟ لم يقل عبدالناصر لهيكل كلمة الثورة. وهو المعروف بحذره فى الكلام وبقدرته على اختيار كلماته بدقة. قال له بدقة إن عمل الجيش أى شىء، دون أن يحدد هذا الشىء. كانوا – كما قلنا – فى بيت محمد نجيب، فى الوقت الذى كانت فيه أزمة نادى الضباط مشتعلة. وجاء جمال عبدالناصر، وجاء معه عبد الحكيم عامر. جاء جمال عبدالناصر يسأل: ماذا يمكن عمله فى أزمة نادى الضباط؟!
أخذ جمال عبدالناصر محمد نجيب إلى ركن بعيد عنهم، وتكلم معه. ثم خرج مع عبد الحكيم عامر، وخرج هيكل بعدهما، وعندما شاهدهما يقفان على محطة الأتوبيس القريبة من بيت محمد نجيب. لأن سيارة عبدالناصر الأوستين الشهيرة كانت معطلة. وكان هيكل يستقل سيارته عرض عليهما أن يوصلهما فى طريقه. وعرف أن طريقهما إلى باب الحديد، محطة السكة الحديد.
فى الطريق أكمل عبدالناصر كلامه مع هيكل، لأنه عندما كنا فى بيت محمد نجيب، كان هيكل قد قال إن الجيش عجز فى فلسطين عن أن يدافع عن كرامة البلد، واليوم فإن كرامة الجيش نفسه مطروحة، ولكن فى الميزان.
بدأ هيكل يتكلم ويشرح لماذا لا يتدخل الإنجليز وبدأ الكلام – كلام هيكل – يرن فى أذنى عبدالناصر. وبدأ عبدالناصر يسمعه ويسأله. وكانت من مزايا عبدالناصر قدرته الفريدة على الإنصات للآخرين مهما كان كلامهم طويلًا. ثم قدرته على طرح الأسئلة عما يسمعه.
لقد شعر هيكل لحظتها أنه هنا أمام إنسان عنده شىء مختلف عن الآخرين. لست متأكدًا بعد من باقى قصة هذا اليوم. فقد عرفت أنهم وصلوا محطة السكة الحديد دون أن ينتهى الكلام. فعرض هيكل على عبدالناصر أن يذهبا معه إلى أخبار اليوم. رحب عبد الحكيم عامر، ولكن عبدالناصر لم يكن مرحباً. لذلك اتجهوا إلى منزل هيكل فى شارع شجر الدر بالزمالك لاستكمال الكلام. وقدم هيكل خلال الكلام أدلة دقيقة على استحالة تدخل الإنجليز فيما لو حدث أمر ما فى مصر. قدم حقائق ووقائع، ولم يقدم تحليلات ورؤى. وهكذا حدثت الشرارة الأولى بين عقل الصحفى وعقلية الضابط. وهى الشرارة التى أصبحت توهجًا سنوات طويلة بعد ذلك.
عبدالناصر لرابع مرة
ثم قامت الثورة فى آخر ليل يوم الثلاثاء 22 يوليو سنة 1952 ليلًا، وفجر وصباح الأربعاء 23 يوليو. كان هيكل فى مقر القيادة منذ الفجر. واتصل بأخبار اليوم لكى يرى ماذا سيفعلون مع خبر الثورة؟ كان فى أخبار اليوم حسين فريد سكرتير التحرير الذى قال لهيكل إن على أمين ومصطفى أمين سألا عنه من فندق سيسل فى الإسكندرية حوالى عشر مرات. وفوجئ هيكل بأن مصطفى بيه على الخط. سأله: أنت فين؟ وقبل أن يرد ألا تعرف ما جرى؟ قال له هيكل ما مؤداه تقريبًا أنه قريب مما يجرى. ثم طلب منه عدم القلق. لكن المهم أن يعرفا ماذا سيفعلان فى الجريدة إزاء هذا الذى يجرى. واتفقا بعد مشاورات أنهما لم ينشرا شيئًا فى الغد. ثم طلب منه مصطفى أمين الرقم الذى كان يتكلم منه. سأل هيكل الضابط الذى كان يقف بجواره عن الرقم. وكان هذا الضابط هو سعد توفيق. وقال له إن الرقم هو: 45445 وكان رقم تليفون مكتب رئيس أركان حرب الجيش. فى هذه اللحظة دخل عليهم عبد الحكيم عامر، وكانت الأعصاب مشدودة. ووصلت الشدة إلى الذروة. وضع هيكل يده على السماعة، وقال لعبد الحكيم عامر إننى أكلم مصطفى أمين فى الإسكندرية. وفى هذه اللحظة جاء جمال عبدالناصر فقال له هيكل: ده مصطفى أمين يطلب النمرة التى يمكن أن يعرف منها مكان وجودى بالضبط. رفض عبدالحكيم عامر وهاج وماج. رفض إعطاء النمرة لمصطفى أمين. ولكن جمال عبدالناصر قال بهدوء شديد أعطه النمرة. وأضاف على أقل تقدير نعرف كيف يفكرون فى الإسكندرية الآن؟
اكتشف هيكل أنه أمام إنسان يعمل عقله بهدوء. ويفكر فيما يجرى فى مكان بعيد عنهم. لأنه فى الطرف الآخر من القضية والوجه الآخر من الصورة ومن المعادلة كلها فى ذلك الوقت.
عبدالناصر لخامس مرة
يوم الجمعة 25 يوليو، وهو اليوم السابق على السبت 26 يوليو، وجمال عبدالناصر يتكلم فى موضوع الملك فاروق. كان الموضوع مطروحًا بقوة، ماذا يمكن أن يتم مع الملك؟! كانت هناك مناقشات جارية، وكان هناك معسكران منقسمان فى مجلس قيادة الثورة. كان ذلك فى منشية البكرى، وليس فى مبنى مجلس قيادة الثورة الذى فى الجزيرة، وكان اسمه وقتها القيادة.
أمام هيكل، كان هناك اثنان يتكلمان: جمال عبدالناصر يتكلم من ناحية، وجمال سالم العائد فى ذلك الوقت من العريش، أو ربما كان عائدًا من خارج القاهرة، كان جمال سالم يتكلم من الناحية الأخرى.
فى هذا الوقت كان زكريا محيى الدين يقود القوات من القاهرة إلى الإسكندرية، لكى يوجه الإنذار المعروف – بعد ذلك – إلى الملك فاروق، ويطلب تنازله عن العرش.
جمال سالم كان يقول: لا بد من محاكمة الملك، ثم إعدامه، وجمال عبدالناصر كان يقول: إن كنا سنعدمه. لماذا نحاكمه؟ وإن قررنا محاكمته فما الداعى لإعلان إعدامه قبل المحاكمة؟ وكان رأى جمال عبدالناصر، أن أحسن تصرف أن نتركه يخرج من البلاد.
كان هذا هو الموقف الذى لفت نظر هيكل فى شخصية عبدالناصر منذ البداية، بالتحديد الموقف الخاص بثقافته. قال عبدالناصر: إن الدماء ستأتى بالمزيد من الدماء. ويا جماعة افتكروا قصة مدينتين لتشارلز ديكنز، إنها الرواية الشهيرة عن الثورة الفرنسية.
أول ما لفت نظر هيكل فى هذا الاستشهاد، هو أن جمال عبدالناصر. أول ما يمكن قوله عن شخص مثقف. أنه يفهم لغة الرموز بالكلمة أو لغة الرموز بالصوت، أو لغة الرموز باللون. كان أول تعبير استوقف هيكل فى كل ما قاله، باعتباره من الأمور الغريبة جداً. كان هذا فى يوم الجمعة الخامس والعشرين من يوليو سنة 1952، وكان الوقت بعد الظهر ولا يظن هيكل أنه بمفرده الذى استلفت نظره هذا الأمر. يخيل إليه أن سليمان حافظ الذى جاء من الإسكندرية لساعة واحدة، توقف أمام هذا التعبير مثلما توقف غيره. كان ذلك عندما قال جمال عبدالناصر «يا جماعة اقرأوا قصة مدينتين. الدم سيأتى بمزيد من الدماء».
شعر هيكل أنه أمام إنسان قرأ رواية، وتقبل التعبير الذى تقدمه، ووصل إليه الرمز الذى فيها وفهمه، وبقى موجودًا فى وعيه، وعبر عنه فى لحظة معينة. هذا أول ما لفت نظره.
ثم لفت نظر هيكل بعد ذلك الصورة المشهورة لهذا الرجل، والتى توشك أن تكون جزءًا من صورته الذهنية له عند الناس الذين عاصروه، أنه يبدو جالسًا، ويستمع فى حالة إنصات وتأمل. من يستطيع أن ينسى هذه الصورة بالذات؟ إن أهم شىء فى المثقف – من وجهة نظر هيكل – إنه هو الذى يستطيع أن تكون عنده القدرة على الاستماع والإنصات، لابد أن يلفت النظر فى الأيام الأولى من الثورة. كان عبدالناصر يستمع فقط.
أولًا: أنه يستطيع أن يستخدم الأدب فى تصوير مواقف مثل استخدامه لمواقف رواية قصة مدينتين.
ثانيًا: كذلك التعبير عن قضية ما، مستخدمًا قراءات أدبية سابقة له، سواء بالسخرية أو المأساوية، ولكن مجرد الاستعانة بالتعبير الأدبى، مسألة لافتة للنظر، ولا بد من أخذها فى الاعتبار.
ثالثًا: إنه يحاول أن يكتب رواية.
رابعًا: كلامه عن المشروعات التى استخدمت فيها أموال أسرة محمد على، المصادرة، ومشروعات مجلس الخدمات. وعندما أحضر له هيكل محمد فؤاد جلال من أجل إنشاء هذا المجلس تجد جمال عبدالناصر يقول:
- من الأشياء التى لابد أن تعملوها. نفسى فى دار كتب جديدة، ويقول بتحديد أكثر: أنا كنت أذهب إلى دار الكتب القديمة فى باب الخلق، وكنت أحلم أن تكون هناك دار كتب على النيل.
وقد حدث هذا سنة 1952، بتحديد أكثر كان فى أواخر سنة 1952، أى بعد شهور قليلة من قيام الثورة. الكل يعرف أن هذا المشروع تأخر كثيراً. ولكن الكلام عنه بدأ فى أواخر 1952 – مع محمد فؤاد جلال. وخلال الحديث عن المدارس والمراكز الصحية والوحدات المجمعة للخدمات فى الريف المصرى، يفاجئك جمال عبدالناصر بعدة أمور:
1- إنه ذهب إلى دار الكتب القديمة فى باب الخلق كثيرًا.
2- إنه استعار كتبًا كثيرًا جدًا، وكان من المترددين على الدار، أى أنه لم يذهب مرة واحدة – ربما كانت صدفة – ثم يذهب فى حال سبيله.
3- إنه قرأ فى هذه الدار كتبًا كثيرة.
4- أصبح لديه حلم وجود دار كتب مختلفة عن الدار القديمة.
5- أن تطل على نهر النيل، وهنا أيضًا رمز من الرموز، رمز مصر. وهذا الرمز الحلم يظل متذاكرًا له، ويقول لمن ينفذون فى أرض الواقع، وينفذونه فعلًا بعد ذلك.
يؤكد هيكل أكثر من مرة أن عبدالناصر قال له: سوف تكتب أنت وحدك قصتنا فما أظن أن العمر سيصل بى إلى مرحلة الشيخوخة.
وقد حدث الشق الثانى من النبوءة. فعبدالناصر لم يصل للشيخوخة.
يبقى الشق الأول من طلب عبدالناصر. فهل يكتب هيكل قصتهما معًا التى هى قصة يوليو 1952؟!
هوامش العلاقة:
أضاف الأستاذ هيكل مؤخرًا مناسبة جديدة. التقى فيها عبدالناصر قبل ثورة يوليو 1952. كان ذلك يوم 26 يناير 1952. يوم حريق القاهرة الشهير والمعروف. نزل هيكل كصحفى يرى قاهرة المصريين وهى تحترق. وكان عبدالناصر مع بعض زملائه من أبناء القوات المسلحة يشاهدون ما يجرى فى المدينة. والتقيا وكان هذا اللقاء سابقًا على لقاءٍ تم فى منزل محمد نجيب قبل قيام الثورة بأيام. كان يوم 18 يوليو 1952.
لقاء حريق القاهرة يعنى أن الجورنالجى والثائر التقيا فى قلب النار والدم والدموع. والعاصمة تحترق. أعتقد أن علاقة هيكل بعبدالناصر أصبحت هكذا لأن هيكل عرف عبدالناصر قبل أن يدخل ضباب الأساطير. وينظر للناس جميعًا باعتبارهم وجوهًا متشابهة. أيضًا فإن العلاقة بين الناس والحاكم يشوبها قدر غير عادى من النفاق – هذا يجرى فى كل مكان من العالم – لذلك لا يصدق الحاكم معظم ما يقال له. بينما تتزايد الجماهير فى التعبير عن مشاعرها. لدرجة أن من يشاهدها قد لا يصدقها.
أساس العلاقة تم وعبدالناصر ضابط فى القوات المسلحة. وهيكل جورنالجى. ربما كان أكثر شهرة من عبدالناصر نفسه. لذلك تم وضع حجر أساس علاقة إنسانية نمت وتطورت وكبرت بعد أن أصبح عبدالناصر هو عبدالناصر. لا أريد أن أتجاوز حدود تحليلى وأقول: ربما كانت العلاقة الناصرية الهيكلية أكثر العلاقات إنسانية وعملية فى حياة جمال عبدالناصر بعد أن أصبح أسطورة الأساطير.
تلك هى تفاصيل العلاقة الإنسانية فى جانبها العملى كما سمعتها من الأستاذ هيكل أكثر من مرة. وكما كتبها هو فيما كتبه. كان اللقاء الأول بينهما قد تم بصورة عابرة. كان هيكل فى عراق المنشية، فى الفالوجا، فى فلسطين، بالتحديد فى قسم بوليس عراق المنشية. هيكل فى ذلك الوقت كان صحفيًا يغطى أحداث حرب فلسطين. وله سلسلة مقالات عنوانها: نار فوق الأراضى المقدسة. وفى البدروم، وقد كان هذا بالتحديد فى شهر أغسطس سنة 1948، وكان مع هيكل مصطفى كمال صدقى، وكان هيكل عائدًا من عند قوات البطل أحمد عبدالعزيز، وفى طريقه إلى المجدل، توقف فى منطقة عراق المنشية. ولأنه كانت هناك معركة تجرى فى وقت مروره؛ توقف وسأل: من الذى يقود هذه المعركة؟ خاصة أنهم يتكلمون عن معركة مجيدة مع العدو الإسرائيلى قادها ضابط شاب. قالوا له إن الذى قادها هو الصاغ جمال عبدالناصر. كان معه المصور الزميل الأستاذ محمد يوسف، وكانا فى سيارة جيب تقطع القطاع الأوسط من شمال النقب وبيت جبريل إلى المجدل. سأل عن مكان الصاغ جمال عبدالناصر، قالوا إنه فى القيادة فى عراق المنشية. ذهبا إلى هناك.
كان المكان عبارة عن قسم بوليس من أقسام بوليس الفلسطينيين القديمة التى أقامها الإنجليز. وجمال عبدالناصر كان قد نزل أسفل فى البدروم، وفرش بطانية، ولف بطانية أخرى على شكل مخدة، من أجل أن ينام ويضع رأسه عليها.
دخل هيكل عليه للكلام معه. كان عبدالناصر ناقدًا للصحافة بصورة شديدة. من زاوية تناولها لأخبار وتطورات الحرب، كان الصحفيون من وجهة نظره يبالغون ويكتبون كلامًا غير مضبوط، سأل هيكل عبدالناصر: هل قرأت ما أكتبه عن الحرب؟! قال له: لا. ثم أكمل: أنا لا أقصدك أنت، كلامى بصفة عامة، ونحن نعرف الأمور من الجرائد، وما ينشر فيها لا يصلح ولا يصح.
جلسا نصف ساعة، لم تكن سعيدة أبدًا. ثم أكمل هيكل طريقه إلى المجدل.
عبدالناصر لثانى مرة
ثم كان اللقاء الثانى. جاء عبدالناصر إليه مع زكريا محيى الدين. كان زكريا محيى الدين يريد أن يطلع هيكل على مسألة تتعلق بما تقوم به إسرائيل، أما جمال عبدالناصر فقد جاء يطلب منه نسخة من كتابى «إيران فوق بركان»، لأن ثمنه كان غاليًا بالنسبة له. هل تعرفون ماذا كان ثمن الكتاب؟ كان عشرة قروش. وقد قدم هيكل الكتاب له فعلًا. واكتشف هيكل ساعتها أنه يرى رجلًا يريد أن يقرأ، وإن كان لم يعرف فى هذا الوقت إن كان مثقفًا أم لا.
بالعودة إلى أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات فى القرن الماضى ندرك أن العشرة قروش كانت مبلغًا كبيرًا فى هذا الوقت حتى لو كان ذلك بالنسبة لضابط فى القوات المسلحة. ربما كان مرتبه أربعين جنيهًا، وعشرة قروش من أجل كتاب، قد تكون مبلغًا كبيرًا فعلًا، عندما تحاول أن تفكر بقيمة النقود. فى ذلك الوقت. فإن عشرة قروش سنة 1949 تساوى على أقل تقدير 12 أو 15 جنيهًا اليوم. لكن المهم فى اللقاء الثانى أن جمال عبدالناصر الضابط بالقوات المسلحة المصرية. أو الجيش الملكى فى ذلك الوقت كان مشغولًا بقراءة كتاب. وبحث عن الكتاب وذهب إلى مؤلف هذا الكتاب يطلب نسخة منه. وجود ثمن الكتاب معه من عدمه تبدو قصة فرعية ليست هى الأساس. لكن الجوهر البحث عن المعرفة وعن الثقافة.
عبدالناصر لثالث مرة
كان هذا اللقاء يوم 18 يوليو، قبل قيام الثورة بأيام. وقد تم فى منزل محمد نجيب. وقد ناقش عبدالناصر هيكل فى هذه المرة حول قضية كانت تشغله: هل يمكن أن يتدخل الإنجليز أم لا فى حالة قيام الثورة؟ لم يقل عبدالناصر لهيكل كلمة الثورة. وهو المعروف بحذره فى الكلام وبقدرته على اختيار كلماته بدقة. قال له بدقة إن عمل الجيش أى شىء، دون أن يحدد هذا الشىء. كانوا – كما قلنا – فى بيت محمد نجيب، فى الوقت الذى كانت فيه أزمة نادى الضباط مشتعلة. وجاء جمال عبدالناصر، وجاء معه عبد الحكيم عامر. جاء جمال عبدالناصر يسأل: ماذا يمكن عمله فى أزمة نادى الضباط؟!
أخذ جمال عبدالناصر محمد نجيب إلى ركن بعيد عنهم، وتكلم معه. ثم خرج مع عبد الحكيم عامر، وخرج هيكل بعدهما، وعندما شاهدهما يقفان على محطة الأتوبيس القريبة من بيت محمد نجيب. لأن سيارة عبدالناصر الأوستين الشهيرة كانت معطلة. وكان هيكل يستقل سيارته عرض عليهما أن يوصلهما فى طريقه. وعرف أن طريقهما إلى باب الحديد، محطة السكة الحديد.
فى الطريق أكمل عبدالناصر كلامه مع هيكل، لأنه عندما كنا فى بيت محمد نجيب، كان هيكل قد قال إن الجيش عجز فى فلسطين عن أن يدافع عن كرامة البلد، واليوم فإن كرامة الجيش نفسه مطروحة، ولكن فى الميزان.
بدأ هيكل يتكلم ويشرح لماذا لا يتدخل الإنجليز وبدأ الكلام – كلام هيكل – يرن فى أذنى عبدالناصر. وبدأ عبدالناصر يسمعه ويسأله. وكانت من مزايا عبدالناصر قدرته الفريدة على الإنصات للآخرين مهما كان كلامهم طويلًا. ثم قدرته على طرح الأسئلة عما يسمعه.
لقد شعر هيكل لحظتها أنه هنا أمام إنسان عنده شىء مختلف عن الآخرين. لست متأكدًا بعد من باقى قصة هذا اليوم. فقد عرفت أنهم وصلوا محطة السكة الحديد دون أن ينتهى الكلام. فعرض هيكل على عبدالناصر أن يذهبا معه إلى أخبار اليوم. رحب عبد الحكيم عامر، ولكن عبدالناصر لم يكن مرحباً. لذلك اتجهوا إلى منزل هيكل فى شارع شجر الدر بالزمالك لاستكمال الكلام. وقدم هيكل خلال الكلام أدلة دقيقة على استحالة تدخل الإنجليز فيما لو حدث أمر ما فى مصر. قدم حقائق ووقائع، ولم يقدم تحليلات ورؤى. وهكذا حدثت الشرارة الأولى بين عقل الصحفى وعقلية الضابط. وهى الشرارة التى أصبحت توهجًا سنوات طويلة بعد ذلك.
عبدالناصر لرابع مرة
ثم قامت الثورة فى آخر ليل يوم الثلاثاء 22 يوليو سنة 1952 ليلًا، وفجر وصباح الأربعاء 23 يوليو. كان هيكل فى مقر القيادة منذ الفجر. واتصل بأخبار اليوم لكى يرى ماذا سيفعلون مع خبر الثورة؟ كان فى أخبار اليوم حسين فريد سكرتير التحرير الذى قال لهيكل إن على أمين ومصطفى أمين سألا عنه من فندق سيسل فى الإسكندرية حوالى عشر مرات. وفوجئ هيكل بأن مصطفى بيه على الخط. سأله: أنت فين؟ وقبل أن يرد ألا تعرف ما جرى؟ قال له هيكل ما مؤداه تقريبًا أنه قريب مما يجرى. ثم طلب منه عدم القلق. لكن المهم أن يعرفا ماذا سيفعلان فى الجريدة إزاء هذا الذى يجرى. واتفقا بعد مشاورات أنهما لم ينشرا شيئًا فى الغد. ثم طلب منه مصطفى أمين الرقم الذى كان يتكلم منه. سأل هيكل الضابط الذى كان يقف بجواره عن الرقم. وكان هذا الضابط هو سعد توفيق. وقال له إن الرقم هو: 45445 وكان رقم تليفون مكتب رئيس أركان حرب الجيش. فى هذه اللحظة دخل عليهم عبد الحكيم عامر، وكانت الأعصاب مشدودة. ووصلت الشدة إلى الذروة. وضع هيكل يده على السماعة، وقال لعبد الحكيم عامر إننى أكلم مصطفى أمين فى الإسكندرية. وفى هذه اللحظة جاء جمال عبدالناصر فقال له هيكل: ده مصطفى أمين يطلب النمرة التى يمكن أن يعرف منها مكان وجودى بالضبط. رفض عبدالحكيم عامر وهاج وماج. رفض إعطاء النمرة لمصطفى أمين. ولكن جمال عبدالناصر قال بهدوء شديد أعطه النمرة. وأضاف على أقل تقدير نعرف كيف يفكرون فى الإسكندرية الآن؟
اكتشف هيكل أنه أمام إنسان يعمل عقله بهدوء. ويفكر فيما يجرى فى مكان بعيد عنهم. لأنه فى الطرف الآخر من القضية والوجه الآخر من الصورة ومن المعادلة كلها فى ذلك الوقت.
عبدالناصر لخامس مرة
يوم الجمعة 25 يوليو، وهو اليوم السابق على السبت 26 يوليو، وجمال عبدالناصر يتكلم فى موضوع الملك فاروق. كان الموضوع مطروحًا بقوة، ماذا يمكن أن يتم مع الملك؟! كانت هناك مناقشات جارية، وكان هناك معسكران منقسمان فى مجلس قيادة الثورة. كان ذلك فى منشية البكرى، وليس فى مبنى مجلس قيادة الثورة الذى فى الجزيرة، وكان اسمه وقتها القيادة.
أمام هيكل، كان هناك اثنان يتكلمان: جمال عبدالناصر يتكلم من ناحية، وجمال سالم العائد فى ذلك الوقت من العريش، أو ربما كان عائدًا من خارج القاهرة، كان جمال سالم يتكلم من الناحية الأخرى.
فى هذا الوقت كان زكريا محيى الدين يقود القوات من القاهرة إلى الإسكندرية، لكى يوجه الإنذار المعروف – بعد ذلك – إلى الملك فاروق، ويطلب تنازله عن العرش.
جمال سالم كان يقول: لا بد من محاكمة الملك، ثم إعدامه، وجمال عبدالناصر كان يقول: إن كنا سنعدمه. لماذا نحاكمه؟ وإن قررنا محاكمته فما الداعى لإعلان إعدامه قبل المحاكمة؟ وكان رأى جمال عبدالناصر، أن أحسن تصرف أن نتركه يخرج من البلاد.
كان هذا هو الموقف الذى لفت نظر هيكل فى شخصية عبدالناصر منذ البداية، بالتحديد الموقف الخاص بثقافته. قال عبدالناصر: إن الدماء ستأتى بالمزيد من الدماء. ويا جماعة افتكروا قصة مدينتين لتشارلز ديكنز، إنها الرواية الشهيرة عن الثورة الفرنسية.
أول ما لفت نظر هيكل فى هذا الاستشهاد، هو أن جمال عبدالناصر. أول ما يمكن قوله عن شخص مثقف. أنه يفهم لغة الرموز بالكلمة أو لغة الرموز بالصوت، أو لغة الرموز باللون. كان أول تعبير استوقف هيكل فى كل ما قاله، باعتباره من الأمور الغريبة جداً. كان هذا فى يوم الجمعة الخامس والعشرين من يوليو سنة 1952، وكان الوقت بعد الظهر ولا يظن هيكل أنه بمفرده الذى استلفت نظره هذا الأمر. يخيل إليه أن سليمان حافظ الذى جاء من الإسكندرية لساعة واحدة، توقف أمام هذا التعبير مثلما توقف غيره. كان ذلك عندما قال جمال عبدالناصر «يا جماعة اقرأوا قصة مدينتين. الدم سيأتى بمزيد من الدماء».
شعر هيكل أنه أمام إنسان قرأ رواية، وتقبل التعبير الذى تقدمه، ووصل إليه الرمز الذى فيها وفهمه، وبقى موجودًا فى وعيه، وعبر عنه فى لحظة معينة. هذا أول ما لفت نظره.
ثم لفت نظر هيكل بعد ذلك الصورة المشهورة لهذا الرجل، والتى توشك أن تكون جزءًا من صورته الذهنية له عند الناس الذين عاصروه، أنه يبدو جالسًا، ويستمع فى حالة إنصات وتأمل. من يستطيع أن ينسى هذه الصورة بالذات؟ إن أهم شىء فى المثقف – من وجهة نظر هيكل – إنه هو الذى يستطيع أن تكون عنده القدرة على الاستماع والإنصات، لابد أن يلفت النظر فى الأيام الأولى من الثورة. كان عبدالناصر يستمع فقط.
أولًا: أنه يستطيع أن يستخدم الأدب فى تصوير مواقف مثل استخدامه لمواقف رواية قصة مدينتين.
ثانيًا: كذلك التعبير عن قضية ما، مستخدمًا قراءات أدبية سابقة له، سواء بالسخرية أو المأساوية، ولكن مجرد الاستعانة بالتعبير الأدبى، مسألة لافتة للنظر، ولا بد من أخذها فى الاعتبار.
ثالثًا: إنه يحاول أن يكتب رواية.
رابعًا: كلامه عن المشروعات التى استخدمت فيها أموال أسرة محمد على، المصادرة، ومشروعات مجلس الخدمات. وعندما أحضر له هيكل محمد فؤاد جلال من أجل إنشاء هذا المجلس تجد جمال عبدالناصر يقول:
- من الأشياء التى لابد أن تعملوها. نفسى فى دار كتب جديدة، ويقول بتحديد أكثر: أنا كنت أذهب إلى دار الكتب القديمة فى باب الخلق، وكنت أحلم أن تكون هناك دار كتب على النيل.
وقد حدث هذا سنة 1952، بتحديد أكثر كان فى أواخر سنة 1952، أى بعد شهور قليلة من قيام الثورة. الكل يعرف أن هذا المشروع تأخر كثيراً. ولكن الكلام عنه بدأ فى أواخر 1952 – مع محمد فؤاد جلال. وخلال الحديث عن المدارس والمراكز الصحية والوحدات المجمعة للخدمات فى الريف المصرى، يفاجئك جمال عبدالناصر بعدة أمور:
1- إنه ذهب إلى دار الكتب القديمة فى باب الخلق كثيرًا.
2- إنه استعار كتبًا كثيرًا جدًا، وكان من المترددين على الدار، أى أنه لم يذهب مرة واحدة – ربما كانت صدفة – ثم يذهب فى حال سبيله.
3- إنه قرأ فى هذه الدار كتبًا كثيرة.
4- أصبح لديه حلم وجود دار كتب مختلفة عن الدار القديمة.
5- أن تطل على نهر النيل، وهنا أيضًا رمز من الرموز، رمز مصر. وهذا الرمز الحلم يظل متذاكرًا له، ويقول لمن ينفذون فى أرض الواقع، وينفذونه فعلًا بعد ذلك.
يؤكد هيكل أكثر من مرة أن عبدالناصر قال له: سوف تكتب أنت وحدك قصتنا فما أظن أن العمر سيصل بى إلى مرحلة الشيخوخة.
وقد حدث الشق الثانى من النبوءة. فعبدالناصر لم يصل للشيخوخة.
يبقى الشق الأول من طلب عبدالناصر. فهل يكتب هيكل قصتهما معًا التى هى قصة يوليو 1952؟!
هوامش العلاقة:
أضاف الأستاذ هيكل مؤخرًا مناسبة جديدة. التقى فيها عبدالناصر قبل ثورة يوليو 1952. كان ذلك يوم 26 يناير 1952. يوم حريق القاهرة الشهير والمعروف. نزل هيكل كصحفى يرى قاهرة المصريين وهى تحترق. وكان عبدالناصر مع بعض زملائه من أبناء القوات المسلحة يشاهدون ما يجرى فى المدينة. والتقيا وكان هذا اللقاء سابقًا على لقاءٍ تم فى منزل محمد نجيب قبل قيام الثورة بأيام. كان يوم 18 يوليو 1952.
لقاء حريق القاهرة يعنى أن الجورنالجى والثائر التقيا فى قلب النار والدم والدموع. والعاصمة تحترق. أعتقد أن علاقة هيكل بعبدالناصر أصبحت هكذا لأن هيكل عرف عبدالناصر قبل أن يدخل ضباب الأساطير. وينظر للناس جميعًا باعتبارهم وجوهًا متشابهة. أيضًا فإن العلاقة بين الناس والحاكم يشوبها قدر غير عادى من النفاق – هذا يجرى فى كل مكان من العالم – لذلك لا يصدق الحاكم معظم ما يقال له. بينما تتزايد الجماهير فى التعبير عن مشاعرها. لدرجة أن من يشاهدها قد لا يصدقها.
أساس العلاقة تم وعبدالناصر ضابط فى القوات المسلحة. وهيكل جورنالجى. ربما كان أكثر شهرة من عبدالناصر نفسه. لذلك تم وضع حجر أساس علاقة إنسانية نمت وتطورت وكبرت بعد أن أصبح عبدالناصر هو عبدالناصر. لا أريد أن أتجاوز حدود تحليلى وأقول: ربما كانت العلاقة الناصرية الهيكلية أكثر العلاقات إنسانية وعملية فى حياة جمال عبدالناصر بعد أن أصبح أسطورة الأساطير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.