افتتاح بطولة إفريقيا للكرة الطائرة «سيدات» بالأهلي    تامر حسني يبدأ تصوير فيلم «ري ستارت» في مايو    رحلة فاطمة محمد علي من خشبة المسرح لنجومية السوشيال ميديا ب ثلاثي البهجة    التربية للطفولة المبكرة أسيوط تنظم مؤتمرها الدولي الخامس عن "الموهبة والإبداع والذكاء الأصطناعي"    أسعار الذهب فى مصر اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    بالصور.. إحلال وتجديد 3 كبارى بالبحيرة بتكلفة 11 مليون جنيه    وزير التنمية المحلية يعلن بدء تطبيق المواعيد الصيفية لفتح وغلق المحال العامة    خبراء الضرائب: غموض موقف ضريبة الأرباح الرأسمالية يهدد بخسائر فادحة للبورصة    وزيرة البيئة تعقد لقاءا ثنائيا مع وزيرة الدولة الألمانية للمناخ    النواب يرسل تهنئة رئيس الجمهورية بذكرى تحرير سيناء    عاجل| مصدر أمني: استمرار الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي للوصول لصيغة اتفاق هدنة في غزة    وزير الخارجية الروسي يبحث هاتفيا مع نظيره البحريني الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والتصعيد بالبحر الأحمر    ذاكرة الزمان المصرى 25أبريل….. الذكرى 42 لتحرير سيناء.    مصطفى عسل يتأهل لنهائي بطولة الجونة للإسكواش ويستعد لمواجهة حامل اللقب "على فرج"| فيديو    تحطم سيارتين انهارت عليهما شرفة عقار في الإبراهيمية بالإسكندرية    والدة الشاب المعاق ذهنيا تتظلم بعد إخلاء سبيل المتهم    الآلاف من أطباء الأسنان يُدلون بأصواتهم لاختيار النقيب العام وأعضاء المجلس    وفد جامعة المنصورة الجديدة يزور جامعة نوتنجهام ترنت بالمملكة المتحدة لتبادل الخبرات    «الصحة»: فحص 434 ألف طفل حديث الولادة ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية    مزارع يقتل آخر في أسيوط بسبب خلافات الجيرة    «التعليم» تستعرض خطة مواجهة الكثافات الطلابية على مدار 10 سنوات    سكاي: سن محمد صلاح قد يكون عائقًا أمام انتقاله للدوري السعودي    وزارة الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة 3 مايو    حصاد الزراعة.. البدء الفوري في تنفيذ أنشطة مشروع التحول المستدام لإنتاج المحاصيل    الناتو يخلق تهديدات إضافية.. الدفاع الروسية تحذر من "عواقب كارثية" لمحطة زابوريجيا النووية    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    مدينة أوروبية تستعد لحظر الآيس كريم والبيتزا بعد منتصف الليل (تعرف على السبب)    "الدفاع الروسية": "مستشارون أجانب" يشاركون مباشرة في التحضير لعمليات تخريب أوكرانية في بلادنا    إيرادات الخميس.. شباك التذاكر يحقق 3 ملايين و349 ألف جنيه    فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بقصور الثقافة بشمال سيناء    خطيب الأوقاف: الله تعالى خص أمتنا بأكمل الشرائع وأقوم المناهج    مياه الشرقية تنفذ أنشطة ثقافية وتوعوية لطلبة مدارس أبو كبير    قافلة جامعة المنيا الخدمية توقع الكشف الطبي على 680 حالة بالناصرية    طريقة عمل ورق العنب باللحم، سهلة وبسيطة وغير مكلفة    مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024.. في القاهرة والمحافظات    استمرار فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية بالعاصمة الإدارية    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    سميرة أحمد ضيفة إيمان أبوطالب في «بالخط العريض» الليلة    أمن القاهرة يكشف غموض بلاغات سرقة ويضبط الجناة | صور    تأجيل الانتخابات البلدية في لبنان حتى 2025    دعاء صباح يوم الجمعة.. أدعية مستحبة لفك الكرب وتفريج الهموم    تشافي يطالب لابورتا بضم نجم بايرن ميونخ    اتحاد جدة يعلن تفاصيل إصابة بنزيما وكانتي    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    عرض افلام "ثالثهما" وباب البحر" و' البر المزيون" بنادي سينما اوبرا الاسكندرية    الشركة المالكة ل«تيك توك» ترغب في إغلاق التطبيق بأمريكا.. ما القصة؟    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    مساعدو ترامب يناقشون معاقبة الدول التي تتخلى عن الدولار    رمضان صبحي: نفتقد عبد الله السعيد في بيراميدز..وأتمنى له التوفيق مع الزمالك    كارثة كبيرة.. نجم الزمالك السابق يعلق على قضية خالد بو طيب    منها «عدم الإفراط في الكافيين».. 3 نصائح لتقليل تأثير التوقيت الصيفي على صحتك    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    أطفال غزة يشاركون تامر حسني الغناء خلال احتفالية مجلس القبائل والعائلات المصرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوسف القعيد يحاور الأستاذ عن ثقافة يوليو وعلاقة الزعيم بالأدب والكتابة والغناء
عبدالناصر.. والمثقفون.. وهيكل
نشر في أخبار الأدب يوم 28 - 09 - 2012

كان الحكيم يتعامل معي بطريقة ظريفة جدا:كان يقول لي، إن كنت ستختار المحل الذي نذهب إليه، أنا الذي أختار لك الطبق الذي تأكله، وإن فضلت أنت اختيار الطبق، أنا الذي أختار المحل.
قال عبدالناصر: لا يمكن أن أتصور أن تأتي الثورة ويأتي هذا النظام الجديد ويخرج الحكيم
كان الحكيم يقول: أنا ومحفوظ مثل النمل نحفر تحتنا، وأنت تطير مثل النحل
كان موقف عبدالناصر المبدئي أن أي كاتب يكتب عملا أدبيا ينشره له أو لا يقف ضد نشره
سوف تكتب أنت وحدك قصتنا، فما أظن أن العمل سيصل إلي مرحلة الشيخوخة. بهذه العبارة التي قالها عبد الناصر وهو يخاطب محمد حسنين هيكل، يفتتح الروائي يوسف القعيد كتابه ( هيكل يتذكر: عبدالناصر والثقافة والمثقفون« . والكتاب حوار طويل يتحدث فيه هيكل صاحب أهم تجربة صحفية ارتكزت علي بعد سياسي وثقافي وفكري، عن علاقة عبد الناصر بالثقافة والمثقفين، وهي احد الجوانب الهامة التي لم ترو في حياة الزعيم، مروراً بعلاقته مع الإخوان المسلمين والشيوعيين، إذ جرت محاولات من الإخوان لضمه إلي الحركة. إضافة إلي قصة إعجاب الرئيس بتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأم كلثوم وعبد الوهاب، كما يكشف عن حقيقة الخلاف الذي وقع بين مجلس قيادة الثورة ومحمد نجيب. هنا حكاية عبد الناصر، ولكنها أيضا حكاية هيكل. ننشر منها فصولا بمناسبة عيد ميلاد الاستاذ هيكل التاسع والثمانين، وذكري رحيل عبد الناصر.
الوعي العائد..حكاية عبدالناصر وتوفيق الحكيم
- نمسك ببداية قصة توفيق الحكيم مع الثورة، التي تبدأ بموضوع التطهير؟!
هيكل : أولا: التطهير لم تقم به ثورة يوليو، البداية كانت من وزارة علي ماهر، وأكملته الوزارات التي جاءت بعدها. هذا التطهير جاء علي عدة مراحل، كان يقال ان هناك موظفين لابد من إخراجهم، وهناك موظفين آخرين غير فاسدين لكنهم لايصلحون للعمل، كل من تعدي سن الخامسة والخمسين يمكن تسوية معاشه ويذهب وتحل المشكلة.
في هذا الجو حيث يخرج أناس، ويدخل آخرون، وجدت توفيق الحكيم يحضر إلي في يوم من الايام حيث دخل علي مكتبي. كان ذلك وأنا في أخبار اليوم في أواخر سنة 1953، لأن كل ما جري حول الوزارة، حيث كان نائبا لرئيس الوزراء، لكن من الواضح أنه كان صاحب القرار والكلمة والرأي.
هل كانت هناك معرفة سابقة بينك وبينه؟!
هيكل: لقد كان توفيق الحكيم زميلي في أخبار اليوم، كانت بيننا علاقة قديمة جدا عندما ذهبت أنا إلي أخبار اليوم كان هو سيحضر إليها، هذا الكلام جري فيما بين عامي 1946 و1947.
كان توفيق الحكيم موجودا معنا في أخبار اليوم، وكان كاتباً ومفكراً كبيراً ودمه خفيف، كان بيننا علاقة غريبة جدا، وهو كان مبهورا بي من ناحية، وأنا كنت مبهورا به من ناحية، وأنا كنت مبهورا به من ناحية أخري ، أنا كنت مبهورا بالأديب والفنان وهو كان مبهورا بالصحفي.
أذكر أننا في يوم من الأيام -وأنا أذكر هذه التفاصيل حتي أجعلك تعيش في هذه الأجواء -وأنت الذي سألتني عن أصل علاقتي بالحكيم وإلي متي تعود في هذه الظروف أنا لم أكن متزوجاً، وتوفيق الحكيم أيضاً لم يكن متزوجاً.
كان مصدر إعجابه بي أنني أتحدث وأعمل وأذهب إلي أكثر من مكان، دائما يقول لي الفارق بيني وبينك هو الفارق الذي بين النملة، والنحلة، النمل يحفر تحته، والنحل الذي هو أنت - وكان يقصدني بذلك- يطير ويحلق في الأجواء.
كان قد قرأ لي بعض التحقيقات من تحقيقاتي الأولي، وكان مهتما بها، وذلك عندما سافرت إلي الحرب الأهلية في اليونان وغطيت ثورة مصدق والانقلابات السورية وحرب فلسطين وما جري في كوريا، وتحقيقات الكوليرا في صعيد مصر.. توفيق الحكيم كان يري هذا من الأمور التي توشك أن تفوق الخيال، أنا أتحدث كل يوم وهو يميل إلي السكون وعدم الحركة والتأمل.
أنا كنت أقضي حياتي كلها في أخبار اليوم، ولكن توفيق الحكيم كان يحضر في بعض الأيام فقط، وفي هذه الأيام التي كان يحضر فيها ماذا كنا نفعل؟ كنا نخرج في كل يوم من أجل الغداء في مطاعم وسط القاهرة معا، ونذهب إلي السينما حفلة من 3 إلي 6 ثم أعود أنا مرة أخري إلي أخبار اليوم وهو يذهب إلي منزله.
في ذلك الوقت، كانت أخبار اليوم في الدور السابع من عمارة شركة مصر للتأمين الموجودة في شارع مصطفي كامل، هل تعرف مكانه الآن؟.
هل هو شارع قصر النيل الآن؟.
هيكل: فعلا. كان المكان عبارة عن سطوح وجري تقفيلها، وتوفيق الحكيم وضع قاعدة جيدة من أجل هذه العزومات، في يوم أتحمل أنا تذاكر السينما، وهو في نفس اليوم يتحمل الغداء، وفي يوم آخر يكون علي الغداء ويكون عليه هو تذاكر السينما وهكذا.
لكن لو كان عليه هو الغداء، كان يعمل قاعدة ظريفة جدا، كان يقول لي، إن كنت ستختار المحل الذي نذهب إليه، أنا الذي أختار لك الطبق الذي تأكله، وإن فضلت أنت اختيار الطبق، أنا الذي أختار المحل.
وذلك من أجل مراعاة ظروف بخله؟!
هيكل: لا إن قلت أنا أريد أن آكل فيليه فيختار هو مطعم تركي في حارة صغيرة متفرعة من شارع ثروت، وان قلت أريد الذهاب إلي سميراميس يشترط علي أن يكون الطعام سندوتشات، كان يحتفظ لنفسه بالفرصة الأخيرة في التحكم في الأمور.
كنا نضحك علي مثل هذه الأمور.
كانت بيننا صداقة من هذا النوع الجميل، ثم أنني اكتشفت في توفيق الحكيم في مثل هذه الظروف أمورا اكثر من جميلة، وكنت أتصور انه يمثل في بعض الأمور والأحيان.
من أكثر المرات التي تصورت أنه ربما كان يمثل فيها- علي سبيل المثال- يوم أن مات نجيب الريحاني، يبدو أن علي أمين قال لتوفيق الحكيم، إن نجيب الريحاني قد مات، وتوفيق الحكيم كان زعلان جدا، وأنا وصلت إلي الجريدة ولم أكن أعرف أن علي أمين قال للحكيم هذا الخبر، دخلت حجرة الحكيم وكان لحظة دخولي يبحث عن كتاب في دولاب، كان جالسا علي ركبتيه يبحث عن الكتاب، كان مقرفصا.
قلت له
- عرفت.. نجيب الريحاني مات.
قال لي:
- يانهار اسود مات تاني!
وضحكنا نحن الاثنين علي كلمة تاني!
- ويعود الأستاذ إلي زيارة الحكيم له، في آواخر عام 1953.
هيكل: حضر إلي وقال لي أريد آخذ رأيك في موضوع ما، في ذلك الوقت كان إسماعيل القباني وهو رجل من رجال التعليم، بل من خيرة رجال التعليم، حتي نكون منصفين فيما نقوله عنه الآن، بعد كل هذه السنوات التي مرت، وهذا ليس رأيي وحدي ولكن الناس كلها أجمعت علي هذا.
قال لي الحكيم، إن إسماعيل القباني طلب من وكيل وزارة المعارف أن يتصل به، وكان عمره -في ذلك الوقت-57 سنة، وأن يعرض عليه ضم السنوات الباقية حتي سن الستين، وأن يخرج بمقتضي التعديلات الممنوحة في عملية التطهير.
كان هناك أناس يفصلون من العمل، وأناس تتم تسوية أوضاعهم، كان توفيق الحكيم، في تلك الايام -يعمل مديرا لدار الكتب المصرية، وقد قال إنه موافق علي المعاش وضم هذه السنوات الثلاث.
لكن الذي حدث انه بعد أن أبدي الحكيم موافقته قابل صديق عمره الدكتور حملي بهجب بدوي، وهو شقيق عبدالحميد باشا بدوي، وكان حلمي من الناس المثقفين، وكان له تأثير كبير علي توفيق الحكيم.
وصلة توفيق الحكيم به تعود الي سنوات باريس كانت هناك دفعة مصرية مكونة من الدكتور عبدالحكيم الرفاعي الذي أصبح بعد ذلك محافظ البنك المركزي، وحلمي بهجت بدوي الذي أصبح بعد ذلك رئيسا لمجلس إدارة قناة السويس، والدكتور القللي الذي أصبح عميداً للحقوق، والدكتور حسين فوزي الكاتب المعروف، وتوفيق الحكيم.
كانت هناك علاقات بينهم، لكن توفيق الحكيم كان يثق دائما في حلمي بهجت بدوي، علاوة علي الصداقة بينهما وتقدير حلمي للفن، والمجموعة كلها عموما كانت تقدر الفن، وتستمع إلي الموسيقي وتذهب إلي معارض الفن التشكيلي، والوحيد الذي ساءت علاقته مع هذه المجموعة كان عبدالحكيم الرفاعي، وذلك لأسباب شخصية بحتة.
نعود إلي حكايتنا.. توفيق الحكيم بعد ذلك ، لانه بقبوله بفكرة الإحالة إلي المعاش انه خرج في التطهير، وأن النظام غير راض عنه، وأن هناك مايؤخذ موقفا في العهد السابق، ولم تكن له صلات بأحد.
جاءني الحكيم وقال لي أريد أن آخذ رأيك في أمر ما ، وقال ما قاله.
ألم تكن هناك مشكلات سابقة- حزبية أو ثقافية- بين الحكيم وبين القباني قبل الثورة؟.
هيكل: في الغالب لا.
ألم يكن القباني يأخذ علي الحكيم كسله وتراخيه في العمل الإداري؟
هيكل: هذا ما قاله القباني فيما بعد، خاصة عندما تحول الأمر إلي أزمة، شرح القباني الأسباب التي دفعته لان يقول لوكيل الوزارة إن الحكيم لابد وأن يخرج، وكانت هذه الأسباب..
أن توفيق الحكيم ليس إداريا، وإن كونه أديبا معروفا ومشهورا ليس معناه أنه يصلح لأن يكون مديرا لدار الكتب.
في هذا يمكن القول، إن القباني كانت عنده وجهة نظر تكنوقراطية وبيروقراطية.
أن الحكيم كسول، ولايذهب الي العمل كل يوم، ولايذهب في مواعيد العمل المعروفة، والمطلوب أن يذهب فيها الموظفون عادة.
كان الحكيم عندما أتي إلي قد قبل ماعرض عليه، وحلمي بهجت بدوي هو الذي قال له إنه أخطأ بهذا القبول، والحكيم صعب عليه الموقف الذي وجد نفسه فيه، وبدأ الموضوع يكبر في رأسه، ويقول ان الموضوع سيتم تصويره علي غير حقيقته، كما قال له حلمي بهجت بدوي، وأن هذا النظام الجديد كان الحكيم قد حلم به، والحكيم كان يقول : أنا لم أتورط - مثل غيري - لامع الوفد ولا مع القصر.
هل كان معروفا- في ذلك الوقت- أن عبدالناصر قرأ عودة الروح قبل الثورة.. أم لا.؟
..هيكل: لم يكن ذلك معروفا في هذا الوقت، قلت للحكيم: ماذا تريد مني بالتحديد؟ قال لي: لا أعرف ماذا أريد منك، ولكني فقط أردت الحديث معك في هذا الموضوع، قلت له: باختصار هل تريد مني ان أكلم جمال عبدالناصر، قال لي: أنا مش عارف أعمل إيه! أمال إنما جاي لك ليه! شير علي أعمل إيه! أصل حلمي وكان حلمي بهجت بدوي قد قال للحكيم إنه يستطيع أن يكلم سليمان حافظ، وذلك من أجل وقف الحكاية في مجلس الوزارء.
يكمل هيكل
.. قررت أن أتكلم مع جمال عبدالناصر، بدأت كلامي معه قائلا: كان عندي توفيق الحكيم، وقبل أن أكمل قال لي عبدالناصر: إحنا كنا بندرس كشوف الخارجين علي المعاش، وكان اسمه في هذه الكشوف، وقد فهمت أن هذه رغبته الشخصية والخاصة.
قلت له: لا. الحقيقة من أجل أن نكون منصفين، لم تكن هذه رغبته، وفي هذا الوقت كان إسماعيل القباني قد عرض الأمر علي مجلس الوزراء، ولفت نظر جمال عبدالناصر وجود اسم توفيق الحكيم في هذه القائمة، فسأل عبدالناصر القباني: هل هذه هي رغبة الحكيم؟! فقال له القباني إنها فعلا رغبة المحكيم، فقال: خلاص ما دامت هذه رغبته.
وهكذا أعدت الكشوف علي هذا الأساس.
حكيت لعبدالناصر، بكل دقة ما جري، قلت له إنه من الممكن أن يكون قد بدا من الحكيم أنه موافق، لكنه رجع في هذه الموافقة بعد ان جلس مع نفسه واستشار بعض أصدقائه الذين يثق فيهم، وكانت النتيجة انه لايريد الخروج.
كان عبدالناصر مندهشا، قال إنه من غير المعقول ولا المتصور أن نأتي نحن، ونخرج واحدا مثل توفيق الحكيم.
قبل اجتماع مجلس الوزراء تكلم جمال عبدالناصر مع اسماعيل القباني، والقباني قال له أمرين:
الأول أن توفيق الحكيم كان موافقا علي الخروج، ومن غير المعقول أن يغير رأيه بين يوم وليلة.
الأمر الثاني: أن اسم الحكيم موجود في القوائم الآن، وعرف وجوده في هذه القوائم التي خرجت من مكتب القباني وجاءت إلي سكرتارية مجلس الوزراء، والعودة في الأمر ورفع الاسم من الكشوف اصبحت بالنسبة له مسألة محرجة، لأن الأمر من المفروض انه انتهي، وأي كلام فيه لم يعد مبررا.
قال له عبدالناصر: من الممكن أن تكون هناك طريقة ما لمعالجة الأمر، ولم يكن لدي القباني حل، ورأي جمال عبدالناصر عرض الأمر علي مجلس الوزراء.. في اجتماع مجلس الوزراء جري حوار متعب، بدأ القباني بعرض الكشوف النهائية للخارجين علي المعاشات، وكان جمال عبدالناصر نائبا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرا للداخلية. جمال عبدالناصر قال انه يريد الكلام في موضوع توفيق الحكيم وقال: لأنني تكلمت مع اسماعيل القباني ولم نصل في الموضوع الي حل، وأنا أري أن هذا موضوع مهم وخطير جدا.
وقال عبدالناصر: إنني لا يمكن ان اتصور ان تأتي الثورة ويأتي هذا النظام الجديد ونخرج توفيق الحكيم »نرفده« ويخرج مع الخارجين، حتي لو كانت هذه رغبة الحكيم نفسه، ويخرج ولكن في ظروف مختلفة وبقضية لا علاقة لها بمثل هذه القوائم، يكون واضحا انه استقال حتي يتفرغ لعمله الأدبي بعد هذا، ويقال هذا، ولكن لايخرج ضمن عملية تطهير ابدا، بل يخرج في سياق اخر ونكرمه بهذه المناسبة.
قال إسماعيل القباني إن الأمر أصبح مسألة كرامة، واختصاصات، وإنه تصرف في هذه القضية باعتبار ان توفيق الحكيم هو الذي طلب الخروج بنفسه، وقال العبارة التي اصبحت معروفة:
إن توفيق الحكيم مثل سييء لموظف الدولة، وذلك بصرف النظر عن قيمته الأدبية، ولكن الحكيم إنسان كسلان، لا يذهب إلي مكتبه، وإن ذهب تعرض عليه مسائل لايعرف أي شيء فيها، وهناك شكاوي كثيرة من الادارة ضده.
جمال عبدالناصر قال ان الموضوع ليس موضوع كرامة، إن الموضوع هو حق أديب في أن يغير رأيه، فإن كان من حقوقه الأساسية أن يبدي هذا الرأي، فإن تغيير رأيه من الأمور التي لا يمكن أن ينازعه فيها أحد.
افترض أن الحكيم اختار هذا، ثم اكتشف بعد ذلك انه سيجد نفسه في صيغة ليست مقبولة، وفي وضع ليس جميلا، من حقه ان يغير رأيه، وباديء بدء، نحن لم نكن نريد ان نخرجه، انتم قلتم انكم تريدون اخراجه إن كانت هذه رغبته، أما وقد اتضح أمامنا أن هذه ليست رغبته، سواء كان تردد أو لم يتردد، هذه مسألة فرعية.
القباني- قال جمال عبالناصر- يعتبرها مسألة كرامة، وقال: إنه لو رفع اسم الحكيم سيصبح موقفه سيئا جدا في الوزارة، وانه سيقدم استقالته، ووقف الأمر عند هذا الحد، ودخل الي مشكلة غريبة، ثم انتقل مجلس الوزراء إلي موضوع اخر، ثم عقد اجتماع مصغر، لأني اظن ان عبدالناصر لم يكن يريد ان يأخذ موقفا بمفرده.
وتصل الأزمة إلي حدود استقالة وزير.. بدأ جمال عبدالناصر يسأل ويتكلم مع عبدالحكيم ومع بغدادي، رافضا ان تأخذ الثورة علي عاتقها أنها فصلت توفيق الحكيم واخرجته في التطهير.. لو صدر قرار خاص يقول ان الحكيم اديب ورجل خلاق علي العين والرأس، ولكنه كموظف فهو إنسان كسلان، فإن ذلك موضوع آخر، وحتي إن رغب في الخروج فإن ذلك لابد وأن يتم بطريقة اخري.
دخلوا الجلسة التالية، وقال جمال عبدالناصر: أريد اثارة موضوع توفيق الحكيم مرة أخري، وكان ذلك بعد يومين من الجلسة السابقة، وقال جمال عبدالناصر: اننا لا يجب أن نأخذ الموضوع مسألة كرامة، انه أكثر من كرامة الأشخاص، نحن أمام أديب ومفكر وفنان مصري، فإن عاملناه بمعايير الموظفين يصبح الموقف معيبا جدا في حق الثورة، وهذه هي العبارة التي زعلت القباني جدا، وأظن أن جمال عبدالناصر وصف الموقف بكلمة البيروقراطية، وكان يصف التصرف بهذه الكلمة ولم يكن يصف القباني بها، ولكن القباني أخذها علي نفسه، وقال إن كان الأمر هكذا ومادمت أنا بيروقراطيا فأنا أستقيل، عبدالناصر قال: إن الموضوع ليس كرامات أشخاص، ولا أريد من أحد أن يهددني بالاستقالة، وفي موضوع مثل هذا أنا مستعد أن أمشي فيه حتي آخر المشوار.
فتحي رضوان - وكان وزير ارشاد قومي - قال انه بعد الجلسة عرض أن يأتي بتوفيق الحكيم واسماعيل القباني ويعقد اجتماعا مصغرا بينهما يحل فيه المشكلة، ولكن القباني قال لا ورفض ذلك، قال ان هناك قولا صدر يجعله غير قادر علي الرجوع من موقفه.
عبدالناصر قال انه يطرح الأمر علي المجلس لأن هذه القضية لا يستطيع الموافقة عليها، ولا أرضي للثورة أن توضح هذه النقطة في تاريخها.. القباني أخذ بعضه وخرج، وطلع وراءها فتحي رضوان، وأرسل القباني الاستقالة، ذهب اليها سليمان حافظ يسأله ان كان مصمما علي الاستقالة.
وعن أسباب وصول عبدالناصر الي الضيق.. ولم دخل في القضية باعتباره طرفا فيها يقول الأستاذ:
.. هيكل: كان عبدالناصر يعتقد أن القباني وزير تعليم كويس، ولم يكن يريد أن تصل الأمور الي هذا الحد.
كيف تصرف الحكيم بعد ذلك؟
.. هيكل: جاء الي توفيق الحكيم، وكان قد سمع حكاية الشد والجذب التي حدثت.
من الذي نقل له ما جري؟
.. هيكل: لا أعرف من الذي نقل له ما جري من مناقشات حول موضوعه، فقلت له عليك بالصبر، فقال لي: أنا مش عارف الصبر يعني ايه! فقلت له الموضوع أصبح أكبر منك، لم يعد ممكنا لك أن تقول فيه أي شيء، ثم أعلن عن قبول استقالة اسماعيل القباني، وكان يوم خروجه من الوزارة 3 يناير سنة 1954، وعين بدلا منه عباس عمار وزيرا للمعارف العمومية. وكان هذا اسم الوزارة في تلك الأيام.
جاءني توفيق الحكيم، وكانت حالته من الصعب وصفها؛ لأن الحكيم عندما عرف أن القباني لوح بالاستقالة، أدرك الحكيم أنه خارج لا محالة وأن الأمر انتهي بالنسبة له، وأعد نفسه لهذا الاحتمال المؤكد.
قال لي الحكيم متسائلا: ماذا أفعل؟ هل أذهب واكتب اسمي في دفتر التشريفات؟ كيف أشكر هذا الرجل العظيم؟ لم يكن يتصور أن يخرج وزير من الحكم بسبب مشكلة معه.
قلت للحكيم ان جمال عبدالناصر انتصر لأديب، وخرج وزير لكي لا يخرج أديب في التطهير، حتي وان كانا لأديب يعمل في وظيفة ادارية لا علاقة لها بدوره كأديب.
عاد الحكيم يتساءل: كيف أشكره اذن؟! قلت له بلاش شكر، ولا كتابة اسمك في أي دفاتر، لأن ذلك سيظهر الأمر وكأنه مسألة شخصية، هذه قضية عامة ولابد وأن تبقي في مستوي عموميتها.
في يوم آخر جاءني توفيق الحكيم، وقال لي ان حلمي - يقصد حلمي بهجت بدوي - قال لي انني لابد وأن أشكر الرجل الكبير، وأنني لابد أن أطلب مقابلته، وعندما سألت حلمي عن حكاية المقابلة، قال لي ان الأستاذ هيكل هو الذي توسط في الأمر من البداية، وهو الذي يرتب لك المقابلة مع جمال عبدالناصر.
قلت للحكيم: علي كل حال لو كنت تريد مقابلة جمال عبدالناصر، نذهب اليه في وقت كان متفرغا فيه.. بعد الظهر نأخذ معه فنجان شاي، ونتكلم علي راحتنا بعيدا عن المكاتب الرسمية، والمقابلات ذات الطابع الرسمي.
غاب توفيق الحكيم، وجاء الي مرة أخري بعد فترة، قال لي هل عملت حاجة في الموضوع اللي تكلمنا فيه؟ كان كلامه علي شكل سؤال ما قلت لا لم أفعل أي شيء، قال لي الحكيم - إن هناك أمرا ما لابد من مراعاته قبل الذهاب الي الرئيس - لابد وأن نري طريقة يبلغ بها عبدالناصر وكيل وزارة المعارف أنه - أي عبدالناصر - هو الذي طلب اللقاء وذلك خوفا من أن أتعرض للاضطهاد من جديد.
كان توفيق الحكيم - باختصار شديد - يريد أن يتم استئذان وكيل وزارة المعارف العمومية قبل أن يذهب الي جمال عبدالناصر، خوفا من أن يعرف وكيل الوزارة أنه ذهب الي عبدالناصر من ورائه فيضطهده، وأن الذي يجب أن يبلغه بذلك عبدالناصر نفسه.
هل هذا معقول؟!
.. هيكل: كل هذه الأمور مضي عليها وقت طويل، والانصاف لابد أن يدفعني الي القول انه كان في ذلك الوقت من المستحيل أن يتجاوز موظف رئيسه المباشر. ثم ان الحكيم لم يكن قد صدق انه استراح من مشكلاته مع الوزير السابق، وكان يخشي ويخاف أن يطلع له وكيل الوزارة ويحاسبه علي أنه قابل مسئولا كبيرا بدون أن يحصل علي اذن منه، قال لي توفيق الحكيم يومها: انك لا تعرف ماذا تفعل هذه الجماعة في الموظفين.
وماذا فعلت أنت في هذا الطلب الغريب؟!
.. هيكل: قلت هذا الكلام لعبدالناصر، ضحك طويلا وتساءل: هل من المعقول أن أستأذن وكيل وزارة المعارف العمومية من أجل مقابلة مدير دار الكتب؟
قال توفيق الحكيم بعد هذا انه هو الذي رفض الذهاب الي عبدالناصر!
.. هيكل: هذا اللقاء لم يتم للسبب الذي قلته. وأكرر هذا اللقاء لم يتم للسبب الذي قلته، هل من المعقول أن يرفض أحد مقابلة عبدالناصر؟ هل لم يكن جمال عبدالناصر متحمسا للقاء؛ لأنه كان سيبدو كما لو كان ثمن ما قام به من أجل الحكيم؟
.. هيكل: لا. عبدالناصر كان متحمسا للقاء، ولكن عندما طلب الحكيم الحصول علي اذن من وكيل الوزارة، وعرف عبدالناصر ضحك وقال ضاحكا: أتاريه بيروقراطي.
ولكن جمال عبدالناصر أعطي الحكيم بعد ذلك وساما في مواجهة حملة ضده كان قد قام بها أحمد رشدي صالح، عندما اتهمه أن كل مسرحياته مأخوذة عن أعمال أجنبية، وكان هناك آخرون معه في هذه الحملة!
ليس لأنه حصل علي جائزة نوبل في الآداب في 12 أكتوبر سنة 1988 بعد رحيل جمال عبدالناصر عن عالمنا ب18 سنة وبضعة أيام تقل عن الشهر.
ولكن لأن مشروعه الروائي تكون وعبر عن نفسه ووصل الي ذروة ازدهاره الحقيقي في زمن عبدالناصر وفي سنوات حكمه.
فثلاثية بين القصرين - قصر الشوق - السكرية، منشورة في الخمسينيات. وأولاد حارتنا مكتوبة ومنشورة مسلسلة في جريدة الأهرام، بصفة يومية - قبل أن يتنبه الأزهر لما فيها - في نهاية الخمسينات.
أعماله التي انتقد فيها تجربة يوليو وحكم جمال عبدالناصر - كلها - منشورة في زمن عبدالناصر، جري نشرها مرتين، الأولي في الأهرام - والقليل منها لم يتم نشره في الأهرام - والثانية عندما نشرت في كتب، وهكذا قرأ الناس لنجيب محفوظ: دنيا الله، تحت المظلة، المرايا، اللص والكلاب، ثرثرة فوق النيل، السمان والخريف، الشحاذ، في ظل حكم جمال عبدالناصر.
التقدير الأدبي، من حيث الكتابات النقدية الأساسية عنه، تمت في مصر الناصرية، لم يحدث مثلها لا في مصر الملكية، ولا مصر التي جاءت بعد عبدالناصر.
تحويل أعماله الأدبية الي السينما والمسرح والاذاعة والتليفزيون، كان عصرها الذهبي في زمن جمال عبدالناصر، وبعده بدأ التراجع في تناول أعماله، «هل مازالت الناس تذكر أنه حتي أولاد حارتنا - التي يقولون إنها كانت ممنوعة - قد تم تحويلها الي مسلسل اذاعي في اذاعة صوت العرب في الستينات؟» حصل علي أرفع الجوائز. ووصل الي أعلي ما كان متاحا لموظف في مثل وضعه في دولة عبدالناصر. بل لا يمكن القول الآن إنه تعرض لأي مضايقات من أمن جمال عبدالناصر - حتي عندما ذهب بنفسه - الي سيد قطب في داره بحلوان، يزوره. وكان سيد قطب - في ذلك الوقت - من أعدي أعداء دولة عبدالناصر.
لكل هذا. لابد من الكلام عن نجيب محفوظ وجمال عبدالناصر.
فترة صمته التي يسميها فترة اليأس الأدبي من 3591 حتي 9591. ماذا عنها؟
.. هيكل: نجيب محفوظ كان قد انتهي من كتابة الثلاثية في سنة 1953، وإن كان يتكلم عن فترة صمت، فقد كتب بعدها، أي أنه كان صمتا مؤقتا. وربما يكون صمت الأديب وسببه أنه يفكر ويتأمل.
هل كان جمال عبدالناصر يقرأ له..؟
.. هيكل: بالطبع كان جمال عبدالناصر يقرأ له.
هل ناقشت جمال عبدالناصر في قراءاته لنجيب محفوظ؟
.. هيكل: لا أظن اننا تناقشنا في هذا الأمر، وأنا أخشي الآن وأنت تسألني هذا السؤال، وأنا أحاول أن أجيبك عنه أن يحصل تداخل بين آرائي وبين آراء جمال عبدالناصر حول نفس الموضوع، خاصة بعد هذه الفترة الطويلة التي مرت. هنا أنا لا أريد أن أنسب كلامي الي جمال عبدالناصر، أريد التفرقة بين ما قلته أنا وما قاله جمال عبدالناصر ذات يوم. إن الأمر يدور حول الأمانة التاريخية أساسا، وما أقوله هنا علي أنه كلامي أنا أساسا يصبح كلامي أنا، وعندما يكون هناك كلام قاله جمال عبدالناصر أنسبه اليه بكل وضوح ممكن.
عندما جاءني توفيق الحكيم، واقترح علي أن نضم نجيب محفوظ الي الأهرام، طلب نجيب محفوظ أمرا واحدا، الانتظار حتي يصل الي سن الاحالة الي المعاش، أي عندما يصل الي سن استحقاق المعاش الكامل. وأنا لم أكن أتصور هذا لأننا كنا سنعطيه مرتبا في الأهرام أكبر بكثير من الذي كان يحصل عليه في وقته. سألت نفسي: أي معاش يمكن أن ينتظره هذا الروائي المهم؟!
هنا توجد مسألة مهمة جدا. وهي التعرض للتأثير الأوروبي والتأثير الغربي. ذلك أن الحضارة العربية والاسلامية عندما اعترضتها العصور المملوكية والعثمانية أوقفتها بشكل أو بآخر أيضا، وهذا جري علي مستوي العالم كله - لكي نستأنف مسيرتنا الثقافية في المكان الذي نوجد فيه، لابد وأن نتصل بالعالم. إما عن طريق الذهاب اليه أو الاتيان به، وثقافاته وحضارته وكتبه الي حيث نحن.
توفيق الحكيم ذهب الي الغرب وبقي فترة هناك في قلب الحضارة الغربية، وطه حسين فعل نفس الشيء، ولكن نجيب محفوظ بقي هنا، لم يتعرض سوي للتأثيرات المحلية. توفيق الحكيم كان يقول: أنا ونجيب محفوظ مثل النمل نحفر تحتنا، وأنت تطير مثل النحل، إحدي مزايا نجيب محفوظ الجوهرية هي المحلية والارتباط بالمكان والناس.
وعلاقة جمال عبدالناصر مع نجيب محفوظ؟!
.. هيكل: بالنسبة لعلاقة جمال عبدالناصر مع نجيب محفوظ. أنا لا أتصور أنها تقدمت لأية مسافة الي الأمام. لم تمش الي الأمام. لقد قرأ له جمال عبدالناصر، واهتم بما نشرناه نحن له في الأهرام وقرأه.. »أولاد حارتنا« عملت مشكلة. لابد من التأكيد علي موقف مبدئي ان جمال عبدالناصر لم يخطيء فيه هذا الميدان. كان موقفه المبدئي أن أي كاتب يكتب عملا أدبيا ينشره له، أو علي الأقل لا يقف ضد نشره بأي حال من الأحوال، ومهما كانت الأسباب.
عندما بدأنا في نشر «بنك القلق» القصة التي كتبها توفيق الحكيم في نقد دور المخابرات من الذي غضب؟! لقد كان عبدالحكيم عامر هو الذي غضب، واتصل بجمال عبدالناصر واشتكي، وقال ان العمل فيه كلام غير معقول، والرئيس اتصل بي. قال لي أنا لم أقرأ الحلقة التي نشرت من «بنك القلق» وكانت قد نشرت حلقة واحدة منها فقط، وكانت الحلقة الثانية علي وشك النشر، وكانت تنشر مسلسلة في الأهرام الاسبوعي، الذي كان يصدر يوم الجمعة من كل اسبوع.
عبدالناصر قال لي ان عبدالحكيم متضايق جدا من هذا النص، وقد اتضح بعد ذلك أن صلاح نصر، كان هو الذي قرأ الحلقة الأولي من «بنك القلق» وتكلم مع عبدالحكيم عامر، الذي غضب أكثر مما ينبغي بناء علي كلام صلاح نصر.. اتصلت بعبدالحكيم عامر فوجدته في حالة ثورة وغضب، ثم طلب مني الرئيس عبدالناصر الذهاب اليه ومعي الحلقة التي نشرت، وقال لي ان عبدالحكيم عامر سيكون عنده عندما أذهب اليه.
قرأ الحلقة الأولي التي كانت سبب غضب وثورة عبدالحكيم عامر. لمح ما فيها من أول فقرة، وأكمل القراءة ثم توقف بعد عمود ونصف.
توقف ونظر الي عبدالحكيم عامر، وقال له متسائلا:
إذا كان توفيق الحكيم قد نشر يوميات نائب في الأرياف وقت الملكية، ألا يستطيع نشر «بنك القلق» في وقت الجمهورية؟! هذا رأيه ومن حقه أن يقوله. لابد أن تنشر كاملة بدون أي حذف.
وهنا افتح قوسا وأقول ان توفيق الحكيم قد قدم لي هذه الرواية، وهو يتصور أنها لن تنشر. كنا نجلس في مجلس تحرير الأهرام وهو كان معنا. جاءني، وقال لي:
خذ اقرأ دي. بس دي مش للنشر. أنا بجرب شيء معين في الكتابة. انها كتابة لنفسي وليست للنشر أبدا.
قرأتها، وقلت له:
سأنشرها.
قال لي:
- لا. لا. لا تنشرها اياك أن تفكر في هذا.
قلت له:
- اسمع، ان كانت عندك شجاعة الكتابة فستكون عندي شجاعة النشر، وبدأنا النشر. وبعد الحلقة الأولي حدثت واقعة عبدالحكيم عامر وجمال عبدالناصر. وأكملنا النشر؛ لأن هذا كان قرار جمال عبدالناصر.
هذه قصة «بنك القلق». فماذا عن قصة «أولاد حارتنا»؟!
.. هيكل: نجيب محفوظ أعطي أولاد حارتنا لعلي حمدي الجمال، حيث كان نجيب محفوظ يزور علي حمدي الجمال باستمرار في مكتبه، وكان علي الجمال مدير تحرير الأهرام في ذلك الوقت، وقد أعطاه رواية أولاد حارتنا في سنة 1959.
علي حمدي الجمال لم يقرأ الرواية؛ لكنه قال لي ان نجيب محفوظ وهو يعطيها له طلب منه قراءتها بشكل جيد وبعناية، وأضاف الجمال:
يبدو أن في الرواية لغما ما.
أخذت الرواية وقرأتها. أحضرتها معي الي البيت؛ لأن جو المكتب قد لا يساعدني علي قراءة الرواية، وأدركت مغزي تحذير نجيب محفوظ لعلي حمدي الجمال. استقر رأيي علي النشر. تصورت من البداية أن بعض رجال الدين قد يحاولون وقف نشرها. لكل هذا. قلت سأنشر هذه الرواية بصورة يومية، وكانت هذه هي أول مرة تنشر فيها رواية يوميا.
ألم ترجع لجمال عبدالناصر قبل النشر؟!
.. هيكل: لم أجد سببا يدعوني لسؤاله. هذا عملي وأنا أمارسه. كنت متأكدا أن أحدا - خاصة من رجال الدين - لن يتمكن من التنبه لأهمية الرواية إلا متأخرا، وهذا ما جري فعلا عندما نشرت الحلقة السابعة عشرة. خلال النشر وتحرك رجال الأزهر وأطلقوا طلقاتهم. الضجة قامت والدولة دخلت فيها ونحن كنا قد وصلنا الي الحلقة العشرين.
- إذن لم يبدأ النشر اسبوعيا، ثم تحول الي يومي بعد حدوث الأزمة وتفاقمها؟!
.. هيكل: بدأنا النشر يوميا من الأول؛ لأنني كنت مقدرا حدوث الأزمة منذ البداية. لم أكن أريد أن يتمكن أحد من وقف هذه الحلقات.
هل كنت تتوقع المدي الذي وصلت اليه الأزمة من قبل؟
.. هيكل: في الحقيقة لا. كان عندي فقط بعض القلق، لم أكن أتصور أن يصل الأمر الي هذا المدي الذي وصلت اليه.
قلت نعمل تجربة جديدة في النشر، حتي نري ان كانت الرواية ستشد القاريء أم لا. من خلال النشر بهذه الطريقة الجديدة كنا ننشرها في الصفحة السابعة، أكثر قليلا من ثلث صفحة. بعد الحلقة السابعة عشرة وحتي الحلقة العشرين انقلبت الدنيا والأزهر أصدر بيانات، والدنيا انقلبت.
تحدث معي الرئيس عبدالناصر. سألني:
إيه الحكاية؟!
وكان الرئيس قد قرأ بعض الحلقات.
قلت له:
- أنا كنت مدركا لكل المحاذير قبل النشر، لكن هذه رواية لنجيب محفوظ.
يكمل الأستاذ هيكل:
- وعلي أي حال سوف ينتهي النشر خلال أيام.
ثم جاء قرار الأزهر بعد ذلك، وانطبق القرار علي طبعها في كتاب وليس علي النشر مسلسلا في الأهرام. الذي كان قد تم في ذلك الوقت، ولم نكن نحن طرفا في قرار الأزهر، ولم تكن لنا صلة به.
- قال لي نجيب محفوظ ان جمال عبدالناصر أرسل له حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس، وقال له من الأفضل نشر هذه الرواية في كتاب خارج مصر!
.. هيكل: في حد علمي فإن الدكتور سيد أبوالنجا هو الذي اتصل بنجيب محفوظ بعد ذلك من أجل نشر الرواية في بيروت؛ لأن دار المعارف كان لها فرع هناك، وكانت لها صلات بدور نشر كثيرة في بيروت، وكانت تابعة للأهرام في ذلك الوقت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.